«شمس على نوافذ مغلقة»… ليبيا تتحرر من الصمت
سعيد خطيبي
عسكرياً، تكون الثورة الليبية قد انتهت قبل أكثر من خمس سنوات من الآن، وانطلقت بعدها ثورة أخرى، ثورة صامتة، ما تزال مستمرة، لكن نادراً ما ننتبه إليها، هي ثورة الحريات. ثورة استعادة العقد الاجتماعي الضائع، ثورة تحرير الفرد من ورطتي التخويف والترهيب. لقد قضى الليبي أكثر من أربعة عقود تحت سلطة اللون الواحد: الأخضر، خاضعاً للصوت الواحد، للقرار الواحد، للذوق الواحد، للزعيم الواحد، عاش الليبي طويلاً في ديكور أشبه بديكورات السوفييت، في سبعينيات القرن الماضي، حيث عدد حرس النوايا يتجاوز عدد المواطنين، وحيث الاختلاف يعتبر جريمة. في تلك المرحلة العصيبة، كانت بعض الأصوات تُحاول، بخجل، كسر عصا الطاعة، والخروج إلى نور العصيان، والانقلاب على ممارسات الزعيم وموظفيه الكثر، لكن غالباً ما كانوا يُضطهدون، في الداخل، بدون أن يسمع عنهم أحد، في الخارج، أو يضطرون لاختيار المنفى، في الخارج، مما يعزلهم عما يحصل في الداخل.
في ليبيا ما قبل 2011، كان الوهم سيداً والخديعة قانوناً، كان التوجه العام يفرض أن يتخلى الفرد عن حريته لصالح الحريات العامة، لكن الوضع بدأ في التغير، في السنوات الأخيرة، فهم الليبيون، أو بالأحرى الغالبية منهم، فهمت أن الحرية كتلة واحدة، هي حريات، هي صيغة جمع وليست صيغة مفرد، هذه الحقيقة سنجد سنداً لها في كتاب «شمس على نوافذ مغلقة»(مؤسسة أريتي، دار ف للنشر، طرابلس، لندن 2017)، وهو أنثولوجيا ضمت مختارات لعدد من الكتاب الليبيين (شعراً وسرداً)، حررها كل من خالد المطاوع وليلى نعيم المغربي، القاسم المشترك بينهم أنهم كلهم كتاب شباب، والنصوص الواردة في الأنثولوجيا كُتبت في السنوات الخمس الماضية، أي بعد الثورة، وسقوط العقيد ونهاية زمن الكتاب الواحد، الكتاب الأخضر.
ثم هناك قاسم مشترك آخر بين نصوص الأنثولوجيا، هو باكورات أصحابها، هي نصوصهم الأولى، جاءت في جلها طازجة، جريئة وشجاعة، مشبعة بأحلام الانتصارات الأولى، كتابات عرفت كيف تتخذ مسافة من الراهن السياسي للبلد، وما يعرفه من تشظ ومن صراعات ميدانية، هي كتابات قد نجد في بعض منها أحياناً ملامح «سذاجة»، أو عدم نضج، بحكم صغر سن الكتاب (بعضهم في أوائل العشرينيات)، لكنها كتابات صادمة، في أحيان أخرى، تعري هشاشة المجتمع الليبي، وتفضح تخاذله وتواطؤه مع «جلاديه» في بعض الأحيان.
النصوص الواردة في «شمس على نوافذ مغلقة» هي أشبه بلحظة تحرر بعد صمت طويل، كما لو أن الكاتب الليبي، في الداخل، كان يستعين بالصمت للكتابة، وأخيراً وجد مساحة له ليرفع صوته قليلاً، ويخبر الآخرين بوجوده. مساحات الصمت تظهر جلية في نصوص الأنثولوجيا، ذلك الصمت الطويل الذي أنجب شياطين القمع في المخيلة الليبية، ومنعها طويلاً من التفكير خارج إطارات رسمية. في وقت مضى، تحت حكم العقيد، كان الليبي لا يُكافأ بالضرورة على عمل يقوم به، بل يكفيه أن يُمارس صمتاً، أن لا ينطق ولا يكتب، كي ينال ما يريده من جزاء. وفهم كثير من الكتاب الليبيين هذه المُعادلة، فليس أفضل من الصمت كرد «آمن» على نظام كان يعد أنفاسهم ويحسب كلماتهم ويعاقبهم إن فكروا في معارضة المنطق العام.
واحدة من الثيمات التي ستتكرر في نصوص الأنثولوجيا هي الموت. فالموت يبدو ضيفاً دائماً على نصوص الشباب، في ليبيا، يسكن لاوعيهم، ويكرر حضوره، في نصوصهم، بشكل مباشر أو غير مباشر. لا يُقصد منه ـ بالضرورة ـ موت جسدي، لكنه موت فكرة ما لتخرج من رمادها فكرة أخرى. كما لو أن الموت هو نقطة البداية، هو علامة الانطلاق نحو البوح، هو الرفاهية التي يسير إليها الجميع. نشعر من قراءة بعض نصوص الكتاب أن بعض المبدعين خرجوا للتو إلى الضوء، كما لو أنهم عبروا نفقاً طويلاً، شاهدوا فيه أو سمعوا فيه عن كل أشكال الفظاعات، ليجدوا أنفسهم – أخيراً – في رحبة الحياة/ الكتابة، التي منحت لهم سبباً للانتقام مما عاشوه من ضيق أو مضايقات في السابق. سيكون من المجحف التوقف، عند نصوص الكتاب، بنقد صارم، أو التقليل من شأنها، بحكم أنها باكورات مبدعين في العشرينيات من العمر، وهم في مرحلة التشكل، لكن من المهم التوقف عند علامات بارزة، تستحق أن نقرأ لها، والأكيد ستجد مكاناً ناصعاً لها، في المستقبل، على غرار الروائي أحمد البخاري، الذي نُشر له في الأنثولوجيا نفسه، مقطع من روايته المثيرة «كاشان».
أحمد البخاري يسرد الوقائع كما يراها، بدون تجميل ولا لعب على المجاز، بلغة عامية عارية، تسمي الأشياء بمسمياتها. في الفصل المنشور من روايته، في الكتاب، تظهر ليبيا الخفية، بشوارعها المكتظة بأوهام مراهقين وخيبات نسائها، سيُطالع القارئ بعضاً من عوالم الظلام في بيوت البرجوازية الجديدة، في البلد. يتحدث الكاتب عن تجارب شخوصه ـ التي تتقاطع مع تجارب شباب ليبيين ـ في الحب والجنس والطموح والانهيار، لا يبحث الكاتب عن لغة معجونة لكلماتها، ولا عن أسلوب له، بل يكتب مثلما يتكلم ومثلما يسمع الحكايات في الشارع أو في البيت. أحمد البخاري يقدم بورتريه مكثفا لليبيا اليوم كما يراها، أو كما يعتقد أنها يجب أن تكون، بواقعيتها وخطاياها أيضاً.
الشاعرة أمل النائلي تقتبس من النص القرآني لتكتب شعراً، وتصل إلى قناعتها: «وإن كان على أرضي حرب، سيبقى في قلبي ألف حب وحب وحب» ثم تخاطب قارئاً أو مواطناً لها: «في الحقيقة أنت لست أعمى، لكنك تعيش في وطن أعمى وأبكم وأصم». في قصة «آمنة» تحكي أنوار الجرنازي قصة امرأة عجوز، تربت في كبرياء، لتجد نفسها، لاحقاً، في عوز، تصير متسولة، ثم تبتكر لنفسها حرفة غريبة: بيع الدعاء، ترسل دعوات للمتصدقين حسب عدد الدنانير التي يدسونها في يدها المرهقة. ستموت آمنة في خفاء، في صمت وتواطؤ مع وحدتها، بدون أن يسمع عنها أحد، لكن من هي «آمنة» التي تقصدها الكاتبة؟ أليست هي كل هؤلاء المهزومين، الذين كلما اعتقدوا أنهم نهضوا من سقطاتهم، تملكهم شعور بالضعف والعجز أمام واقعهم! كما لو أن الكاتبة أنوار الجرنازي لم تكن تؤبن شخصية قصتها آمنة، بل كانت تؤبن خساراتنا، التي حولتنا إلى متسولين للأدعية، للشفقة، وجعلت منا طامعين في قوى خفية تخرجنا منها. في قصة «نوري ونافذتي» تكتب نجوى وهيبة عن أقدار امرأة ليبية، مفروض عليها العيش في المحيط الضيق، من البيت إلى المدرسة، أن تظل حبيسة «الحشمة» المُبالغ فيها، أن تظل تابعاً، ولن تبلغ تحررها سوى لحظة زواجها، هذا إن أسعفها الحظ في زوج متفهم، يصير لها نافذة وسبباً في فتح عينيها، في اكتشاف مدينتها وما حولها، إنها تحكي عن أقدار المرأة العربية عموماً الخاضعة لسلطة الأب أولا ثم سلطة الزوج، لا ترى العالم سوى من أعينهما.
نصوص مهمة لشعراء وقصاصين، وردت في الأنثولوجيا، تستحق أن نتوقف عندها، لكتاب شباب: المكي أحمد المستجير، راوية الككلي، ربيع بركات، فيروز العوكلي وغيرهم، إنها نصوص تعبر عن زمن ليبي جديد، عن لحظة التحول الأكبر، تحمل «هوية أدبية» جديدة للبلد، تخلصه من ترهلات الحقبة القذافية، وتضعه على خريطة التجارب الإبداعية، هي نصوص متحررة من سلطة الرقيب، تقدم طفرة، ننتظر الشكل الذي ستتكمل عليه، في المستقبل القريب.
(القدس العربي)