رحيل الشاعر التونسي حسين القهواجي… حارس أحلام القيروان
عبدالدائم السلامي
غيب الموت أول أمس الشاعر والمسرحي التونسي حسين القهواجي يوم الثلاثاء المنقضي عن سنّ تناهز 58 عامًا. وُلد القهواجي في مدينة القيروان، كان عصاميَّ التكوين، غير أنّ معرفته بالأدب العربي، قديمه وحديثه، واطلاعه على الآداب الأجنبية يفوق اطلاع المختصّين فيهاّ. عمل القهواجي ممثلا محترفا في الفرقة القارة للتمثيل في القيروان من 1979 إلى 1992، ثم تفرغ للكتابة وبرع فيها شعرا ونثرا، فقد أصدر العديد من المجموعات الشعرية التي تميّز فيها ببلاغة جملته، وصفاء تكوينها، ونزوعِه فيها إلى صوغ العالَم صوغًا بِكرًا كأنه يخلقه من جديد. ومن تلك المجموعات نذكر «ليل المقابر»، و»غراب النبوءات»، و»أندر من بروق الصيف أرق من غيمة الخريف»، و»يوميات في مارستان»، و»كتاب الأيام»، و»الأرواح البيضاء»، و»أحفاد سقراط وصلوا قرطاجة». كما صدرت له كتبٌ في السيرة الروائية منها «باب الجلادين»، و»حومة الباي»، و»سوق الوراقين»، و»بنقا في زنقة عنقني»، هذا فضلا عن اهتمامه بالنقد الفني وإعداده وتقديمه لبرامج ثقافية إذاعية.
إنّه القيروان
عشق حسين القهواجي مدينة القيروان، عشقها كأنها الأرض الوحيدة التي بقيت له في هذا الكون، لم يترحّل عنها، ولم يستثمر وجودَه فيها لغايات الشهرة، كما فعل غيرُه من الشعراء وإنّما اكتفى منها بأن يكون روحَها التي تستشري في أحيائها وأزقّتها، وتشرب القهوة في مقاهيها القديمة مع الناس، وتَعْبُر التاريخَ بتراثها ومعالِمها وتكتبه بلسان فصيح. لقد ظلّت هذه المدينة مسرح خيال المبدِع حسين القهواجي، وتحوّلت في نصوصه إلى استعارة خاصة به، حتى عرف بها وعرفت به، فلا يَزُور مثقّفٌ مدينةَ الأغالبةِ إلا ويسأل عن حسين القهواجي، لأنه سرٌّ من أسرار القيروان، وشيفرة لقراءتها.
لقد عاش حسين القهواجي حياته بسيطا وفقيرا، عاشها عاشقا لها وغنيا بها، ولم ينافق السلطة لكسب المال، ولم يشتكِ ما كان يواجه من مرارةِ العَوَزَ، كان شهمًا مع فقره وعنيدا مع ذاته. في لقاء جمعني به في القيروان منذ ما يقارب العام حدّثني عن الظروف الصعبة التي آلت إليها أوضاع الناس، وأجاب عن سؤالي حول سِرّ تشبّه بهذه المدينة قال: «لا أستطيع أن أهجر شعب القيروان، سيُقاضيني التاريخُ بتهمة إهمال العيال». عُرف حسين القهواجي بتسامحه مع الناس، وقد كتب في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، لمّا حاصره مرضه العضال، تدوينةَ وداعٍ قال فيها: «سأترك بيتي وعائلتي وأصدقائي ومنطقتي ظُلْمًا، والله يُسَامِحُ من ظلمني، ويُسْعِد من باتَ مظلومًا ولا بات ظالمًا». وعلى كثرة إشعاعه الأدبيّ لم ينتبه لحاله وزراء الثقافة التونسية، ولم يساعدوه، وظلّ يصارع فقره ومرضه بصبرٍ، ظلّ يكتب ويحلم بأن يكتب، وما إن أُعِلِنَ عن خبر وفاته حتى سارعت وزارة الثقافة إلى نعيه بفقرة قصيرة من باب التملّق الإداري وإبراء الذمّة.
روح المدينة
في نعي الراحل حسين القهواجي كتب الشيخ إسكندر العلاني، الإمام الخطيب في جامع أبي زمعة البلوي: «يعترضك بطيفه النحيف وتبسّمه اللطيف في كلّ أزقّة القيروان أيّام البرد وليالي المطر، ملتفّا بمعطفه ذاك الكثيف، متقلّدا تحت إبطه كتابا أو كتابين، لا تستطيع إلّا أن تستظرف نبرات صوته المتحلّلة الكسولة، ولا تملك إلّا أن تستلطف ملامح وجهه الرقيقة رقّة روحه ورهافة إحساسه… نسمة من نسائم القيروان، أو زخّة من زخّات خريفها زفرت كي تفارقنا معلنة أنّ القيروان قد ثَقُلَ عليها الوحي فما عادت تتّسع في هذا العهد الكئيب للشعر ولا للشعراء». وقال المسرحي توفيق الغربي: «لقد عشت معه سنوات اشتغالي مع السيد العلاني في الفرقة القارة في القيروان صحبة فاتحة المهدوي وعبد السلام الجليدي والطاهر رفراف وغيرهم، وقد كان رحمه الله شاعرا ومبدعا عاشقا للقيروان وأسوارها، لكوشة شيحة، وقهوة طقطق، كان بعيدا عن الحسد والنميمة، باحثا دائما على حكاية جديدة». وأضاف الغربي قوله: «إذا سمعتم الرعد ورأيتم البرق غدا فاعلموا بأن حسين القهواجي والصغير أولاد أحمد قد التقيا واختلفا في قصيدة مّا».
وعن حالة التهميش التي عاشها حسين القهواجي كتب لطفي البريكي قائلا: «رحل الصديق الأديب والشاعر حسين القهواجي، وكم هي وصمة عار على الدولة التونسية أن يعيش الرجل مُهمَّشا وبدون أي تثمين فعليّ طيلة 25 سنة. ولكن متى كانت القيروان تعتني بأبنائها كعنايتها بلاعبي الكرة الذين يكسبون في شهر واحد ما لم يكسبه القهواجي طيلة حياته».
أمّا أسماء ثابت فكتبت: «الإنسان والكاتب والشاعر القيرواني حسين القهواجي هو أكثر شخص يُفرحني حين ألتقيه… مرة تراه حاملا في يده قطعة جبن باحثا عن قطّ ليُطعمه، ومرة تجده حاملا وردةً ليهديها… إنه مبدع جميل في بلد تعيس، الحديث مع القهواجي ممتع، ويجعلك تفكِّرُ». وفي الصلة التي بين القهواجي والقيروان كتب خالد العجرودي: «إنْ كان يمكن مماهاة مدينة بشخص سيكون المثالُ حسين القهواجي والقيروان. كان روح المدينة الشفافة وحارس قلبها. عاشها وعشقها وكتبها شعرا ونثرا وكان أمينا أمانة نبي عاشق. ربما تعبتَ يا صديقي فقدرت للرحلة أن تنتهي كما ابتدأت في القيروان حلمًا جميلا في مدينة لا وجود لها إلا في قلوب عاشقيها. لروحك السلام في الأبدية، وكن خفيفا وأثيريا كعهدي بك دوما».
(القدس العربي)