مي زيادة برواية دارينا الجندي : «العصفورية»: بيْت الطاعة عندما تضيق البيوت!

رشا الأمير

بلا تردد، ولا لف ولا دوران، ومن الجملة الأولى، من الفقرة الأولى، من الصفحة الأولى، تصدع دارينا الجندي في «سجينة الشرق»(٭) بما يحدو بها أن تنكب على وضع سيرة، أو ما يشبه السيرة، باللغة الفرنسية، وهي اللغة التي تكتب بها الجندي وتنشر منذ سنوات، لمي زيادة: «كانت ولادة مي زيادة في 11 شباط/فبراير 1886 وكانت ولادتي في 25 فبراير 1968. من ثم، وباعتبار هذا البون الزمني الشاسع ما كان لنا أن نلتقي. على أنه فإن ما عبرتْ به كل واحدة منا لم يكف عن مخاطبة ما عبرتْ به الأخرى». وبلا مزيد انتظار وبلا تردد أيضًا تسارع الجندي إلى مكاشفة قرائها بما تعنيه: «طفلة، كنت أؤثر العزلة… وعندما كنت أجدني في ضيافة خالتي التي تسكن منزلًا منيفًا في الحازمية من ضواحي بيروت، كثيرًا ما حلا لي أن أعدو سور حديقتها إلى الحديقة المجاورة وهناك كنت أرى نساء متأزرات بالأبيض يساعدن أشخاصًا تبدو عليهن مظاهر التعب على السير والتمشي. هنا، في هذا المكان، احتجزت مي، وبعد عشرات السنوات، في مكان مشابه لهذا المكان، ارتضت عائلتي أن أحتجز وأن يطبق علي…».
أما المكان الذي تشير إليه الجندي فهو «العصفورية»، مصحة الأمراض العقلية والعصبية الأشهر في تاريخ لبنان. و«العصفورية»، بالمناسبة، اسم، في الأصل، لسفح من سفوح جبل لبنان الجنوبي، كانت تكثر فيه العصافير، حوله الاستعمال إلى كنية لتلك المصحة التي يعود الفضل في الشروع في تأسيسها إلى نهايات القرن التاسع عشر (1898) إلى مرسل بروتستنتي سويسري يدعى تيوفيلوس فالدماير كانت له أدوار كثيرة في تاريخ لبنان (علْمًا أن القرار بتأسيسها يعود إلى 1896). وبما أن الشيء بالشيء يذكر فمما يستحق الإشارة إليه هو أن «العصفورية»، المصحة، أقامت على ذلك السفح الذي أنشئت عليه حتى مطالع السبعينيات، حيث حلا العقار الوسيع ذو المائة وثلاثين ألف متر مربع، والذي كان قد تأثث في ما بين الشروع في إنشاء المصحة ويومذاك بستة وأربعين مبنى ذات طراز معماري يجمع بين التراث المحلي والحداثة الكولونيالية ــ نقول: أقامت المصحة، (التي استعار غازي القصيبي اسمها لإحدى أشهر رواياته)، على ذلك السفح حتى مطالع السبعينيات حيث حلا العقار في عين إحدى الشركات فاشترته بغية «تطْويره»، وهاجرت المصحة وناسها وذكرياتها إلى أمكنة أخرى…
إلى حديقة هذا المكان الذي لا يمكنها أن تعود إليه لسبب بسيط هو أنه لم يعد موجودًا، تعود دارينا الجندي، على مشارف الخمسين من عمرها هي، لتروي لنا فصولًا من سيرة ماري زيادة الناصرية (فلسطين) مولدًا، اللبنانية (الكسروانية المارونية) محْتدًا ومحنة، القاهرية هوى ومماتًا. ولأن الجندي لا تكتب سيرة ماري/مي فقط، بل تكتب سيرتها أيضًا، ولربما أولا، فهي لا تأبه بما قد يعز على مؤرخ محقق مدقق من تفاصيل ألا تفوته، فتراها، من ثم، لا تبالي بأن تروي لنا شيئًا من طفولة ماري/مي في مدرسة الراهبات اليوسفيات في الناصرة، حيث خربشت أولى خواطرها، وحيث تعرفت إلى الموسيقى متعلمة العزف على البيانو، ولا تبالي بأن تروي لنا شيئًا عن هجرتها الأولى، عام 1899، السنة التالية على المباشرة في إنشاء «العصفورية»، من مسقط رأسها إلى وطنها الافتراضي لبنان والتحاقها بالقسم الداخلي من مدرسة عينطورة وما أورثه ذلك على المراهقة ماري/مي من كآبات ولا غير ذلك من محطات ومواقف بل تختار لميها أن تبدأ قصتها منْ قطيعتين اثنتين: فسخ خطوبتها بقريبها نعوم، (وهي خطوبة كانت اليد العليا فيها، على ما يبدو، للعائلة التي ارتأت أن تزوج ماري/ميا بنعوم فلا تتشتت أملاكها)، وقرار الياس زيادة، والد مي، العامل في مجال التعليم وذي الطموحات الكتابية، والذي ضاقت به، على ما يبدو أيضًا، الناصرة، أن يهاجر مع عائلته إلى القاهرة التي كانت، أيامذاك، منارة الشرق ومختبر حركته الثقافية.
للوهلة الأولى، لا وجْه شبهٍ ولا وجه قياسٍ بين فسخ خطوبة شابين وقرار عائلة بالهجرة من بلد إلى آخر، ولكن الأمر، في حالة آل زيادة، لم يكن كذلك تمامًا. فعلى قرب المسافة بين الناصرة والقاهرة لم تكن هجرة آل زيادة من بلد إلى آخر، بل من عالم إلى آخر، بل قل من ضاحية من ضواحي الشرق إلى حاضرته بامتياز؛ وعلى مجهرية الواقعة المتمثلة بأن يفسخ شاب وصبية خطوبتهما، بل على وضاعة هذه الواقعة، فنزول عائلة مي عند رغبتها بوضع حد لخطوبتها من قريبها نعوم، («الصالح الخامل» على ما وصفته ذات يوم)، وارتضاؤها بقرار ماري/مي أن تقطع الطريق، منْ أولها، على الاستسلام لحياة زوجية أسرية كان من الصعب التفلت منها فيما لو سارت في مناكبها، أطلق يدها، يد ماري/مي، في إدارة حياتها وفي التصرف بها. في القاهرة التي وصلها آل زيادة عام 1907، تبدو حياة ماري/مي، وأسرتها، برواية دارينا الجندي، أشبه بإقامة مخملية في قصر مسحور بكل ما للكلمة من معنى. فبلا كبير جهد تفتح أبواب العمل الصحافي أمام الوالد الياس، واستطرادًا أمام الابنة، ومع انفتاح هذه الأبواب تنفتح بدورها أبواب الاندماج الاجتماعي. في 1911، السنة الرابعة من الهجرة ــ هجرة آل زيادة إلى القاهرة ــ تقدم الشابة المجدة في تحصيل اللغات أولى أوراق اعتمادها في عالم الأدب على هيئة مجموعة من الخواطر الشعرية، باللغة الفرنسية، تحت عنوان «أزاهير حلم». وفي سعي منها إلى اجتراح هوية جديدة تختار ماري أن توقع هذه المجموعة باسم مستعار هو «إيزيس كوبيا». وإذ لا تخْطئ العين الإحالة الفرعونية في القسم الأول من الاسم، (إيزيس في الأسطورة الفرعونية شقيقة الإله أوزيريس وزوجته)، فالقسم الثاني منه أدعى إلى التأمل: فمن معاني كوبيا، باللاتينية، الوفرة والغزارة والكثرة، ولعل في هذا الاختيار المبكر للإبقاء، ولو تحت طي الترجمة من العربية إلى اللاتينية، على وشيجة معنوية خفية باسم عائلتها (زيادة)، ومن خلالها بعائلتها نفسها، وفي هذا التفصيل، لربما، ما يفسر بعضًا من التردد الذي رافقها طيلة حياتها والذي كان من أسباب محنتها.
على متن هذه الأزاهير تابعت الكاتبة الشابة المتحمسة لقضية «تحرير المرأة»، الرافلة في رغد من العيش، والمتمتعة بهامش من الحرية يحميه انفتاح والدها من محاولات والدتها تضييقه، ــ تابعت تأسيس وجاهتها القاهرية وما يمكن تسميته حملة علاقاتها العامة. وإذ بدا لها أن «إيزيس كوبيا» ليس الاسم المستعار الذي يخدم هذا الغرض عدلت عنه إلى اسمٍ أقل تورية فاقتطفت من ماري الحرفين الأولين وردت كوبيا إلى أصله وهكذا، على قرابة الخامسة والعشرين من عمرها الطبيعي ولدت «مي زيادة».
لعلنا نظلم مي زيادة ــ نظلمها بعض الشيء ــ إذ نذهب إلى إن هاجس الوجاهة الأدبية الاجتماعية كان أغلب عندها، وعليها، من هاجس الكتابة، غير أن شيئًا من هذا القبيل من الظلم ضروري لفصل القمح من الزؤان في بيدر هذه الشخصية، التي لا يقلل من فذاذتها أن حياتها التي امتزج فيها الشخصي بالعام، وامتزجت فيها «ثقافة العفة» بـ«ثقافة التحرر» كانت، وتبقى، أبهر بكثير من كتاباتها التي قلما تعبر عن هذا الجدل، بل نقول، ولو بدا في ذلك بعض المبالغة، إن الظلم في هذا المقام أداة من أدوات النقد الأدبي، وعمدتنا في ما نقول سيرة مي برواية دارينا الجندي. فحيث لم يخل أحد من الذين كتبوا في سيرة مي من استجرار الاستشهادات من كتابات مي غصبًا عنها للتمثيل على هذا المشهد أو ذاك من مشاهد حياتها، تنجح الجندي في أن تقترح سيرة لمي يحل فيها الوصف الروائي الذي لا يعرف القارئ، تمام المعرفة، هل أن مأتاه الحقيقي تجربة مي في «العصفورية» أم تجربة الجندي في المكان الشقيق من «العصفورية» محل الاستشهادات.
عرفت مي جمهرة من كبار عصرها فراسلت جبران، وتنزهت صحبة الريحاني، وعزفت لطه حسين، وأغرمت وأغرم بها، ثم دقت الساعة التي لم يملك أحد ممن تعاقبوا على سرد سيرة مي في تفسيرها تفسيرًا مانعًا. أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي، على مشارف الخمسين من العمر، بدا وكأن مي اكتفت بكل ما عاشته، وهنا يبدأ الفصل الثاني من سيرتها الذي اقتيدت فيه، من خلال دسيسة عائلية تحركها أطماع بعض أقربائها إلى الاستئثار بالإرث الذي آل إليها بعد وفاة والديها، إلى «العصفورية» حيث حجر عليها قرابة أربع سنوات قبل أن تفلح مساعي البعض، وفي الطليعة منهم أمين الريحاني والشيخ فؤاد حبيش، في الفك عنها، وفي إعادة الاعتبار لها. يصف جميل جبر، وهو ممن كتبوا في مي، هذه المرحلة من حياتها فيقول: «في هذا الطور من حياتها أعادت مي إلى أكثر مراسليها الرسائل التي وردتها منهم، وانكمشت على نفسها وتشرنقت». وإن يغامر الواحد في تأويل هذا الوصف الخفر لما أصاب مي، فله أن يفترض، أن محنة مي الكبرى ليست في الدسيسة التي دسها عليها أقرباؤها، والتي انتهت بها إلى «العصفورية»، وإنما في أنها، وسط عزلتها تلك، لم تجد السبيل إلى حياة أخرى، وإلى استئناف مسيرتها خارج القصر المسحور وحاشية الجن والجنيات التي كانت تحملها على الراحات.
هل نقول: لحسن الحظ إن مي أخفقت في تجاوز ما يسميه النفسانيون «أزمة منتصف العمر» فكتبتْ نفْسها، من جشع عائلتها التي لم تشأ يومًا أن تتخلى عنها، وعلى غفلة منها، وعلى غير إرادة على الأرجح، أيقونة من أيقونات الحركة النسائية العربية؟ حق، لربما، لمحنة مي زيادة أن تحمل على محمل الضارة النافعة لو أن ماري/مي كانت الأخيرة من بني جنسها التي تضيق بها البيوت ويضيق بها المجتمع فيحجر عليها في بيت طاعة هو الاضطراب العصبي، أما وأنها لم تكن الأخيرة، بشهادة دارينا الجندي، فبالطبع لا ــ أقله حتى إشعار آخر. شكرًا دارينا الجندي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى