الناقد العراقي فاضل ثامر وتموضعات التاريخي والسردي

نادية هناوي السعدون

أثبت الناقد فاضل ثامر في كتابه النقدي الجديد الموسوم «التاريخي والسردي في الرواية العربية» كيف أن التاريخ مادة لا غنى عنها للروائيين، لكي يمتحوا منها موضوعاتهم في صناعة سردية تنضوي ضمن المرحلة الراهنة، أعني مرحلة ما بعد الحداثة.
وقد ظل الناقد حريصا وعلى طول مشواره النقدي واختلاف أعماله النقدية على تقديم الرؤى واجتراح المفاهيم واضعا أمام الروائيين اقتراحات ذكية وريادية على طريق صناعة سردية تنضوي في إطار حداثوي مبتكر ومستجد. وهذا ما يجعل تنظيراته واشتغالاته برمتها بمثابة أرضيات معرفية تمهد الطريق باتجاه بناء قاعدة اشتغال سردي جديد يواكب الصناعة السردية العالمية.
وهذا ما واظب عليه الناقد في مختلف كتبه ومنها كتابه «التاريخي والسردي في الرواية العربية» محافظا على النهج نفسه، ومفصحا أن همه هو خدمة الروائي العراقي عبر توجيهه أو إرشاده إلى المنافذ الكتابية الجديدة في الرواية ما بعد الحداثية، كاشفا له غزارة التوجه السردي في توظيف التاريخ عموما والتاريخ الإسلامي تحديدا، لكي ينقب في أعماقه ويكشف عن مخبوءاته مستثمرا إمكانيات السرد الرحبة ومساراته الفضفاضة لإنتاج تاريخ جديد يحيا على خلفية إماتة تاريخ قديم.
وعلى الرغم من أن فاضل ثامر عدّ كتابه «التاريخي والسردي في الرواية العربية» إتماما لمشروعه التأليفي في كتبه النقدية السابقة، واستكمالا لما بدأه في كتابه «المبنى الميتاسردي في الرواية العربية»؛ إلا إننا نرى أن أهمية الكتاب وبراعة اشتغالاته النظرية والإجرائية تجعلنا نراه مشروعا قائما بذاته، وذلك لريادته النقدية العراقية، كونه اهتم بموضوع التاريخ في تعالقه أو تداخله بموضوع السرد، من زاوية منهجية تقوم على نظر مبدئي وتماس معرفي واستغوار قصدي، يتجاوز حدود الاشتغال الميتاسردي والمنهجية السوسيوشعرية.
صحيح أن الكتاب كما يقول فاضل ثامر: «إنما هو محاولة للإمساك بمظاهر التنوع والاختلاف والتشاكل في مشروع الروائي العربي الحداثي وما بعد الحداثي، لإقامة جسر افتراضي يربط الحاضر بالماضي، ويؤسس لمملكة سردية قادرة على مواجهة الزمن وتقديم بديل حداثي وما بعد حداثي للرواية العربية»، لكننا نجد أن الكتاب بشقيه النظري والإجرائي تجاوز حدود النقد الأدبي إلى منطقة النقد الثقافي، عبر اهتمامه بالرواية ما بعد الحداثية، التي تكون في تعاملها مع التاريخ واقعة في منطقة ما «بين الامتثال لفتنة التخييل كليا وإعلان القطيعة مع ما هو تاريخي ورسمي». ولهذا تعدى الكتاب الرؤية النصية إلى متعالقاتها من قضايا فلسفية وأنثروبولوجية ومعرفية، ومحطات أخرى لها صلة بالتاريخ والزمن والوجود والإنسان، وغير ذلك مما لا بد للناقد الثقافي أن يقف عنده.
ومن الآليات التي أسهمت في تحقيق الاستغوار الثقافي في الإجراء توظيف الناقد لمصطلح التمثيل، الذي هو من مفاهيم النقد الثقافي وكذلك مصطلح الميتاسرد، إلى جانب الآليات السردية المعروفة، مثل المفارقة الزمنية والمنظور وبنية المكان والفانتازيا وغير ذلك.
وكان الناقد عبد الله الغذامي في معرض محاورته للناقد عبد النبي اصطيف في كتاب «نقد ثقافي أم نقد أدبي» قد فرَّق بين التعاطي النقد أدبي والتعاطي النقد ثقافي، ممثلا بموضوع الجامع الأموي، فاصطيف وجد فيه مثالا حيا لوظائف الأدب ومنها الوظيفة الجمالية، لكن الغذامي تعامل معه من منطلق كونه جملة ثقافية، وليس جملة نحوية أو بلاغية، مهونا النسقية المعلنة للجامع الأموي، ومعليا أو كاشفا عن النسقية المخفية فيه مما هو مسكوت عنه شعبيا لا سلطويا. وهذا ما يريده الناقد الثقافي من الكاتب الروائي، بمعنى أن يوظف التاريخ لا بشكله الرسمي المزوق والثابت المدون، وإنما بشكله المحكي المتحرك مما هو مخزون في الذاكرة الجمعية الشعبية. وهذا ما اشتغل عليه الناقد فاضل ثامر، سواء أكان في تمهيده النظري الذي لم يسمه تمهيدا، وجاء تحت عنوان «التاريخي في رواية ما بعد الحداثة»، أم كان في العينات الروائية التمثيلية، التي انتقاها فاحصا لحظة تاريخية محددة من التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس، وهي لحظة سقوط الحكم العربي فيها. وما اختيار الناقد لهذه اللحظة إلا لكونها استقطبت اهتمام الروائي العربي في الأصل، ودفعته إلى صنع أبنية سردية متعددة للشخصيات والمكان والزمان.
وقد يلمس القارئ في ختام التمهيد الثر والغني بالطروحات الغربية والعربية بعض الانحياز إلى الروائي الذي يكون «مؤيدا الالتزام الأدبي والنظرة الثورية الواقعية» من خلال إحلال تاريخ المهمشين والمسحوقين محل التاريخ الرسمي المزور.. لكن ذلك الانحياز لا يأتي إلا في إطار انفتاحي يضع ممهدات قراءة «ما هو مسكوت عنه من أنساق مغيبة ومدفونة تحت ركام ثقيل من أكاذيب وتضليلات المدونات الرسمية الصفراء».
ركز الناقد فاضل ثامر كثيرا على الميتاسرد من الناحية الاصطلاحية، مجترحا للرواية التي تتناول التاريخ مصطلح «رواية الميتاسرد التاريخي» أو «الرواية الميتاسردية التاريخية»،
وسبب هذا الاختيار الاصطلاحي عنده أمران: الأول هو ما شهدته سبعينيات القرن الماضي من انعطافة الرواية نحو التاريخ، وصعود اتجاهات ما وراء الرواية أو الميتاسرد التي «تكشف عن وجود نص حكائي أو سردي.. الإفادة من الوثيقة أو المخطوطة التاريخية، لذا وجد التاريخ طريقه بسهولة وشرعية حداثية وما بعد حداثية إلى قلب الفعل الروائي».
والأمر الآخر أن الاشتغال التاريخي ـ برأي الناقد فاضل ثامر ـ هو رديف الاشتغال الميتاسردي، ولذلك يعول كثيرا في تثبيت دعائم المصطلح على كتابه «المبنى الميتاسردي في الرواية العربية» الذي كان قد تضمن تعريفا للميتاسرد بأنه «وعي ذاتي مقصود بالكتابة القصصية أو الروائية، يتمثل أحيانا في الاشتغال على إنجاز عمل كتابي، أو البحث عن مخطوطة أو مذكرات مفقودة».
ولو عدنا إلى كتاب «المبنى الميتاسردي..» لما وجدنا إشارات إلا قليلة إلى التاريخ أو السرد التاريخي، ومن ذلك مثلا وقفة نظرية مبتسرة عند فحوى المتخيل، والرواية التي ينشغل فيها البطل المركزي بالعالم الخارجي، ولكن وعيه الذهني يظل مشغولا بعملية صناعة المتخيل الروائي، فقال: «هناك مصطلح آخر يمزج بين النقل الواقعي والتخييلي عن طريق توظيف الحقيقة، أطلق عليه مصطلح factional ويشير بشكل خاص إلى لون من الروايات شبه الوثائقية، التي تحاول نقل الواقع ولكن عن طريق الرواية ومن خلال قدر قليل من التخييل».
أما الوقفة التطبيقية التي مثل بها الناقد على روايات استثمرت المادة التاريخية وحاولت الكشف عن محكيها فكانت في روايتي «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري و«دروز بلغراد» لربيع جابر، إذ انتهجت هاتان الروايتان التاريخ وتعاملت مع تجاذباته من منظور ميتاتاريخي لا ميتاسردي.. وقد توضح المقصد النقدي جليا في الختام، فقد توصل الناقد فاضل ثامر إلى أن رواية «دروز بلغراد».. «رواية متميزة إلى حد كبير، وعلى الرغم من أنها تنهل من التاريخ مادتها الخام، إلا انه التاريخ الذي يحوله الخطاب السردي إلى حاضر حي ودال».
اما في كتاب «التاريخي والسردي» فلم يستقر المصطلح فتارة هو الميتارواية التاريخية، وتارة ثانية الرواية التاريخية ما بعد الحداثية وتارة ثالثة هو الميتاسرد التاريخي الذي «هو الأكثر ملاءمة.. رغبة في ضبط المصطلحات والمفاهيم النقدية الجديدة»، على أساس أنه الشكل الأوحد للتمثيل التاريخي، وليس شكلا من أشكال هذا التمثيل وأحد أنماطه المهمة.. أما مصطلح «المتخيل التاريخي» لعبد الله إبراهيم فلم يأخذ به الناقد فاضل ثامر، لأنه وجده يثير لبسا وتساؤلات وهذا ما نؤيده عليه.
جدير بالذكر أن الناقدة ليندا هتشيون التي اجترحت في كتابها «سياسة ما بعد الحداثية» مصطلح الميتاخرافة التاريخية (الخرافة بمعناها الشخصي) لم تشر إلى الميتاسرد وقد عرَّفت هذه الرواية بـ«أنها إخضاع التمثيل القصصي الخرافي والتاريخي لفحص تدميري مشابه لما في الشكل ما بعد الحداثي التناقضي، الذي أود أن أدعوه ميتاخرافة تصويرية تاريخية»، ومثلت بروايات سلمان رشدي وماركيز.
وكانت قد ذهبت في الفصل الذي عنوانه «إعادة تقديم الماضي تجريد التاريخ الكلي من كليته» إلى أن الميتاخرافة التاريخية نوع من الرواية تعمل على عودة نقدية إلى التاريخ والسياسة عبر وعي ذاتي ميتاخرافي (والمقصود بالخرافي المستوى الشخصي) وأن من بروتوكولات هذا التعامل مع التاريخ ما يأتي :
كتابة السيرة الذاتية ما بعد الحداثية
طريقة الربط للمكان والهندسة المعماية
الكتابة النسائية وتوظيف الجسد كقوة ما بعد حداثية
الباروديا الساخرة والحكاية الشعبية والتسلط
وغير ذلك من آليات التمثيل التاريخي التي تستثمر بروتوكولات التمثيل والمرجع كمضادات للتاريخ أو بديل عنه. لكن توظيف التاريخ في البناء السردي يظل عند الناقد فاضل ثامر مرتهنا بالميتاسرد، بوصفه مُناظِرا أو رديفا للتمثيل الميتاتاريخي وأساس التنويع في رواية ما بعد الحداثة. صحيح أن الاشتغال على مخطوطة أو وثيقة واستعمال تواريخ مذيلة يصنع ميتاسرد، لكنه قد لا يصنع ميتاتاريخ، كاشتغال موضوعي احتوائي لا تجريبا فنيا وأسلوبيا.
وتظل التفاتة الناقد فاضل ثامر المهمة هي عده التاريخ موضوعا روائيا يمنح المتخيل السردي ربطا ما بين الماضي والحاضر، فضلا عن توكيده دور القارئ الذي له في «الميتارواية التاريخية أهمية خاصة.. إذ تعتمد صراحة أو ضمنا على قارئ ومتلق من نوع خاص». ثم يعزز ذلك بالقول: «بل إن كاتب الميتاسرد يطالب القارئ أن يقرر المعنى».
ومن ناحية التتبع المنهجي للاشتغالات العربية على السرد التاريخي؛ فإن الناقد فاضل ثامر بذل جهدا كبيرا ومهما وهو يقدم طروحات معرفية غنية، متعقبا الروايات بدءا من جورجي زيدان ونجيب محفوظ، مرورا بفحص علاقة التاريخ بالأدب عند النقاد العرب مثل، سعيد يقطين وفيصل دراج ومحمد القاضي وعبد الله إبراهيم ونادر كاظم وغيرهم، وانتهاء بالروايات الراهنة العراقية والعربية.. مشددا على حقيقة أن السرد والتاريخ خطابان لا يقل احدهما شأنا عن الآخر.
أما ما يخص التتبع النقدي للطروحات الغربية التي حواها تمهيد الكتاب موضع الرصد، فإننا نجد عرضا مهما وثريا لأهم التنظيرات الغربية، وقد بدا الناقد متأثرا بهايدن وايت الذي عد التاريخ سردا، ومؤيدا طروحات ما بعد الحداثة التي تفكك السرديات الكبرى إلى تواريخ صغرى وقصص متعددة لتتولد عنها التعددية التاريخية. ويبدو أن التركيز كان على النقاد أكثر من الفلاسفة، وليس غريبا إذا قلنا إن طروحات ما بعد الحداثة كانت في أغلب مرجعياتها تمتح أو تنهل من أفكار فلاسفة لم يكن بعض منهم معاصرين لمرحلة ما بعد الحداثة، لكن نقاد الستينيات وما بعدها كانوا قد تأثروا بأفكار هؤلاء ومنهم، نيتشه وراكنه وميشيل فوكو والفيلسوف بول ريكور، الذي جاء ذكر بعض آرائه في الكتاب مبتسرا وخاتما التنظيرات الغربية، وكان الأحرى أن يتقدم لا على النقاد وإنما على الفلاسفة ومنهم ميشيل فوكو كون ابتكارات ريكور الفكرية على غاية من الأهمية مما يتعلق بالتاريخي والزمن والسرد والحبكة، وهو الذي ساوى بين القص التاريخي والقص الخيالي، وتحدث عما سماه (تراث الماضي) وأننا لا نعيد كتابة التاريخ وإنما نكتب تاريخا آخر مفرقا بين writing و working وأن ما نريده تعبير/ كتابة لا اشتغال/فعل والتاريخ عنده هوية سردية، وهو الذي اخذ على هيغل وكانت نظرتهما الإجمالية للتاريخ التي لا تقر بسردية التاريخ، وريكور أيضا هو المجترح لمصطلح القصدية التاريخية وأن التاريخ فقد سلطانه وان للأدب والتاريخ مرجع هو الزمن الإنساني.
وإجمالا فإن ما قدمه الناقد فاضل ثامر في كتابه «التاريخي والسردي في الرواية العربية» يعد إنجازا مهما وإضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية والعالمية، وهو أمر عهدناه عنده في مختلف مؤلفاته النقدية التي تظل معينا مهما لا غنى لأي دارس في الأدب والنقد من الرجوع إليها والإفادة من معطياتها وطروحاتها.
وأن ما نرجوه حقا أن تثمر عن هذا الكتاب كتابات يقدمها فاضل ثامر كاستزادات نقدية تفيد الباحثين والدارسين، وتنفع الكتاب الروائيين والقصاصين وتمنحهم آفاقا ابتكارية وتجديدية، وما ذلك إلا لأن ناقدنا فاضل ثامر ضليع بهذا كله وجدير بأن يستحق عمادة النقد العربي امتنانا وعرفانا بجهوده وإمكانياته.

٭ ناقدة وأكاديمية

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى