كيف يتشكّل المعنى؟: من ثنائية العلامة إلى الإنتاجية التي تعمل بقوّة التناص

عبد اللطيف الوراري

ما من شيء قد أشكل تعريفه على العلماء بأحوال الكلام مثل المعنى، فالغالب أن يقال إنّ المعنى هو ما يرتسم في ذهن المتكلم أو السامع، من صور وأفكار يحيل إليها القول. ويبدو لنا أنّ مفهوم المعنى لا يمكن أن يتّضح إلا بتحديد موقعه من العلامة اللغوية، حقيقةً أو مجازاً.

دال ومدلول

لم ينقطع الجدل حول علاقة اللفظ بالمعنى عبر تاريخ الفكر الإنساني، لكن العلاقة بين العلامة والمعنى لم تُطْرح بوضوح إلا بعد القرن التاسع عشر؛ بحيث عرفت نظرية المعنى تطوُّرا كبيرا في فلسفة القرن العشرين واتجاهاته الأدبية، كردّ فعل على النزعة النفسية التي انتشرت قبلئذٍ من جهة، وضدّ التعليم النّفساني للمعنى في الأدب من جهة أخرى. وكانت الأولويّة تُعطى للمعنى أو الدلالة، سرعان ما انتقلت إلى أولوية العلامة، ومن خلالها تبدّلت أوضاع المعنى بين الاصطلاح والرمز في سيرورة التّأويل.
وقد مثّلت نظرية فردينان دو سوسير في اللغة نقطة انطلاق للبنيوية اللغوية، ثم البنيوية الأدبية، بل إن المدارس النقدية بعد البنيوية، حتّى في تمرُّدها على بعض مقولات سوسير، جاءت تطويرا لنظريته المؤسِّسة التي لم تغفل نظرها عن المعنى في تصوره للعلامة اللسانية المكونة من دالّ ومدلول. ويكفي أن نذكر أنّ بنيوية كلود ليفي ستراوس أفادت من لسانيّات سوسير، وصاغ جاك لاكان حدود الحلم من منطلق الثنائية السوسيرية؛ فالحلم عنده كيانٌ مبنيٌّ باعتباره لغةً ويشتغل كما تشتغل اللغة، كما لا يمكن فهم تصوُّر رولان بارت للأدب خارج حدود اللسانيات التي تشكل مادّته الأساسية، ولا فهم إميل بنفينيست للخطاب. كما ليس بوسعنا أن ندرك تفكيكيّة جاك دريدا وتصوره للمعنى ولانهائيّته بدون العلاقة بين الدال والمدلول.

هل يوجد شيء اسمه المعنى؟

قامت البنيوية في مراحلها الأولى بتصوُّر إمكان قيام نظام أدبي يتيح وصفا بنيويا لكلّ نص من النصوص التي يمكن قراءتها بطرق شتّى. ويضمُّ كل نص في ذاته إمكانية مجموعة هائلة ولا نهائيّة من البنى التي يتمُّ تمييزها، بدراسة السيرورة التى يتمُّ بها إنتاج المعنى، باعتبارها سيرورةٍ تحكمها القواعد، أو تعبيرا عن لون من «الكفاءة الأدبيّة».
بموازاةٍ مع ذلك، ذهبت الشكلانية إلى أنّ العلامة في الكلام العادي أو العلمي يعتبر مجرد لافتة شفّافة عن المعنى أو مجرّد علامة دالة عليه. فحين نتمكن من المعنى ينتهي دور الدليل ويضمحلّ أو يتلاشى وينسى في المقاصد التواصلية. مع هذا الوضع تختفي الكلمات التي تستبعدها المعاني في التواصل، إلا أن الأدب، والشعر بوجه خاص، يعدل عن هذا الاستعمال للألفاظ، ويسير بها في اتجاه إكساب الدليل استقلاليته إزاء المعنى. الكلمات هنا لا تحيل إلى المعاني بل تحيل إلى نفسها، مكتسبة وجودا ماديّا مدركا وملموسا: لا تعود الدلائل مجرّد ظلٍّ وإنّما تصبح بالأحرى شيئا. والواقع أن اللغة لا تتحقق بكامل ثقلها إلا بفضل هذه الممارسة الشعرية؛ وهذا يعني من الزاوية الأخرى أن العلامة لا تتنكّر فقط للمعنى، بل لكل العناصر المساهمة في العملية التواصلية، بما في ذلك الباث والمتلقي والقواعد والقناة، إلخ.
وقد لطّف رومان ياكبسون من غلواء هذه الدعوى، وهو يرى أن الشكلانية لا تتنكَّر للمعنى وباقي العناصر، ولكنها تزعم – فقط – أن هذه العناصر لا شأن لها بأدبيّة الأدب؛ بل إن ياكبسون نفسه تجاهل المعنى في التقويم الشعري، إذ يتأرجح موقفه فيه بين قطبين؛ فهو يرفض تارةً أن يكون للنص الشعري معنى، وتارةً أخرى يزعم أن هذا المعنى لا يهم عالم الشعرية ولا دور له في تمييز الأدب والشعر. ولم يكن موقفه من ذلك إلا ردّة فعل ضد النقد الدوغمائي الذي يعتبر النص الشعري حاملا للرسالة شأنه شأن النص النثري. وقد اختصر ياكبسون الملمح المميز للأدب في ما سماه الوظيفة الشعرية التي عرّفها بعبارته الشهيرة: «تسقط الوظيفة الشعرية مبدأ التماثل لمحور الاختيار على محور التأليف»؛ وهو لا يعني أنّ المحور هو الذي يتمّ إسقاطه، فهذا الأمر لا معنى، بل إنّ مبدأ التماثل الذي يتحكم في الاختيار، يتحكم عندئذٍ في محور التأليف ويمنحه تلك التعدُّدية في المعنى، التي يتّسم بها النص حين تسود الوظيفة الشعرية.
والحقيقة أنّ محاضراته حول «الصوت والدلالة» لم تكن محاضرات دعائية إطلاقا، بقدر ما كانت هذه المحاضرات مدخلا نقديّا للأفكار الشائعة حول الأصوات وأثرها في المعاني، وهو ما كانت اللسانيات في ذلك الوقت بحاجة إليه. فمن خلال هذه المحاضرات تشكلت القاعدة الحقيقية للسانيات البنيوية خلافًا للاعتقاد السائد حول وجود تلك القاعدة في محاضرات دي سوسير. وقد أثبتت محاضرات ياكبسون أن آراء سوسير لم تكن قيمة في ذاتها، وإنما في طابعها التجريبي الذي يسمح لغيره بأن يأخذها، ويعمق البحث فيها، ويطورها تطويراً يبرهن على صلاحيتها للتطبيق. وفي هذا السياق، يؤكد فرانسوا راستيي أن النص الذي لا يتوافر على قارئ أسمى، فإنه بالضرورة لا يشتمل على معنىً حقيقيّ. وإذا كانت هذه المسلّمة هي ما يميز علم الدلالة عن التقليد الفيلولوجي وعن التساؤلات الصّميمة للهرمنطيقا، فإنها لا تقلل من مصداقية علم الدلالة. هناك معنى يحاول اللسانيون البنيويون أو الشكلانيون الحفاظ عليه بأيّ ثمن. إنهم يقترحون النظر إلى النص باعتباره مجموعة من الإرغامات الخاصة بإنتاج المعنى (من طرف كاتبه أو قرائه)، وعلى علم الدلالة – في نظره- أن يدرس ويرتب القراءات الوصفية المتطابقة مع هذه المبادئ ومع المبادئ الأخلاقية للفيلولوجيا، شأنها في ذلك شأن القراءات المنتجة الصادرة عن أهداف أخرى.
وقد ساهمت البلاغة الجديدة، ابتداءً من نظرية الانزياح لجان كوهن، في النهوض بـ«المعنى»، ولا يعود ذلك إلى توسُّلها بمفاهيم من نوع «المعنى الحقيقي» و«المعنى المجازي»، بل إلى تأويلها للعلاقات بين مختلف المعاني المتفاعلة في اللغات الرمزية، ثمّ إلى منهجتها للعمليات المنطقية أو الدلالية المنتجة للاستعارات. ومن خلال تقطيع مزدوج )مرجعي/دلالي( ومن إجراءين بسيطين )إلحاق/حذف(، عمدت جماعة مو البلاغية بدورها إلى تصوُّر «رحم مجازي» قابل للتطبيق على مجالات أخرى غير مجال الكلمة، وهي المحكيّ والقصيدة وبنية الشخصيات والدليل الأيقوني والدليل التشكيلي إلخ. وابتدع ميكائيل ريفاتير مفاهيم لعلّ أكثرها أصالة «السياق» و«التسنين»، عدا عن «الوحدة الأسلوبية» التي لا توجد بالنسبة إلى معيارٍ لسانيٍّ خارجٍ عن النص، بل ما يُنتجها هو العلاقة بين سمة مفارقة ما وسياقها المباشر. ولا يتخذ تصوُّر ريفاتير النص مُجرَّد ذريعةٍ، وإنّما يدرسه في ديناميّته، أي في سيرورة قراءته. بعبارةٍ أخرى، يهتم بتوضيح سيرورة تشكُّل ليس الجملة فحسب، بل النص كذلك، منطلقا من معطى دلالي أوّلي تتمُّ معالجته وفق قواعد تختلف عن قواعد الخطاب العادي.

اشتغال المعنى في الخطاب

صحيح أنّ هذه الاتجاهات الجديدة لا تتجاهل المعنى كما فعل الشكلانيون الرُّوس، رغم كل ادِّعائهم بعكس ذلك، ولا تأخذ ذلك المعنى كأمر مُسلَّم به، كما فعلت البنيوية في بداياتها دون أي ادّعاءات بعكس ذلك، بيد أنها رغم اهتمامها المحوريّ ببنية المعنى ظلّت نقداً شكلانيّاً في تركيزه الواضح على قضايا البناء والوحدة والكلّية والاستقلالية والمفارقة، وكلّها تدخل بالقطع في صميم بنية المعنى، لكنّها تظل معزولة عن الخارج الذي نسيت الإحالة عليه. وما كان ليتمّ ذلك لولا العمل على فضّ البنية المغلقة عبر استراتيجيّة الخطاب. وقد ساهم إميل بنفنيست في هذا الاتّجاه، وهو يتجاوز حدود الجملة بانفتاحه على نظرية التلفُّظ، قائلاً: «لقد غادرنا مجال اللغة كنظامٍ للعلامات، وولجنا مجالاً آخر، حيث اللغة أداة للتواصل نُعبِّر عنه بواسطة الخطاب».
وقد سمحت الدراسات التي صاغها حول اشتغال دالّ الذات داخل اللغة بفهم كيف تشتغل الحداثة. الدالّ، هنا، اسم الفاعل لفعل دلّ. ولا يؤخذ المصطلح بالمعنى اللساني المعتاد للصورة السمعية ، كما يقول سوسير، بل بالمعنى الذي يكون فيه، بالنسبة إلى الشعرية، باثّاً للدلالية التي تتجاوز الدليل المعجميّ للكلمات من خلال آثار تداعيها مع دوال أخرى. وتعكس الذّات، غير ما مرّة، القيم التي تؤسسها على الموضوع الذي يتبدل لما تتغيّر الذات.
داخل نظريّة الإيقاع التي جعلها بنفنيست ممكنة، يُجْري هنري ميشونيك تحويلاً لافتاً لمفهوم المعنى بوصفه فعّالية في الخطاب، لا مستوى، ولا مقولة كما في التقسيمات التقليدية. في تحليل ميشونيك يصعب أن نفصل بين تصوُّره للإيقاع وتصوُّره للمعنى، ويظهر ذلك في قوله: «مثلما لا ينفصل الخطاب عن معناه، لا يُقبل أن يُفْصل الإيقاع عن معنى هذا الخطاب. إنّ الإيقاع هو تنظيمٌ للمعنى داخل الخطاب )…( ويمكن للإيقاع داخل الخطاب أن يحوز أكثر من معنى غير معنى الكلمات، أو معنىً آخر».
كما أنّ للإيقاع والمعنى علاقات بالذّات، ذات التلفُّظ؛ إذ لا إيقاع ولا معنى إلّا عبر الذوات ومن خلالها، لأنّ ذلك ما يجعل الإيقاع يتحرر من مجال العروض، والمعنى من ثنائية العلامة.
من هنا، أعادت شعرية الإيقاع بناء المعنى بقدر ما أنها حرّرت المتواليات الصغرى كما الكبرى داخل الخطاب، لأن ما يهمّ هنا، هو طريقة بلوغ المعنى وليس المعنى، فالبحث عن المعنى بمفرده مستقلّاً عن طريقة بلوغ المعنى، أو عن البنى، هو البقاء سلفاً في مستوى العلامة.

الإيقاع ليس علامة

في نقاشه المسألة الدلاليّة، يتبنّى تزفيتان تودوروف المقاربة النصية غير المتغافلة عن المعاني الثواني والانتظام الدالّ للخطاب، وهو يجيب عن السؤالين: ما هي الكيفية التي يدلُّ بها النص؟ وعلام يدلّ؟ بعدما لاحظ الإهمال الذي تعرض له المستوى الدلالي في الدرس اللساني الحديث. ولهذا، رأى أنّ مهمة شعريّته ليست حلّ هذه المعضلة، وإنّما لمّ شتات الموضوع قصد تقريب الإشكاليّة.
تهتم المقاربة في تحليلها الدلالي، إلى جانب صيرورة الدلالة في وضعها داخل جداول الكلمات، بعنصر الترميز في الملفوظ داخل التركيب، الذي يُعنى بعلاقة المدلولات بذاتها في وضعها التركيبي، ويأخذ وجوده من مصدرين اثنين: الأول من النص ذاته، والثاني قد يتعلق بتفسير ما شاع للكلمة من معنى. علاوةً على المظهرين الحرفي والمادي للدلالة، يلمح تودوروف إلى أهمية المظهر المرجعي لأنه يشكل الجزء المهيمن في الدلالة، بل بفضله يستطيع ملفوظٌ ما الارتباط مع واقع هو الآخر خارجي.
في كتابه «الأدب والدلالة»، ينتقل تودوروف بالدلالة إلى مستوى آخر من النقاش وهو يقترح تعريفاً للإيحاء/ التضمين مرتبطا بشكل مباشر بفكرة التناصّ كما وجده عند ميخائيل باختين، وهو يرتبط بفكرة انتقال المعنى من نصّ إلى آخر، ومن عملٍ أدبيّ إلى آخر. وقد اضطلع التضمين بدور استراتيجيٍّ في تطوير الدراسات النصية داخل التيار البنيوي، إذ سمح – مع تقيُّده بالنظام الخطّي للنص- بمواجهة هذا النظام بتنظيم آخر للمعاني يتمفصل على مفهومي «التناصّ» و«الإنتاجية».
فمن جهة، يدافع رولان بارت، في كتابه S/Z، عن التضمين الذي هو «الطريق المؤدّي إلى تعدد معاني النص»، ويقترح أن كل نص هو نموذجه الخاص بقدر ما هو نظامٌ في حدّ ذاته، وأن النص لا يضمّ بنيةً وحيدةً يخصّه بها النظام الأدبيّ، كما لا يضمّ معنىً مُشفَّراً تمكننا معرفة الأسنْن الأدبيّة من فضّه. يقول بارت في مقدمة الكتاب: «إن الأسنن التي يستنفرها تنتشر على مدى البصر ولا يمكن الحسم في عددها (إن المعنى لا يمكن أبدا إخضاعه لقرار ما بقدر ما هو ضرب من الصدفة)؛ إن أنساق المعنى قادرة على تملك هذا النص البالغ التعدد، إلا أن عددها لا يمكن البتة أن يكون نهائيا، فهو يستند إلى لانهائية اللغة». ومن جهة أخرى، ترى جوليا كريستيفا أن النص الأدبي هو «إنتاجيّة» تستند إلى التناصّ: فالنص ليس بنية مغلقة، وهو يُنتج بالقوة قوانين كتابته الخاصة. وتنتمي عملية التناصّ المنفتحة على «النص التاريخي والاجتماعي» إلى اللغة المرجعيّة )العلاقات مع العالم( وإلى اللغة الإيحائية (العلاقة مع النص). وقد أكدت على انتقال الثقافة الأوروبية من ثنائية العلامة إلى الإنتاجية العابرة للعلامة من خلال نصوص مالارمي ولوتريامون وروسيل التي لا تنفلت من قبضة اللسان والخطاب والملفوظ، وبالتالي من قبضة المعنى، إلا أنها تُبنى من خلالها.
إنّ على القراءة أن ترتكز على الاختلافات بين النصوص، وعلاقات القرب والبعد، والاستشهاد، والرفض، والمفارقة الساخرة، والمحاكاة الهزلية، وهي علاقات لا نهائية تعمل على إرجاء أيّ معنى نهائي. فإذا كانت القراءة هي الرغبة في العمل الأدبي، فإن محاولة تملُّكه تبقى دوما مخيِّبة للأمل، لأن العمل الأدبي مُتعدّد المعاني في جوهره. وبالتالي، لا يستطيع أيُّ علم وأيُّ معجم تأدية معنى لا يوجد إلا في تعدُّديته.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى