الكثافة والمفارقة في نصوص ‘بين سطور المدينة’
تنتمي النصوص السردية للقاص الأردني خالد سامح، في مجموعته الجديدة “بين سطور المدينة”، إلى القصة القصيرة جدا، حيث يراعي فيها التركيز والتلميح والاقتضاب وقصر الجمل، إضافة إلى بساطة الأسلوب والتشخيص المباشر والتكثيف الموحي. وإذا كان العنصر المكاني بارزا بقوة في العنوان من خلال شبه الجملة الظرفية التي تتبعها إضافة المدينة إلى السطور، فإن حكايا القاطنين في المدينة هي التي تخط سطور الكتابة، وتختزل الكلمات لتصبح مركز إشعاع فكري وبوحا خفيا لا يدركه إلا من صهرته التجربة والحياة بانحناءاتها.
يجد القارئ في نصوص المجموعة، الصادرة عن دار فضاءات، ما لا يُقال على أرض الواقع، إنه المسكوت عنه من الكلام، ليلتقي العنوان مع طبيعة القصة القصيرة جدا الكاشفة عن عري الواقع، وتناقضاته، ونقد لسلوكيات الشخوص.
يجعل خالد سامح من الثنائيات اللغوية علامات دالة في قصصه تحتاج إلى قدر عالٍ من التأويل في عملية لا تنتهي، تبدأ برغبة في الكتابة، وتنتهي بفيض عالٍ من التأويل كما في قصة “إعدام” حيث يقول “تغوّطت حمامة على ميزان العدالة، فأطلق حارس المحكمة النار عليها”.
ويبقى المدلول هو الشغل الشاغل للمتلقي لإدراك الثقل التعبيري الذي يكتنزه النص المسرود، كما في سرده لأوراق مدينته الفاضلة “الخادمة التي تسللت إلى الحديقة لتمنح البواب قبلة على عجل، سمعت في طريق عودتها تأوهات سيدتها، في حين كان سيدها قد سافر أمس”.
وتحضر المفارقة في قصص خالد سامح لتخلق تناقضا في ذهن القارئ يحمله إلى البحث وراء المعنى، والغوص في دلالة الكلمات وصولا إلى الدهشة التي تجعل منه منتجا للنص.
إنّ المفارقة التي يُنهي بها الكاتب قصصه هي حياة يمنحها لما بعد الانتهاء من قراءة النص، إذ ينتهي النص بالقراءة ليبدأ التأويل، كما في سرده لأوراق مدينته الفاضلة “الفقيه الذي يفتي لطلابه بحرمة ممارسة العادة السرية، لا ينام إلا وصور مؤخرات النساء الصاعدات إلى الحافلة تداعب خياله”.
استطاع خالد سامح في قصصه القصيرة جدا ملامسة جوانب إنسانية مهمة في حياتنا المعاصرة تنفر من الحروب وويلاتها المستمرة، لكن بطريقته الفنية، مستغلا الإمكانيات المذهلة التي تمنحها القصة القصيرة جدا لكاتبها. كما نجح الكاتب في منح نصوصه بعدا واقعيا، دون أن يفقدها جماليتها الفنية، وخصوبة الفكرة المسيطرة عليها، محافظا على مقوّمات القصة القصيرة جدا وخصوصيتها البنائية.
(العرب)