المشهد الشعري في البصرة مدينة وأسماء تتخطى زمنها

جميل الشبيبي

تعتبر مدينة البصرة حاضنة للأدب والثقافة عبر تاريخها الطويل، فمنذ نشأتها، كانت منارة ثقافية للشعراء والأدباء والفقهاء، وأعلام علم الكلام. وعبر تاريخ المدينة الطويل ظهرت أسماء أعلام معروفين، وفرق إسلامية مختلفة، إضافة إلى فقهاء وعلماء وفلاسفة، الأمر الذي شكل خريطة ثقافية مكتملة ومكتفية بذاتها.
بعد قرون من نشأتها يتجدد المشهد الإبداعي فيها، لتكون شرارة التجديد منطلقة منها أيضا، حين تجرا شاعر قروي من أصول فلاحيه بكسر عمود الشعر باتجاه أفق جديد للقصيدة العربية، التي أشعل فتيلها هذا الشاعر مع نخبة شجاعة من الشعراء العراقيين… ومنذ ذلك التاريخ ولآماد مقبلة، ستبقى البصرة حاضنة للإبداع.
ستتكرر مفردة الجيل في هذه المدينة بعلاقتها بالمدن العراقية الأخرى، لتنتج أسماء لامعة، شعراء ينبثقون من أطراف المدينة، من قراها الفقيرة، ومن أزقتها الضيقة وناسها الفقراء، لينظموا إلى قافلة الشعر، يجربون ويبدعون أشكالا لها علاقة بحياتهم عبر لغة متداولة وثيمات جديدة لم يألفها الشعر تنير الظلمات في أعماق الإنسان فيهتدي بسهولة للشعر.. مستثمرة حياتها المكتظة بالآلام والظلم القائم دائما على رقاب سكانها والفقر الدائم، على الرغم من وفرة ثرواتها وغنى باطنها، الذي أنتج إنسانا متعففا منطويا على ذاته، لا يشهر حرابا ولا صراخا، أو يمتهن العراك، كل ذلك ربما كان من أسباب هذا التدفق الشعري الدائم.
وما يهمنا هنا أن عدد الشعراء في البصرة يزداد بمتوالية لافتة للنظر كلما تقدم الزمن بما يسمى الجيل، فإذا كان جيل الحداثة الشعرية في البصرة قد ضم مجموعة متميزة من الشعراء بعدد أصابع اليد، أمثال السياب وسعدي يوسف ومحمود البريكان، فإن المتأثرين بهم وبغيرهم من شعراء جيل الستينيات في البصرة الذين ظهر نتاج بعضهم في الستينيات (عبد الكريم كاصد، وحسين عبد اللطيف، وشاكر العاشور) وظهر نتاج الآخرين متأخرا في السبعينيات يمثلون مجموعة كبيرة من المبدعين البصريين بإنجازهم الشعري وأهميته وتطور نتاج بعضهم، ليصل إلى أصقاع عربية وعالمية، فيما بقـــــي العـــديد منهم أسرى المحلية بفعل أسباب خارجة عن اهتمامات الشاعر، تتعلق بدور النشر أو التوزيع السيئ لهذا النتاج، ولو قدر لمعظمهم الانتشار الذي توفر لإقرانهم من الشعراء العرب، لأصبح صوتهم عاليا في الشعر وتجاربهم ووعيهم الشعري مثار إعجاب النقاد والمتلقين.
سيتسع هذا المشهد ليضم أبرز الشعراء البصريين الذين نشأوا في ستينيات القرن العشرين، وتأثروا بأجواء الستينيات الصاخبة واستجاب العديد منهم إلى نزعة التجديد في الشعر، التي أطلقها رواد الحداثة الشعرية العراقية والعربية…. يمكن أن نفرد لبعض الأسماء البارزة منهم الذين تفردوا في المشهد البصري (نسبة إلى البصرة) وأغنوا المشهد الشعري العراقي بالأسماء التالية: (عبد الكريم كاصد، حسين عبد اللطيف، كاظم الحجاج، مصطفى عبد الله، محمد طالب محمد، مجيد الموسوي، شاكر العاشور، مهدي محمد علي، عبد الخالق محمود) وقد توفرت لهذه الأسماء بيئة اجتماعية وسياسية انتقالية في حياة العراقيين، جاءت بعد الأحداث المأساوية في بداية ستينيات القرن العشرين، وكان هذا الجيل شاهدا ومشاركا في الأحداث، حيث تعرض معظم أفراده إلى الاعتقال والتعذيب، ما أضفى على تجاربهم الشعرية قدرا كبيرا من الهموم السياسية والأيديولوجية التي تمجد المناضل وتسخر من الحاكم المستبد.
لقد أسس العديد من هؤلاء الشعراء عالمهم الشعري في العراق وأصبحوا أسماء لامعة في المشهد الشعري العراقي كالشعراء: حسين عبد اللطيف، كاظم الحجاج، مجيد الموسوي، شاكر العاشور، في حين أبعدت الغربة والمنفى العديد منهم عن حاضنتهم الأولى ـ وطنهم العراق ـ ليؤسسوا أسماءهم في الغربة أمثال الشاعر عبد الكريم كاصد الذي امتدت تجربته لتشمل الوطن العربي وتترجم قصائده إلى اللغات الأجنبية، في حين أسس الشاعر الموهوب مصطفى عبد الله مشغلا شعريا وثقافيا في المغرب، أنتج فيه أجمل قصائده في المنفى قصيدة (الأجنبي الجميل) ليغادر الحياة في حادث مأساوي عام 1989 وهو في قمة نشاطه الإبداعي. أما الشاعر محمد طالب محمد فقد هاجر بداية سبعينيات القرن العشرين إلى الجزائر واستقر هناك ليؤسس مشغله الشعري، وأصبح ديوانه الوحيد «التسول في ارتفاع النهار»- 1974 الذي طبع في العراق غريبا حتى على أجواء مدينته البصرة، غير أن الشاعر كان، مشغولاً بتأثيث خطابه الشعري بالجديد المبتكر المؤهل لأن يعيش في فضاء العدالة والأمان، لكن الأيادي البغيضة التي هرب من كوابيسها في العراق.. كانت تترصد خطواته في الغربة أيضاً.. ففي منتصف تسعينيات القرن العشرين اغتالته الأيادي السلفية الغادرة، التي تقتل اليوم آلاف الأبرياء في عراقنا.. وكان الشاعر في مركز العلم: مدرسته.
لقد تغير المشهد الشعري كثيرا بعد عام 2003 فما كان عصيا على السياب شاعر الحداثة العربية أصبح يسيرا لكل شاعر أو مثقف فظهرت أسماء شعرية جديدة في سماء المدينة وأصبح للشعراء الذين كتبوا قصائدهم إمكانية نشر أشعارهم بعدما توفرت لهم فرص النشر الكثيرة، وهذا واضح من الإصدارات الكثيرة للمجاميع الشعرية التي أصدرها اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة، وما أصدرته دار الشؤون الثقافية لشعراء بصريين، إضافة إلى الإصدارات الشعرية التي طبعت على النفقة الخاصة فقد تجاوزت كل ذلك، في مثل هذا المشهد المتشعب للمشهد الشعري في البصرة، نجد أنفسنا عاجزين عن الإحاطة به والكتابة عن آفاقه، وإنجازاته الشكلية، وقد تميزت قصائد النثر التي اطلعنا عليها بالتنوع والتباعد في الصياغة ووجهات النظر نسبة إلى الشاعر وموقعه في زمن إنتاج القصيدة، ويتضح تفاوت العمر الزمني للتجربة الشعرية في موقف الشاعر من العالم الذي يحيط به وشكل اللغة التي يكتب بها قصيدته، ولم يكن ذلك بعيدا عن تأثر هؤلاء الشعراء بديوان الشعر المترجم وأصداء النظرية النقدية التي تناولت قصيدة النثر ومثالها كتاب «قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا» لسوزان برنار نموذجا.
لقد أصبح المشهد الشعري في البصرة ـ كما هو الحال في العراق والوطن العربي ـ مغايرا تماما في قول الشعر عبر وظائف جديدة لا علاقة لها بالجمالي أو السياقات الوزنية أو الإيقاعية أو الاعتماد على المجاز العربي، الذي كرسته القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيــــلة، إذ انتقلت وظيفة الشاعر في قصيدة النثر من علاقة الذات بالآخر وهي تتناغم بالتعبير عن إشكالات الحياة وصداها في الذات والآخر الذي يعيش محايثا لها، إلى الذات باعتبارها مركزا للعالم، وليس صوتا للآخر، فقد انتهت تلك التقولات التي تشي بإنشاء وإنشاد عالم لي وللآخر، وأصبح للذات صوتها الخاص الذي يتمرد ويصالح ويتأمل، وقد اتضح ذلك في وسيلة القول ـ اللغة ـ التي كانت على درجة عالية من البلاغة والموسيقى وقد ورثتها القصيدة الحديثة من الشعراء الأسلاف، فأصبحت تتحدث بلغة بعيدة عن تلك القوالب والإيقاعات المفروضة، مستثمرة لغة النثر وهي تفتح أبوابها واسعة باتجاه الأجناس الأدبية وغير الأدبية لاغتناء عالم القصيدة الحديثة بكل ما يجعلها كيانا حيا معبرا عن علاقة الذات بالعالم.. لقد كثر الحديث عن إنجازات قصيدة النثر العراقية، وما استطاعت أن تكرسه من جديد في القول الشعري، وكذا الحال في قصيدة النثر البصرية، وقد اتضح موقف الشاعر ووجهة نظره من الحياة وتقنياتهم المفارقة بعد التغيير وخلال الانفتاح على العالم الضاج بكل شيء، في العديد من النماذج الشعرية في البصرة التي تناولنا في قراءاتنا المتعددة على صفحات الجرائد المحلية والعربية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى