البَحث عَن جُذور المُورِيسكيّين في شِبْه الجَزِيرَة الإيبيريّة

محمّد محمّد الخطّابي

تجدر الإشارة في مستهلّ هذا المقال أنّه بهدف ردّ الاعتبار لذاكرة اليهود الإسبان (السيفاراديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا ضمن عملية الطرد الجماعية النهائية التي كان قد تعرّض لها الموريسكيّون، من مسلمين وبعض النصارى واليهود، كان البرلمان الإسباني قد صادق بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 2011 على مشروع القانون المعدِّل للفصلين 21 و23 من مدوّنة القانون المدني الإسباني (الحالة المدنية الإسبانية) لهذه الغاية، ومعروف أن عمليات طرد وإبعاد الموريسكيّين عن شبه الجزيرة الإيبيرية تمّت تحت ذريعة خشية الحُكّام الكاثوليك الإسبان على هؤلاء من التكاثر، واستعادة نفوذهم، وبحجة واهية أخرى تتمثّل في التخوّف الذي كان هؤلاء الحكّام يتوهّمونه، وهو أنّ الموريسكيين كانوا يشكّلون خطراً على العرش الإسباني في ذلك الإبّان، عندئذٍ قرّر الملك فيليبّي الثالث، بعد أن أصدر ظهيراً أو مرسوماً بين 1609 – 1614 بطرد آخر الموريسكيّين من إسبانيا، الذين يُطلِق عليهم بعض الباحثين والمؤرّخين مُصطلح: «المًنصّرين» أو «المُهجّرين» قسراً وقهراً وعنوة.

المُوريسكيّون والتشريع الإسباني

القانون الإسباني الآنف الذكر لم يعر- بالمقابل- أيَّ اهتمامٍ أو اعتبارٍ لذاكرة الموريسكيين المسلمين الأندلسيين، الذين شملهم هذا الطرد كذلك، في الظروف والملابسات التاريخية نفسها، وتحت طائلة القوانين الإسبانية التي كانت سائدة عند بداية القرن السابع عشر. وتجدر الإشارة في هذا القبيل إلى أنه على إثر المصادقة على هذا القانون في إسبانيا كانت وسائل الإعلام الدولية والإسبانية والعربية على وجه العموم، والمغربية بشكلٍ خاص قد تعرّضت لهذا الموضوع المُجحف، واستنكر غير قليل من المثقفين، والمفكرين، وكذا بعض الجمعيات والمؤسّسات التي تُعنى بتاريخ إسبانيا وبالأندلس، وفي طليعتها ـ في ما يتعلّق بالمغرب – «مؤسّسة ذاكرة الأندلسيين» التي يوجد مقرّها في الرباط، والتي يرأسها الباحث محمد نجيب لوباريس (الذي تنحدر جذورُ عائلته من أصول موريسكية أندلسيّة)، وكانت هذه المؤسّسة قد نظمّت منذ عام في العاصمة المغربية الرباط لقاءً دولياً تحت عنوان (القضيّة الموريسكية في ضوء التشريع الإسباني ومنظومة حقوق الإنسان)، بمشاركة نخبة من الباحثين، والخبراء المتخصّصين من المغرب، ومصر وإسبانيا والبرتغال، حيث بادرت هذه المؤسّسة للبحث عن أنجع الوسائل للدفاع عن حقوق هؤلاء الموريسكيين المسلمين المطرودين الذين تجاهلهم القانون الإسباني الجديد، والبحث عن العناصر القانونية التي ينبغي أن تعتدّ بها لردّ الاعتبار لذاكرة هؤلاء الموريسكيين، وإنصافهم أسوةً بذاكرة السيفاراديم اليهود، أمام المشرِّع الإسباني، ذلك أن كلاً من الموريسكيين المسلمين، والسيفارديم كانوا – خلال عملية الطرد- رعايا الدولة الإسبانية في ذلك الأوان.

القضيّة الموريسكية

كانت الغاية من وراء إقامة هذه الملتقيات الحقوقية والعلمية الدولية تسليط الأضواء على هذا الموضوع، والانكباب على دراسة مختلف جوانبه التاريخية والقانونية، ورصد كلّ العناصر التي لها صلة بما أصبح يُعرف بـ«القضيّة الموريسكية»، على ضوء التعديل القانوني الإسباني الأخير، عبر مقتضيات الدستور، ومنظومة حقوق الإنسان، وتحفيز الجهات الإسبانية المعنية، والرّأي العام في سائر البلدان المغاربية وإسبانيا، وعلى الصعيد الدّولي حيال الحقوق التاريخية لهؤلاء الموريسكيين مثلما حدث مع اليهود السيفاراديم. ويُذكر أنّ العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم اعتذاراً علنيّاً أمام الملأ لليهود (السيفارديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا، ولم يقم هو، ولا خلفُه العاهل الإسباني الحالي فليبي السادس بالبادرة التاريخية نفسها حتى الآن مع الموريسكيين المسلمين، يُضاف إلى ذلك أنّ القانون الإسباني الجديد المتعلّق بالحالة المدنية، قد خوّل لما ينيف على 4500 من اليهود السيفاراديم الحصول على الجنسية الإسبانية بأقرب السّبل، وفي ظروف جدّ ميسّرة. ولم تصوّت الأحزاب السياسية الإسبانية المعارضة لصالح هذا القانون، بل إنها عارضته وتوخّت إصلاحه، لإضافة العناصر التي تخوّل للموريسكييّن المسلمين التمتّع بالمزايا والحقوق والصلاحيات نفسها التي منحت لليهود، إلاّ أنّ «الحزب الشعبي» الإسباني الحاكم أمكنه أن يمرّر هذا القانون بحكم الأغلبية السّاحقة التي كان يتمتّع بها أو يتوفّر عليها في البرلمان الإسباني في ذلك الوقت.

إقصاء تعسّفي وإبعاد قسري

أزاحت مختلف الملتقيات والندوات التي نظمتها «مؤسّسة ذاكرة الأندلسيين» الستار، وأماطت اللثام عن غير قليل من مظاهر التظلم والإجحاف والتطاول، الذي طال الموريسكيين في الأندلس الذين تعرّضوا لعمليات طرد، وإبعاد وتهجير قسري، وإقصاء تعسفي من مَواطنهم، وأراضيهم. والذين استقرّوا في سائر المدن والحواضر، والقرى والمداشر في المغرب، وفي الجزائر، وتونس وليبيا وفي أماكن أخرى في المشرق العربي، التي كانت واقعة تحت النفوذ العثماني. وأصبحت هذه المناطق والجهات مرتعاً وموطناً ومنزلاً، ومعقلاً ومهبطاً ومستقرّاً لأحفاد أحفاد هؤلاء الموريسكيين، الذين أقصُوا عن ديارهم في الأندلس في ظروف تاريخية صعبة، وملابسات عويصة لا تخفى على أحد، وما زال العديد من المباني والقصور والدور ذات الطابع الأندلسي الأصيل تقف شامخة شاهدة على عطاءاتهم الثرّة في إضفاء طابعهم عليها، وهم ما انفكّوا بالنسبة للمغرب يعيشون بين ظهرانينا في العديد من المدن المغربية ونواحيها، وكما في جنوب المغرب والتخوم الموريتانية حتى مُنحنى نهر النيجر، ففي سواحل الرّيف المتراميّة الأطراف توجد فيها أيضاً مجموعات سكنية إثنية متعدّدة تنحدر من الأندلس، منها فرقة مشهورة تُسمّى: «إندروسن» أيّ فرقة «الأندلسيين» الذين تمّ تهجيرهم من الأندلس كذلك، واستقروا في قبيلة بني ورياغل، بالقرب من مدينة أجدير(الحسيمة) شمال المغرب.

عِقدٌ من جُمان

ثمانية عقود من جُمان، تزيّن جيدَ الزمان وترصّع طوقَ التاريخ الإسباني في الأندلس، تجسّد لنا في بهاء ورونق وإبهار ماضي هؤلاء الموريسكيين الذين ولدوا، ونشأوا وأبدعوا في هذه الجزيرة المحروسة، هذا الإشعاع الذي خلّفه هؤلاء وأجدادهم أصبح اليوم الشغل الشاغل لغير قليل من الإسبان، وأمسى حديثَ الناس في كل منتدى ومنبر. وطفق الاهتمام بالإرث الحضاري العربي والإسلامي يتزايد وينمو في كلّ مكان من شبه الجزيرة الإيبيرية.
لقد شكّلت إسبانيا في الفترة الممتدة بين القرن الثامن والقرن الثالث عشر الميلادي جسراً حضارياً انتقل من خلاله هذا الثراء الهائل من المعارف والعلوم، التي برع المسلمون في التبحّر فيها إلى شعوب أوروبية أخرى ذات «ثقافة لاتينية مغلقة»، كما يصفها مننديث بيدال، وأمريكو كاسترو، وبيلاسكو إيبانييس، وغارسيا لوركا، ولوبث بارالت، وخوان غويتيسولو، وأنطونيو غالا، ومانويل دي لا بارّا، وكارلوس فوينتتيس، وأدالبرتو ريّوس، وإكرام أنطاكي وسواهم، منوّهين بالأوج البعيد الذي أدركته الحضارة العربية في الأندلس، بقيمة وأهمية ما ورثه الإسبان عن تلك القرون للوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية»، وهم يجمعون في هذا الصّدد على أنه يستحيل فهم الثقافة الإسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق بدون استيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة الإسلامية، بما فيها اللغة العربية.

الثقافة الثالثة ولقاء العالميْن

لقاء العالميْن الإسباني والسكان الأصليين في القارة البكر ينبغي أن يُضاف إليه عنصر ثالث مهم، وهو مكوِّن الحضارة الإسلامية، أيّ أنّ هذا اللقاء لم يكن لقاءً بين ثقافتيْن اثنتيْن وحسب، وهي الإسبانية والهندية الأصلية للهنود، بل ينبغي أن يُضاف لها عنصر آخر سمته الباحثة المكسيكية الرّاحلة إكرام أنطاكي (السورية الأصل) بالثقافة الثالثة، إذ بعد تاريخ 12 تشرين الأول/أكتوبر 1492 لم تكن الرقعة الجغرافية الإسبانية خالية من المسلمين من عرب وبربر، فمنهم من هاجر وفرّ بجلده، وهناك من آثر البقاء متظاهراً باعتناق الكاثوليكية، والذين نجوا سُمّوا بالموريسكيين، فقد كان منهم أمهر الصنّاع والمهندسين والعلماء والمعلمين، وخبراء الرّي والفلاحة والبستنة، بل ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية في البلاد ليس في الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل في مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصة في شمالها الشرقي بيد المسلمين. فكيف والحالة هذه ألاّ يحمل الإسبان الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذا «التأثير»؟ بل إنّ هناك من المسلمين المغلوبين على أمرهم من الموريسكيين مَنْ هاجر مع أفواج المهاجرين الإسبان، وإلاّ من أين جاءت هذه الدُّور والقصور ذات الباحات والسّاحات والنافورات والشبابيك المشربية العربية، التي بنيت في العديد من مدن أمريكا اللاتينية؟ ومن أين هذه الأقبية والأقواس العربية؟ بل والأبعد من ذلك حتى الكنائس التي كانوا يبنونها غداة وصولهم كان يظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح، واستعمل بعضهم الخطّ العربي المحتوي على أشعار، وحِكم وآيات قرآنية، اعتقاداً منهم أنّ كلّ ذلك كان من علامات الزّينة، والرّونق والتنميق في البيوتات الكبيرة في إسبانيا.

أدب المورسكييّن السرّي

الأدب السرّي أو ما كان يُطلق عليه بـ«أدب المنفى داخل الوطن» الذي كان عند هؤلاء الموريسكيين وهو أدب مؤثّر وبليغ يُسمّى باللغة الإسبانية الخاميادة أوالخاميادو أو الخامية بمعنى (العجمية أو الأعجمية)، وقد أطلِق عليه هذا النعت لأنه أدب مكتوب انطلاقاً من اللغة الإسبانية، ولكنه كان يستعمل حروفاً عربية، وكان الإسبان من ناحيتهم يطلقون هذا اللفظ على اللغة القشتالية المحرّفة بمزجها بكلمات عربية، وكان يتكلّم بها عرب إسبانيا في آخر عهدهم بالأندلس، ولمّا خشي الحكّام الكاثوليك على هؤلاء من التكاثر واستعادة النفوذ قرّر الملك فيليبّي الثالث بعد أن أصدر ظهيراً أو مرسوماً بين1609- 1614 – كما سبق القول- بطرد آخر الموريسكيّين من إسبانيا. ويشير الباحث لوبث بارالت إلى «أنّ هذا القرار الدرامي المُجحف الذي اتّخذه العاهل الإسباني، كان سبباً في إثارة جدل هائج ما زال يُسمع صداه حتّى اليوم».
وإذا كان هذا يحدث في القرن السابع عشر (1614) أي 122 سنة من وصول الإسبان إلى «العالم الجديد» (1492) فإنّ ذلك يدلّ الدلالة القاطعة على أنّ إسبانيا عندما «اكتُشِفت» أمريكا كانت لمّا تزلْ واقعةً تحت التأثير العربي الإسلامي الموريسكي، وأنّ العادات والتقاليد وفنون المعمار، وأسماء الحرف والمهن والصناعات والابتكارات والآلات البحرية، والعسكرية والفلاحية، وعشرات الآلاف من المُسمّيات كانت عربية أو على الأقل من جذر أو أصل عربي، وهي التي استُعملت في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وظلّت مُستعملة بها ولا تزال إلى يومنا هذا، جاءت هذه الحقيقة على لسان أحد جهابذة الاستشراق الإسباني وهو أمريكُو كاسترُو.

حفظ الذاكرة المشتركة للموريسكييّن

جدير بنا أن نعيد إلى الأذهان أنه كان قد صدر عن الندوة الدولية الأخيرة التي نظّمت في هذا القبيل في الرباط تصريح قصبة الأندلس باللغتين العربية والإسبانية، الذي تضمّن جملة توصيات منها: تأسيس مجمع للتوثيق والدراسات حول ذاكرة الأندلس والشّتات الموريسكي، للإبراز المعنوي للتراث الثقافي وللبصمة الموريسكية الأندلسية في الهوية الإسبانية ـ البرتغالية، وفي بلدان البحر الأبيض المتوسّط.
ـ المساواة بين الموريسكيين والسيفاراديم في القانون المدني الإسباني احتراماً لمقتضيات الدستور الإسباني 1978.
– الدّفع لمزيد من الحوار الحضاري لتجنّب الإقصاء، والإقصاء المضاد الذي يتعارض والمبادئ الديمقراطية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
– تنظيم ندوات للتعريف بالقضية الموريسكية ثقافياً، واجتماعياً وحقوقيّاً على الصعيدين المحلّي والدولي.
– دعوة السلطات الإسبانية للاعتراف بالحقوق الموريسكية وإحداث مرصد لذاكرة الاندلسيّين في الأوساط التعليمية والثقافية الإسبانية.
ـ ترشيح « الموريسكيين الأندلسيين» لجائزة أميرة أستورياس للاتفاق والانسجام والوفاق.
ـ وأخيراً قيام إســبانيا بواجب حفظ وصَوْن الذاكرة المشتركة للموريسكيين، وسنّ قانون لهذه الذاكرة من أجل تفعيل هذه التوصيات، واقتراح نيسان/ابريل من كلّ سنة يوماً وطنياً لذاكرة المُوريسكيّين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى