‘العداء في حالة أموك’.. أن تطير بقدميك لتستقبل الموت

ابو بكر العيادي

لم ينل الكاتب النمساوي المجري ستيفان زفايغ (1881-1942) شهرته من أعماله المسرحية، رغم أنه ترك ثماني مسرحيات أمثال “ترسيتيس” و”بيت على حافة البحر” و”الكوميدي المتحول” و”خروف الفقير” و”نزوة بونابرت”، وهي أعمال نادرا ما عرضت على المسرح منذ تأليفها في بداية القرن الماضي، ولكن ذاع صيته بفضل نصوصه السردية العميقة، ذات المنحى السيكولوجي، التي درج المخرجون السينمائيون والمسرحيون على تحويلها إلى أفلام ومسرحيات ناجحة، وهي في عمومها قصص طويلة، يلتقط فيها إحدى الشخصيات المتفردة، ليسبر غورها ويحلل من خلالها سيرورة الإنسان في عالم يسوق بنفسه إلى الدمار.

من بين تلك النصوص التي استهوت رجال المسرح “أموك” وهي قصة كتبها زفايغ عام 1922 تحت عنوان Der Amokläufer أي “العدّاء في حالة أموك”، وأموك هي حالة من الهياج تصيب المرء فإذا هو كالمجنون، فصاحبها يكون في حالة غياب عن الوعي شأن مدخن الأفيون وتقوده إلى هلاك محتوم، وتعني لدى الماليزيين حالة انتشاء قصوى ليس لصاحبها بعدها غير العدم.

هذه القصة التي سبق أن حوّلها إلى السينما فيودر أوتسيب عام 1934، ثم جويل فارج عام 1993، أعدّها للمسرح الممثل الشاب أليكسيس مونكورجيه، حفيد الممثل الفرنسي جون غابان، ووقف على الركح في إهاب راوٍ مربك، يسرد حكاية لا ندري هل هي حقيقة أم خيال، أم ذكرى واقعة عاشها أو كان شاهدا عليها.

هي حكاية صراع بين كائنين متشابهين يضمران الكره لبعضهما بعضا، بين ضحيتين من ضحايا الحضارة تحاولان الحفاظ على ما تبقى لهما من حرية، إنسانين لامعين يدمرهما الجانب المظلم في شخصيتيهما.

كعادته في قصصه الأخرى، يبدأ زفايغ سرد حكايته بضمير المتكلم ليحدثنا عن حالة عاشها، أو مخطوطة وقعت بين يديه، أو حكاية غريبة رواها له أحد معارفه، أو شخص صادفه كما في هذه القصة، فالرواي كان عائدا إلى أوروبا على متن باخرة، وفي إحدى الليالي ضاق بمقصورته غير المريحة، فصعد إلى ظهر الباخرة.

هناك صادف رجلا مجهولا رجاه ألاّ يعلم أحدا بوجوده، ثم راح يحكي له حكايته، فإذا هو طبيب فقد كل شيء في أوروبا نتيجة الحرب، فهاجر إلى ماليزيا في مهمة، وهناك عاش ست سنوات بعيدا عن الحضارة، ولم يكن طوال يومه يرى غير “الصُّفْر” (أي الآسيويين) إلى أن زارته في بيته امرأة بيضاء محجبة، والتمست منه المساعدة.

بدت له متكبرة متعالية رافضة في البداية أن تفصح عن سبب زيارتها له، ثم أوحت إليه بنفس النبرة أنها حملت من عشيقها في غياب زوجها المسافر، وتريد أن تتخلص من حملها قبل عودته، دون أن يعلم بذلك أحد.

بعد قبول الكشف عليها، دون التخلي عن حجابها، عرضت عليه مبلغا كبيرا من المال، ولكنه طلب المزيد، وطلب أن تمكنه من نفسها قبل العملية، لأنه سيجازف بأخلاقيات المهنة، فتركته وانصرفت.

وما كادت تصفق الباب حتى أحس بالذنب، ومنذ تلك اللحظة، دخل في حالة “أموك” وسباق مجنون لتدارك أمره، لا سيما أنه فتن بها، وصار مهووسا بجسدها، غير أنها رفضت حتى أن تكلمه رغم محاولاته المتكررة، فجاءها حتى بيتها برسالة اعتذار يقترح فيها مساعدتها دون قيد أو شرط.

فردت “فات الأوان!” وقبل أن يعود أدراجه جاءه خادمها يستحثه لأمر عاجل، وقاده إلى حيث المرأة طريحة فراش قذر تنزف دما، ذلك أنها لما يئست منه، استجارت بامرأة صينية تدعي التطبيب فمزقتها شر ممزق.

أعادها الطبيب إلى بيتها بمساعدة الخادم، وظل بجانها كامل الليل، فرجته قبل أن تلفظ أنفاسها حفظ سرّها، كتم أمرها عن العشيق وطبيب العائلة، ولكنهما شكّا فيه، ورفعا أمره إلى الإدارة، فاضطر إلى الفرار وركوب الباخرة العائدة إلى أوروبا متخفيا.

وللدلالة على وفائه لتلك المرأة التي فتن بها حدّ الجنون، اعترف للراوي بأن التابوت الذي ترقد فيه المرأة موجود في الباخرة، وبأن مصير “الأموك” أن يقتل، ولما علم الراوي عند الرّسوّ بحادث جدّ على متن الباخرة التي جاء فيها، أيقن أن الطبيب رمى بنفسه في البحر مع جثة المرأة، ليمنع عملية التشريح الذي كان الزوج ينوي إجراءها على الجثة في أوروبا من جهة، ومن جهة ثانية لكي تظل معه إلى الأبد.

استطاع أليكسيس مونكورجيه والمخرجة كارولين دارناي أن يجسما المناخ الغائم الذي صاغه زفايغ في نص يصور العلاقة بين الحلم والواقع، بين الوعي واللاوعي، في فترة أعقبت الحرب العالمية الأولى، كان من سماتها تحولات قيمية واجتماعية ضبابية، لا يتبين فيها المرء الحقيقة من الوهم، وهو ما يفسر الحفاوة التي استقبل بها السرياليون هذا النص المربك.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى