«الرجل ذو القناع الحديدي»… بين التاريخ والخيال الفني
زيد خلدون جميل
يعد إسكندردوماس (1802 ـ 1870) أحد أعظم الكتاب الروائيين في التاريخ الحديث، وقد شاهد الكثيرون الأفلام السينمائية المأخوذة عن قصصه وأشهرها «الفرسان الثلاثة» و«الكونت دي مونت كريستو». وقد امتازت قصصه بالإثارة المبنية على أحداث تاريخية خيالية على الأغلب. وفي الواقع أن قصة «الفرسان الثلاثة» كتبت على شكل سلسلة، واحتوى الجزء الأخير منها على قصة «الرجل ذو القناع الحديدي»، التي أثارت خيال الكثيرين، وكانت مصدر قصص أكثر من عشرين فيلما، مثّل فيها خيرة ممثلي السينما الغربية، وكذلك الكثير من الكتب التاريخية والروايات المقتبسة عنها.
الرواية
تدور أحداث الرواية في عهد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (1638 ـ 1715) وتتحدث عن وجود شقيق توأم للملك، ومحاولة أحد الفرسان زج الملك في السجن ووضع شقيقه محله، بدون أن يلاحظ أحد ذلك، ولكن العملية تفشل ويقرر الملك وضع شقيقه التوأم في السجن الانفرادي، مع وضع قناع حديدي على وجهه حتى وفاته كي لا يميزه أحد. هذه هي قصة «الرجل ذو القناع الحديدي» وهي قصة بائسة للغاية، ومن أبطالها الفرسان الثلاثة والفارس الأشهر في الأدب الفرنسي «دارتنيان». ونعود الى الواقع ونتساءل هل كانت الرواية مقتبسة عن حقائق تاريخية؟ وإذا كانت كذلك، فكيف تطورت الى رواية وأسطورة بحيث خلدها الأدب وامتلكت جوانب متعددة؟
خيال فولتير
لقد بدأت في ثمانينيات القرن السابع عشر إشاعة في الانتشار في فرنسا عن وجود سجين في أحد السجون الفرنسية ممنوع من الاختلاط بالآخرين وقد أجبر على ارتداء قناع مخملي (أي من قماش القطيفة) كي لا يتعرف أحد عليه. وبالتأكيد أن التكلم في هذا الموضوع آنذاك كان فرصة رائعة لقضاء الوقت، فأجمل القصص هي فضائح الكبار، ولا يوجد أكبر من الملك، خاصة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الذي كان يدعى ملك الشمس، واعتبر نفسه ممثل الله على الأرض (لم يكن الوحيد في هذا الأدعاء) ولذلك فقد انتشرت القصة بسرعة في أوساط الأرستقراطيين والمتعلمين، وزادت معها التخمينات حول هوية هذا السجين المسكين. وسرعان ما أخذت القصة منحى سياسي وأصبحت أكثر إمتاعا للكثيرين، غير آبهين أنها تصب في مصالح جهات سياسية. فمثلا في أثناء حرب السنوات التسع (1688 ـ 1697) التي نشبت بين فرنسا وتحالف ضم هولندا والنمسا، قام الهولنديون باستغلال الإشاعة بنشر نسختهم منها، والتي كانت تفيد بأن السجين المسكين كان في الحقيقة عشيقا سابقا لوالدة الملك الفرنسي، وأن الملك ابنه وبذلك فإن لويس الرابع عشر غير مؤهل لتولي العرش لكونه ابنا غير شرعي، وليس ابن الملك الذي سبقه والذي كان لويس الثالث عشر. وفي فرنسا نفسها تعددت نسخ القصة وهوية السجين. ولكن أول المشاهير الذين كتبوا عن القصة كان الكاتب والفيلسوف والمؤرخ الفرنسي فولتير (1694 ـ 1778) الذي ادعى أن القناع لم يكن من القماش، بل من الحديد ومجهز بزنبركات كي يستطيع السجين الأكل. وادعى أنه سمع القصة من السجناء الكبار في السن في سجن الباستيل، حيث كان فولتير نفسه سجينا فيه، وكذلك السجين ذو القناع الحديدي في وقت سابق. وادعى فولتير أيضا أن السجين كان شقيق الملك نفسه، وأضاف أن ذلك السجين كان طويل القامة وفي غاية الأدب ويعزف الغيتار، وأنه كان يزود بأفضل الطعام كما كان يزوره مدير السجن فقط. ولكننا لا نستطيع أخذ ادعاء فولتير مأخذ الجد، فقد عرف بحقده على العائلة المالكة الفرنسية، خاصة لويس الرابع عشر.
كما إن فولتير كان معروفا بمحاولته المستمرة لإظهار معرفته بخفايا الأمور وإطلاق العنان لخياله عندما يهاجم أعداءه.
الحكاية ومتاهة التأريخ
كانت ادعاءات فولتير مثيرة إلى درجة أن إسكندر دوماس، اعتمد عليها عندما كتب سلسلة قصص الفرسان الثلاثة (1847 ـ 1850) وركز في الجزء الأخير منها على الرجل ذي القناع الحديدي، الذي كان حسب إسكندر دوماس، لم يكن الشقيق التوأم للملك الفرنسي لويس الرابع عشر، وحسب بل إنه ولد قبل الملك بدقائق ما يجعله وريثا تلقائيا للعرش الفرنسي، أي أن لويس الرابع عشر ملك غير شرعي لكونه ليس أول الأبناء. اهتم المؤرخون بالقصة بشكل جدي وانكبوا على دراستها، ونجحوا بالفعل في العثور على بعض المراسلات التي جرت بين مدير السجن في مقاطعة «بينرول»، التي كانت جزءا من فرنسا آنذاك، لأنها الآن جزء من إيطاليا، والماركيز دي لوفوا، رئيس الوزراء الفرنسي، الذي أبلغ مدير السجن في مذكرة عام 1669 بأنه سيتسلم سجينا يدعى «يوتاش دوغر» في خلال شهر، وأنه يجب أن يوضع في السجن الانفرادي ويمنع من الاختلاط بالآخرين باستثناء مدير السجن نفسه الذي عليه أن يزوده بالطعام واحتياجاته الشخصية فقط، وأن ينذره بأنه سيقتل في الحال إذا ابلغ أحدا عن هويته. وقالت المذكرة إن احتياجات السجين ستكون محدودة لأنه ليس سوى خادم خاص لأحد النبلاء. ولم يكن ذلك السجن عاديا لأنه كان مخصصا للسجناء السياسيين، ولمن يسبب إحراجا للدولة، وكان عدد السجناء فيه صغيرا. أما مديره فقد كان «بنين سانت مارس» الفارس السابق لدى الملك لويس الرابع عشر. وأوضحت المذكرة أن مدخل الزنزانة يجب أن يحوي بابين متتاليين كي لا يسمع أحد ما يجري داخل الزنزانة.
ويعتقد المؤرخون أن قصة القناع بدأت عندما انتقل المدير إلى سجن آخر، حيث اصطحب معه السجين، وكان مقنعا إلا أن المؤرخين لديهم تحفظات على هذه، القصة حيث أنهم يعتقدون أن السجين كان يُجبَر على ارتداء القناع عند التنقل من سجن إلى آخر فقط، وأن القناع لم يكن من الحديد، بل من قماش المخمل ويتفق هذا مع النسخ الأولى من القصة. وقد انتقل مدير السجن من سجن إلى آخر مصطحبا معه ذلك السجين دائما، حتى وصل إلى سجن الباستيل مديرا له، وهناك وافت المنية السجين عام 1703 ودفن تحت اسم مختلف وكان في الخمسينيات من العمر، حسب الوثائق الحكومية الفرنسية. ومن الجدير بالذكر أن اسم السجين في الوثائق الرسمية من الممكن أن يكون مستعارا لإخفاء هوية السجين الحقيقية.
إن الذين يصرون على أن السجين كان من النبلاء أو حتى الشقيق التوأم للملك لويس الرابع عشر نفسه يدعمون رأيهم بأنه إذا كان السجين رجلا عاديا لأعدمه الملك، وهو حل أكثر راحة من سجنه، إلا أن هذا السجين بالذات لم يعدم لأن القانون آنذاك كان يمنع إعدام أي فرد من العائلة المالكة، وهذا يعطي الانطباع بأن هذا السجين كان يمت للعائلة المالكة بصلة. ولكن المؤرخين يدحضون هذا الادعاء لكون أن المذكرة الحكومية ذكرت أن السجين كان خادما، كما أن هناك مذكرة أخرى تسمح للسجين بالعمل كخادم لأحد النبلاء المساجين والذي كان لديه خادم خاص به، إلا أن ذلك الخادم كان يمرض أحيانا، واشترطت المذكرة أن يكون النبيل والسجين بمفردهما دائما مع وجوب عدم إفصاح السجين للنبيل عن هويته. وكان من المستحيل آنذاك أن يعمل أحد أفراد العائلة المالكة كخادم لأحد ويدل هذا أيضا على أن هذا السجين لم يكن بالانعزال الذي قيل عنه. ولذلك فإن السجين لا ينتمي للعائلة المالكة بأي شكل كان. يضاف إلى هذا أن التاريخ لم يذكر شقيقا توأما للملك لويس الرابع عشر، ولم يكن هناك أي سبب لإخفاء هذا في حالة وجود الشقيق التوأم.
الخيال الفني كحدث تاريخي
لقد اعتمدت الأفلام السينمائية على القصة التي كتبها إسكندر دوماس وأصبحت تبدو للجمهور وكأنها تاريخ حقيقي وليس قصة خيالية. وغيرت السينما في الكثير من التفاصيل وجعلته عاشقا لنساء أهم العوائل الفرنسية، بعد ارتدائه للقناع وزعيما سياسيا أو حتى ملك فرنسا نفسها، وستستمر الأفلام والكتب عنه، ناسين أن الرجل المسكين عاش معذبا ويائسا ومات مجهولا، إذا فرضنا أنه كان موجودا فعلا. فالإعلام ينسى الآلام الإنسانية الحقيقية ويخلق أحلاما زائفة.
(القدس العربي)