‘أرواحنا في الليل’ همس الليل وسحر السينما
أمير العمري
يبدو كل من جين فوندا وروبرت ريدفورد في دوريهما في الفيلم الأميركي “أرواحنا في الليل” Our Souls at Night وقد أصبحا الشخصيتين اللتين يؤديانهما، وهذا الشعور لا ينتج إلاّ لو كان الممثل يعطي شيئا من عنده، من شخصيته الحقيقية، من إحساسه الخاص بالشخصية وبالدور، فيصبح وكأنه يعيش اللحظة ويستمتع أيضا بوجوده في داخلها.
جين فوندا التي بلغت التاسعة والسبعين، وروبرت ريدفورد الذي تجاوز الحادية والثمانين، لا يزالان يتمتعان بطاقة سحرية مدهشة على الأداء أمام الكاميرا، وهما في هذا الفيلم تحديدا يظهران وكأنهما يكملان ما بدآه من حوار بينهما قبل خمسين عاما، أي في المرة الأخيرة التي ظهرا معا على الشاشة في فيلم “المطاردة” لآرثر بن (1966). إنهما يؤديان هنا كما لو كانا قد توحدا مع الشخصيتين الخياليتين المستمدتين من آخر الروايات التي كتبها الأميركي كنت هاروف الذي توفي عام 2014.
فيلم هامس
مخرج الفيلم ريتش باترا، الهندي الذي انتقل للعمل في هوليوود، نجح أولا في التعامل دراميا مع الرواية بتدخله المباشر في صياغة السيناريو بالتعاون مع كاتبين آخرين، ونجح ثانيا في الاكتفاء من عبارات الحوار بما يناسب كل شخصية من هاتين الشخصيتين، من دون أن يجنح إلى الشرح والتكرار، مع تفادي الوقوع في براثن الثرثرة والمبالغات الميلودرامية العقيمة الكفيلة بإفساد الكثير من الأفلام.
إنه فيلم هامس يدور قسم كبير منه في الفراش، عبر “أحاديث الوسادة”، حيث تصبح “الفضفضة” وسيلة للتعرف على الذات وعلى الآخر، هناك شعور قوي في الفيلم بأن بطليه العجوزين اللذين يفترض أن يكونا قد هضما واستوعبا الدنيا، وخبرا مشاكلها وتقلباتها مازالا في الحقيقة أقرب إلى الطفولة أو أنهما قد عادا إلى زمن المراهقة، عندما كان الشاب يقف أمام الفتاة التي يرغب في أن يصادقها مرتبكا مضطربا.
إنهما ما زالا يتمتعان بالقدرة على الشعور بالدهشة، يتلعثمان حينا، يترددان حينا آخر في البوح وفي التعبير عن مكنون النفس، إلى أن يكتسبا الشعور بالثقة وبالدفء الإنساني وبالاحتياج إلى بعضهما البعض، فتفيض المشاعر ويتدفق الحكي والبوح وتتلاقى الأرواح، إنهما يكتشفان الطعم الحقيقي للحياة ربما للمرة الأولى بعد كل هذا العمر. ولكن كيف تبدأ هذه العلاقة؟
لويس ووترز (روبرت ريدفورد) كهل وحيد يعيش في بلدة صغيرة في ولاية كولورادو الأميركية، يجد صعوبة في النوم كما ينبغي، يستيقظ مبكرا، يعد الطعام لنفسه، يبدو مقطوع الصلة بالعالم إلاّ من خلال ما يستمع إليه من نشرات الأخبار التي يبثها التلفزيون.
ذات أمسية تطرق أدي مور (جين فوندا) بابه دون سابق إنذار، هي سيدة متقدمة في العمر تعاني مثله من الشعور بالوحدة، تقطن في المنزل المواجه لمنزله في البلدة، لم يسبق أن كانت لهما علاقة ببعضهما البعض، كلاهما كان متزوجا في الماضي، لكنهما الآن أرملان ينتظران النهاية في صمت، وقد جاءت أدي الآن بعد مرور أكثر من ستين عاما من تلك الجيرة في السكن، لكي تقترح عليه اقتراحا مدهشا مفاجئا؛ أن يأتي بين وقت وآخر إلى منزلها لكي يشاركها الفراش في الليل.. ليس بغرض الجنس، بل فقط من أجل الشعور بالدفء الإنساني وقتل الشعور المرير بالوحدة، وهي تلخص ما تعرضه عليه في عبارة بسيطة، موحية، دالة وبليغة “إنه ليس الزواج، لكنه ليس أيضا نقيضا تاما للزواج”!
لويس الذي فوجئ بالاقتراح يعدها بأن يفكر في الأمر، وبعد يومين يتصل بها ويخبرها بموافقته على أن يجرب، يحمل بيجامته في كيس ورقي داكن لكي لا يلمح أحد ما فيه، ثم يتسلل من باب الحديقة الخلفية، تمر الليلة الأولى وهما في الفراش معا دون حوار حقيقي، فلويس متردد متلعثم يفكر في مدخل للحديث، وتغمض هي عينيها وتطلب أن يحدثها، وبعد انتظار تستغرق في النوم.
وتدريجيا ومع تكرار اللقاءات الليلية، تنفتح القلوب والأرواح، تتخذ أحاديث الفراش أبعادا أخرى أعمق، يبدأ كل منهما في الشعور بالآخر، تقص هي عليه كيف توفيت طفلتها في ظروف سيئة في الماضي نتيجة إهمالها وما زالت تشعر بالذنب، ويقص هو عليها كيف هجر زوجته وابنته في وقت ما، وذهب مع امرأة أخرى مما أدى إلى تدمير علاقته بزوجته وما زال يشعر بالذنب.
لويس لديه ابنة هي “جولي” تقيم في مدينة أخرى، وأدي لديها ابن شاب هو “جين” يحضر ويترك لها ذات يوم ابنه الصغير “جيمي” حتى تتاح له إعادة ترتيب حياته بعد أن هجرته زوجته وأصبح يستعد للطلاق.
من هذه اللحظة يصبح “جيمي” العامل المشترك الذي يقرب ويجمع أكثر فأكثر بين أدي ولويس، يفتح الطفل أبوابا كانت موصدة عند لويس الذي يصبح له بمثابة الجد المعطاء، يشتري له كلبا جميلا، يهديه القطار الكهربائي الكبير الذي ما زال يحتفظ به في صندوقه، والذي عجز هو في الماضي مع ابنته عن التوصل إلى كيفية تشغيله، يهدي هاتفا محمولا جديدا لأدي لكي يتحادث معها بعد أن قرر ضرورة دخول عالم الاتصالات الحديثة.
وبعد أن كان يحرص على أن تكون العلاقة بينهما سرية، بينما لم تكن هي تكترث، أصبحت الآن علنية، لم يعد لويس يأتي من الباب الخلفي، وأصبح الجيران العجائز الذين لا شاغل لهم سوى التطلع واختلاس النظرات والتلصص على الآخرين يعلمون بأمر تلك العلاقة التي يجدونها غريبة كل الغرابة بالطبع، وأخذ رفاق لويس في المقهى يتندرون ويتغامزون.
ما الذي سيحدث؟ هل تستمر هذه العلاقة التي كشفت لكل منهما ما لم يكن يعرفه عن نفسه بعد أن وجد في الآخر الرفقة التي كان يتوق إليها، ويبحث عنها منذ سنوات بعيدة أم أن أدي ستفضل، عندما يجد الجد، وتصبح علاقتها بابنها معرضة للانهيار، أن تبقي على ولائها للأسرة حتى لو كان ثمن ذلك أن تودع صديقها الجميل؟
معنى الزمن
هذا عمل بديع، يحمل بلاغة القصيدة، جديد في فكرته وفي موضوعه، ينساب في رقة ونعومة وسلاسة، يحمل في طيات موضوعه البسيط الكثير من الحكمة عن معنى الزمن، ومغزى أن نظل نبحث عن الرفقة الصحيحة دون أن نعثر عليها سوى بعد أن يكون العمر قد مضى ويكون المرء قد أصبح موشكا أن يختفي، هذه الرفقة التي لا يشغلها هاجس الجنس والإشباع الجسدي مفتاح لأن يفهم المرء نفسه، ويفهم العالم كما لم يفهمه من قبل. ورغم ذلك يحدث الجنس مرة واحدة بين لويس وأدي بنجاح في مشهد بديع دلالة على عدم الاستسلام لليأس وعلى تجدد الرغبة بعد سبات، وبعد بروز هذا الاحتياج المتبادل بينهما.
مرة أخرى يصبح من أهم أسباب تميز الفيلم فنيا توفره على سيناريو جيد، محكم ومتوازن، شخصيات قليلة محددة واضحة القسمات والمعالم، تدور بين الأجيال الثلاثة: الأب وابنته، الأم وابنها والحفيد.
وهناك توازن بين الداخلي والخارجي، بين مشاهد تدور في الفراش ومشاهد أخرى تأتي تباعا مع تطور العلاقة؛ فلويس يأخذ أدي إلى المطعم لتناول الطعام، ثم إلى المقهى بعد أن تلاشت خشيته من أن يراه الناس جميعا، يسير معها في الطريق وهي تتأبط ذراعه، ثم يذهب معها ومع جيمي والكلب في نزهة وسط الطبيعة قرب النهر في بقعة جميلة من البقاع الريفية.
يأتي بعد ذلك عنصر الإخراج الذي تعرضنا له في البداية، ثم عنصر التمثيل مع ذلك الحضور القوي والمميز الذي ربما لن يتكرر مرة أخرى، الذي يجمع نجمين من كبار نجوم التمثيل في السينما الأميركية.
“أرواحنا في الليل” فيلم من عالمنا، عن عالمنا، عن ذواتنا ورغباتنا التي نكتشفها متأخرا، عن الرفقة الإنسانية، عن الصداقة الجميلة، عن فهم وتفهم الآخر، عن كيف يرضخ المجتمع في النهاية ويترك المرء يمارس حياته كما يشاء، وعن عدم الانجراف أو الخضوع للأنانية.
نحن لن ندرك ما يجب أن ندركه إلاّ إذا وقفنا مع أنفسنا ووجدنا أيضا من نستطيع أن نجلس معه ونصارحه ونكشف له ذواتنا عارية، تماما كما كنا ونحن أطفال.
(العرب)