الشّاعر محمد بوزيان: الكتابة عن باريس هي بمثابة رد الجميل
عبد الحفيظ بن جلولي
منذ أن بعث إليّ برسالة قصيرة يعلن فيها خبر صدور مؤلّفه الشّعري «إلياذة باريس»، وأنا أتساءل لماذا باريس بالذّات؟
للأمكنة سلطان يتشكل كعاشق يمسك بزمام القلب والوجدان، يتجاوز جروح التاريخ لا ليلغيه ولكن ليثبت أنّه من منجزه كفرح، تماما كما يُعتبر بعض الحدث منجز التاريخ كألم، ولا يستجيب هذا العاشق سوى لنداء الهندسة في خطوط ومساحات الفراغ الذي لا يترجم إلا كقصيدة تقول العلاقة الخفيّة التي لا يمسك بخيوطها سوى شاعر بنى الكلمات من عَقد المحبّة بينه وبين المكان.
كان الوقت يميل إلى ما بعد الظهيرة حين اتّفقت مع الشّاعر محمد بوزيان على اللقاء في المقهى لكي يسلّمني نسخة من كتابه، بعد انتظار لم يكن سوى أفق لتصارع شيء من غموض الأسئلة، حضر الشّاعر ومعه أضمومة وبسمته وفرحه الطفولي، فهو أيضا عازف موسيقي، ارتحنا إلى الطاولة بمحاذاة النّافذة المفتوحة على الشّارع الذي أوحى لي بسؤاله عما الذي فجّره هذا الأخير في باريس عند بوزيان الشّاعر، ما علاقة الشّارع بالكلمة؟ لم يفكر كثيرا وردّ سريعا: الشّارع هو مصدر الكلمة، فذكّرته بكلمة الجاحظ بأنّ «المعاني مطروحة في الطرقات»، لكن ما كان يؤرّقني فعلا هو لماذا هذه الـ «باريس»؟
(«إلياذة باريس» 2017 ليست عملي الشّعري الأوّل حول المكان، لقد سبقته «إلياذة وهران» الصّادرة عام 2005)، وهنا بدأت أقبض على خيالات من هواجس الشّاعر بحكم قربي منه وعلاقتي بالمدينة وهران، وهران هذا العشق المتبادل بين كل من مشى على رصيف «جبهة البحر» واختلطت جوارحه بأنفاس النّغم البدوي في روح الرّاحلين بلاوي الهواري وأحمد وهبي، يضيف أنّه (في عملية سبر للآراء عام 1982 حازت وهران على المرتبة الأولى كأنظف مدينة في الجزائر، ووهران هي باريس الصّغيرة «petit paris»)، ربّما تفجّرت لدى الشّاعر وهو يمشي في باريس هوامش الحنين للمكان/المحبّة «وهران»، فتداخلت الأمكنة وكانت الإلياذة تعبيرا ساميا عن الفضاءات حين تتبادل العشق فيما بينها:
«كل الوقت، أسير، أعدو / خلال حقل مارس (le – champ – de mars)، / أغنّي الحب، الحنان، لحن الرّيح».
الشّارع عند محمد بوزيان هو الحركة (أسير، أعدو)، حركة الذات خلال المكان الذي تختلط فيه أصوات العمق النّفسي (الحب، الحنان) وما يجتاز الهندسة المكانية من أنفاس الطبيعة (الرّيح)، الغياب في حركة المكان يعدّ إنتاجا لتناسق ماورائي بين الأنا الحاضرة في جسدها والذّات الغائبة في وجدانها، ذاك ما تستطيع الذّات أن تسمع به نداء الأشياء في توزّعها بين استقامات والتواءات الهندسة الخفيّة للمكان.
يرى بوزيان أنّ إلياذة باريس هي إلياذة سلمية، حيث يفرّق بين إلياذة الحرب وإلياذته، وهي بدون سابق، ولا تزيد على 1500 بيت، ويزيد بأنّ كل ما كُتب عن باريس من خلال لافونتين أو بودلير أو فيكتور هوغو كان مجرّد قصائد، بينما خصّ هذه المدينة بديوان كامل، كعربون وفاء لما قدّمته له في سابق أوان. بالصّدفة، يردف بحنين، اكتشفت أنّ أستاذي في الابتدائي في ستينيات القرن الماضي في الجزائر، ريجال كريستيان، كان باريسيا، وإليه يهدي «إلياذة باريس»: «معلّمي السّابق في مدرسة الذّكور، إجلال لمن علّمني ألف باء المادّة المزروعة بالقيم الإنسانية، منبع إلهامي الشّعري»:
«يا أعجوبة! باريس جميلتي/ متوهّجة ومهيبة/ أعلى من برج إيفل/ منذ فجر الزّمن».
يروي الشّاعر كيف حلّ ضيفا على الأكاديمية الفرنسية، وتعرّف إلى أحد أعضائها وهو جون ديتور، الذي تأثّر ببعض ما قرأ له من شعر، لأنّ الكلمات كانت «تعبيرا عن الحب، الذي نتقاسمه كلانا»، وكان هذا في 30 – 10 – 2001. أخبرني أنّ أولى أعماله نشرت في باريس، ومنها على سبيل المثال «يوميات تلميذ»، عام 2001، وساهمت في نشره جمعية أساتذة الأدب في باريس. لما اطّلع سيرج لابيس على كتابات الشّاعر، وهو رئيس الحلقة الدّولية للتّعبير الأدبي والفنّي (cila) خاطبه قائلا: «تعبيرك باللغة الفرنسية أفضل منّا»، وهو ما يجعل هذه الإلياذة مختلفة حتى من ناحية اللغة، فالكتابة عن باريس كما يقول هي نوع من ردّ الجميل، وهو الحاصل من باريس على الجائزة الدّولية للصّداقة الشّعرية الفرنكفونية عام 2002 .
مازال محمد بوزيان يسافر في اللغة متشظّيا بين ضفّتين، الفرنسية التي أتقنها وعشق تفاصيل نوتاتها، والعربية التي يتشبّث بها ويغازل أصداءها في تداعيات التّاريخ والجغرافيا اللذين يشدّانه بحبلهما السُرّي إلى ذاته وأمكنته وحالاته التي لا تقال إلا قصائد على جدران المنفى:
استمعوا! لنستمع / ميراي ماتيو/ تحاببنا كثيرا / كانت رقصة الفالس الأخيرة».
«إلياذة باريس» محمد بوزيان، شعر، نشر وتوزيع أنوار المعرفة، الجزائر/مستغانم، 2017.
(القدس العربي)