«برية ذئاب في ثياب»… الكتابة من الذاكرة الجماعية

رياض خليف

ليست هذه المجموعة من الأقاصيص الواردة في كتاب»برية ذئاب في ثياب» قصصا تخييليا واشتغالا على عالم ورقي وهمي، ولكنها عودة إلى المرجع التراثي وإلى الذاكرة الجماعية، ونهل من أسرارها، ومما حفظته من التلف وهو ما دأب عليه الكاتب حسين القهواجي في مسيرته الأدبية الطويلة، فهذا التراث هو الخيط الناظم لكتاباته، فكأنه يحاول عبر إصداراته المتعددة فتح خزائن الذاكرة الشفوية للقراء. فالقصة عنده ذات مرجع خاص ونشرها لا يخلو من غاية، وهو ما عبر عنه في إحدى قصص هذه المجموعة، «هي أقصوصة طار ذكرها في الناس وتعذر على الخاطر إهمالها، وما كان أحوجني إلى أن أحييها في سوق كسد بها الأدب الذي لا يمكن نكران مرافقه». وهو بهذا يؤكد على الطابع المرجعي لكتاباته فهو يستند إلى المرجع التاريخي الشفوي، ويرتبط بالجذور الثقافية الشفوية. ولعل هذه المقولة تهمس للقارئ بالتوجه الإحيائي لحسين القهواجي، وهو التوجه نحو إحياء التراث محاولة لإحياء الأدب وتجاوز مرحلة الكساد التي يمر بها. فلقد انشغل في مختلف أعماله بالحكايات التراثية والتاريخية، محاولا كتابة شيء من التراث المحلي الغابر، منطلقا من حكايات شفوية وتقاليد قديمة مقدما للقارئ كتابة مرتبطة بالفلكلور الشعبي، محتفية بالسرديات التراثية وتتبع حكايات البدايات.
وقد شكلت مدينة القيروان تربة خصبة لهده التجربة الأدبية، إذ التقط القهواجي عشرات التفاصيل التراثية المرتبطة بمعالم المدينة وحكاياتها القديمة. وها هو يعود لقرائه بكتاب جديد يحاول بين طياته كتابة المزيد من تفاصيل التراث المحلي التونسي، خصوصا منه ما تعلق بالتراث الأمازيغي، وهو تراث ما قبل وصول العرب الفاتحين إلى شمال إفريقيا، ولكنه يكتبه بروح استعماله وتوظيفه لدى العرب ويدمجه في الفضاء المعاصر.
وهو يطالعنا في هذا الكتاب بجملة من النصوص التي تجمع بين السرد والتفسير فتكون هذه النصوص أقاصيص تنقل حكايات تتداولها الذاكرة الشعبية، ولكنها في الوقت نفسه كتابة لعادات وتقاليد عديدة وغوص في معانيها ودلالاتها.. فنحن أمام صفحات من الذاكرة الجماعية تتمحور حول مواسم وشخصيات ومعالم وقائع تاريخية تناقلتها الذاكرة.

حكايات وعادات

تبدو المجموعة مجالا خصبا للحكايات القديمة، ولعلنا نجد من ذلك حكاية «الجواد البربري» الذي فرط فيه الباي حمودة باشا إلى الفرنسيين: «قصة الجواد لم يكن يدري الباي حمودة باشا إن الجواد سيقاسي أهوال الزمان في شوارع باريس، حين أهداه إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر». ولكن هذه القصة تتحول إلى حديث عن الحصان البربري وصفاته من خلال اختبار أصالته: «أوله قران أثار نعاله إن أرسلته للركض خببا ينبغي أن تقع حوافر رجليه مواقع يديه مع تمام المطابقة، وأما الاختبار الثاني فمن علامات نسبه الصحيح انه يصبغ منخريه بالماء وقت الشرب ينفنف ويشمشم فيم ينكث القطر منتشرا وسط الطست الكبيرة».
ولا تخلو هذه النصوص من التطرق إلى العادات والتقاليد، ومنها ما يتعلق بحفظ الحبوب من التلف، «كنا نخزن القمح في مطامير ودهاليز كثيرة المنافذ، ونطين حيطان المغاور المنقورة في العمق والعلو بالطين البني، ثم نطليه بالحبر الأبيض لكي يسلم من الآفة، هكذا ببساطة يتسنى لنا حفظ البذور من الفساد أحقابا مع تعليق كف مخمس يصون حرارة القمح».
ومن العادات الأخرى التي تطرق لها عادة صب الماء وسكبه خلف الأسوار وقد ردها إلى الأتراك احتفالا منهم باليوم الذي»أحرق الله فيه الظلمة الباردة بالنور الزاهر». في هذا اليوم «تحولت العادة من دلو يصب على الأديم إلى مرش فضي يسكب قطر وردة للفأل والغبطة وما رونق الأوقات إلا الربيع المزهرة سماؤه الهفهافة نسائم أسحاره بأنفاس الرياحين».

معالم وشخصيات

تتناول نصوصا أخرى حكايات بعض المعالم والشخصيات التاريخية التراثية، وفي هذا الإطار نذكر شخصية بكارة الهلالية وهي «من ربات الوجاهة ومن دلائل عقلها الوافر إصابة الجواب حاضرا. هي شاعرة دخلت مجلس معاوية وهو متكئ فاستوى جالسا لطرافتها». ويذكر عنها إنها «استصحبت الملابس للبنات على الجمال والدواب، ونثرت الدنانير على الأرامل «. كما يتناول الكاتب شخصيات أخرى مثل عبد الله بن العباس والعزيزة عثمانة، وهي شخصيات تكتسب بعدا تاريخيا.
ومن الأماكن التي يقودنا اليها حسين القهواجي جبل طرزة في القيروان، وهو معروف بحمامه الاستشفائي الطبيعي منذ القديم»، وهو محل بدائي الحجرات مستحجر المصطبة قل هو تنور نار بلا حطب طقس قيظه يباب دائم يغطيه بخار معدني مضطرب». ويتطرق الحديث إلى المكانة الاجتماعية القديمة لهذا المعلم وعلاقته بالتقاليد الشعبية: «من عهود تأتي النسوة إلى حمام طرزة بالزغاريد متهاديات يلتحفن السفساري في حفل الرشمة». ولا يخلو الحديث عن جبل طرزة من الحكي، فيقدم لنا الكاتب حكاية محمد بن اليزيد مع الوالي، إذ قبض عليه وقرر شنقه ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان. «أذن أمام القصر للصلاة فوضع العنقود من يده وكان أهل إفريقيا قد اجمعوا على إباحة دمه، ولما رفع رأســـــه من السجدة الأخيرة ضربه الحارس بعمود رخام شج رأسه، وقيل للمكتوف ظلما إذهب الآن حيث شئت، فسبحان من قتل الأمير وفك الأسير وبقي عنقود العنب على المائدة حتى استحال خلا».
إن الكتابة عند حسين القهواجي تنزع إلى أن تتخذ طابعا مرجعيا وتحفل بالتراث المحلي والعربي واستقصاء الحكاية القديمة وهي محاولة جمع للتراث الشفوي المهدد بالضياع وهي تنشد إلى ضرب من الكتابة العربية القديمة التي تجمع بين السرد والشعر والتعليق، فاتحة أبواب الذاكرة وداعية إلى الرحيل بين أروقتها ومنسياتها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى