الشاعر “منير الإدريسي”: الشعر هو أصفى الفنون التعبيرية

*نُشر الحوار مسبقًا في مجلة الشارقة الثقافية

*أجرت الحوار الشاعرة والإعلامية عائشة بلحاج

———————————————————————

منير الإدريسي شاعر من زمن آخر، يؤمن بالشعر كسبيل لخلاص الشاعر من العالم المتثاقل، ويسعى إلى كتابة شعرية أكثر حضورًا في ذات الإنسان المعاصر الذي هو أحوج ما يكون للشعر لتسكين قلقه. حاول في صمت وبأقلّ قدر من الضّوء أن يحفر في عمق القصيدة صوته الخاص، واستطاع أن يراكم تجربة متميزة، بالرغم من أنّه لم ينشر إلا عملين شعريين فقط: “مرايا الريش الخفيف”، و”انتباه المارة”، الذي صدر أخيرا عن منشورات بيت الشعر في المغرب، والذي اعتبره منير تجربة سابقة بما أنه الآن في مرحلة شعرية مختلفة أعقبت أعمالا مُكتملة لم تُنشر بعد، لكنها تظل تجربة لا تخرج عن المسار الذي خطّه لنفسه. لم يدع دراسته الأكاديمية لعلم النّفس والفلسفة تعيق رؤيته الشّعرية، التي تلتقي بحمولة فلسفية عميقة، تمنحه تبصرًا شعريًا منفردًا إلى روح القصيدة. هو شاعر مقل في النّشر، مُكثر في الكتابة. فيما يلي حوارٌ غير تقليدي مع شاعر مغربي له صوت خاص، حاولنا فيه تتبّع حفره لترسيخ رؤيته الخاصة للشعر.

= قلت مرة، “في البياض يوجد دائمًا شيء لنقوله، ما يخرس هو الخوف من أن تظهر لنا الكلمات وهي تهدّدنا، وتدمّرُ فينا ما يُغلّفُ تبر الذّهب”. وفق هذه الرّؤية، هل الكتابة الشعرية مخيفة كوسيلة لنبش ما لا طاقة لنا بالتعامل معه، من المخفي والمسكوت عنه في ذواتنا، أو مخيفة في المفاجئات التي تختفي خلف كلّ كلمة، في اكتشاف أشياء لم نعرف أنها موجودة فينا؟

– نعم في البياض يوجد دائما شيء لنقوله، لنغذّيه باللّغة ونغذّي اللّغة به أيضا. شيء يصافح فيه الوعي الحرّ اللامحدود فينا. لكن ما يخرس هو أننا نخشى منطقة الصفاء هذه، لأنها تقذف بنا بعيدا عن القواعد والأنظمة والأنساق الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية وما إلى ذلك من أبنية جمعية انبنت على مصالح مشتركة لإيهامنا بالحقيقة وهي ما يُغلّفُ ذواتنا الأصيلة اللامحدودة: “تبر الذّهب”. الشعر تحديدا، -واسمحي لي هنا أن أكون منحازاً في هذه النقطة للشعر، لكن بشكل موضوعي من خلال منطق رؤيتي للفنون التعبيرية- هو أحد أصفى هذه الأشكال إذ يحمل في جوهره قوّة التمرّد المباشرة على تلك الأنساق والأنظمة بما في ذلك لغة الأدب المدرسية، لغة البلد أو الأمّة. الشعر لغة مُعاكسة، ليست لغة يمكن تعلّمها من بين سبعة آلاف لغة يعرفها العالم. بل أشبه بطرس تحاول لغتنا التي تعلمناها الكشف عنه بامتصاصه من خلال نسيجها الشفّاف. قدرة الشاعر على خلق نسيج شفاف من لغته الأمّ هو رهانه الأوّل الرّهان الصّعب.
الخوف يأتي من هذا الكشف الذي قد يصطدمُ بجدار الدين، الدولة، المجتمع، الأخلاق، اللّغة، العادة، المواضعات الشّعرية، التحديدات الجمالية.. إلخ. لذلك لن نذهب أبعد في الكتابة إلاّ إذا استطعنا أن نمتلك تلك الجرأة.

= تكتب كثيرًا عن الشعر والشاعر، هل يشغلك مصير الشاعر خلال حياته مفردًا ومنفيًا في ذاته، أو الشعر كبكاء صامت لا ينتبه له إلا من يحدق جيدًا في تجلّي ذات الشاعر فيه؟

– عزلة الشاعر وتفرّده هي قوّته وليست ضعفه أبداً. ثمّة مقولة: العالم مقسّم إلى قسمين: الشعراء والآخرون. تُريحني هذه الرؤية، إنّها صحيحة جدّاً وملموسة إلى حدٍّ بعيد. ما من شاعر يتقبّلُ الواقع كما هو، الذين يتقبلون الواقع كما هو، ويذهبون فيه بعيداً بنجاح ليسوا شعراء، إنّما “الآخرون”. الشاعر ينسف ليبني عالما داخليا بديلا. بهذا المعنى هو العدوّ الذي يجب طرده. لا يبارك الشاعر المسيرة الإنسانية حتّى الآن، إنّه على الجانب الآخر، على الجانب النقيض. بُنيَت كلّ الحقائق على الوهم لتبرير السلطة، الشاعر يمسك ممحاة كبيرة إزاء كلّ هذا، يفرض ذلك عليه عزلة. أنا معنيٌّ بشأن الشاعر وشعره لتأكيد هذه الحقيقة فحسب. لاستجلاء بعض اللّبس أيضا.

= كتبت أيضًا، أنه ليس هناك أبدًا شاعر كبير، هناك فقط تنفّس عميق في نص. إلى ما تشير هنا؟

– أشرتُ هنا إلى ضرورة قراءة الشّعر بعيداً عن اسم صاحبه. إنصاف الشّعر وحده. الإنتباه إلى النّص بتخليصه من الحواشي التي قد تأكله. علينا ونحن نقرأ أن نتعلّم كيف نُبقي أحكام الذين سبقونا إلى القراءة جانباً. ثمّة سلطة يفرضها علينا الاسم إن لم نكن قرّاء بالمعنى الأدق للكلمة. لذلك يجب الانتصار لما نقرأ وليس لمن نقرأ. وهذا هو المتوخى من قراءة الشّعر، لأنّها قراءة لدواخلنا نحن، استنطاق العالم من خلال الشعور المُغذّى بوعي عميق. وهذه القراءة تحتاج منّا أن نكون بمسافة آمنة من التشويش. أن نكون في منطقة عزلة عن التأثيرات الخارجية. أن نتيح لتنفّسنا في النّص، تعميق هذه الحالة.
لذلك قد يبني وعيك نصٌّ قصير لشاعر مغمور حجرا.. حجراً.. كما لن يفعل شاعر كبير ومهم في أعمال كاملة. ثمّة شعراء كبار يتحدّث عنهم الجميع كما لو يتحدّثون عن أبطال الإغريق، كانت أيديهم قصيرة عن أن يرموا لي كقارئ حبلا لتأمّل هذا العالم أو يجدّدوا وعيي أو يدهشونني بصنعتهم.. أبداً. أتحدّثُ من واقع تجربتي الذاتية وأتساءل بيني وبين نفسي عن السبب. يكمن الجواب ربّما في أنني أربط غالبا تجربة الشاعر بوعيه الشعري الذي هو حجم أكبر من اللّغة، اليقظة الشعورية التي تمتلك عقلا صافيّا. كثيرا ما تستندُ مهارة الشاعر عندنا إلى تعامله الرفيع والبديع مع لغتنا. إنّها على الأغلب محاكاة لشعراء آخرين، إنّها مهارة النقّاش على الحجر. بالنسبة لي الشّعر يقع في منطقة أبعد من ذلك. ونباهة التعامل مع اللّغة ليست هنا، إنّها في استجلاء ذلك الطرس الذي سبق وتحدّثنا عنه.

= ماذا إذن عن الكتابة باعتبارها مشروع شاعر بعينه؟ هل هناك تعارض بين هذا وبين ما أسلفت؟

– فيما يتعلّق بكلمة مشروع، أعتقد أنّنا جميعاً مشاريع أنفسنا شعراء وغير شعراء. يمكن تقبّل كلمة مشروع حينما نعني بذلك وجهة النظر الوجودية السارترية ونطرحها للنقاش؛ نتّفق أو نختلف. لكن ليست مريحة بالنسبة لي حين يتحتّم علينا الكلام في الشعر. أفضّل عليها كلمة: “الأثر”. كلمة مشروع تقف عند العتبة مسائلة الأفق الذي لا يراه سوى الشاعر، بينما كلمة أثر هي في المُتحقّق فعليّا، في مُنجز النّص الواحد أو في ما يسمّى بالأعمال الكاملة أو غير الكاملة الذي باستطاعتنا لمسه، قراءته. هل هناك تعارض؟ ! لا أعتقد ذلك.

=في مجموعتك الشعرية الجديدة “انتباه المارة”، نلاحظ طغيان ما هو بصري من المشاهدات التي سجلتها مخيّلة الشاعر وذاكرته، بحيث يلتقي بما هو فلسفي تأمّلي، مثلما كان تقريبا توجه المجموعة الأولى؟

– “انتباه المارّة” هي مجموعة شعرية قديمة، كتبتها قبل عشر سنوات، صدورها كان متأخراً وقد حذفت منها الكثير، وأشعر أحيانا بأسف على ذلك. أنا في مرحلة وعي شعري ووجودي مختلف. طبعا بسبب المسافة الزّمنية يُحرجني الحديث عن مرحلة سابقة وإن كانت وستظلّ بالنسبة لي مهمّة، مع أنها لم تلاقي ذلك الإنتباه الذي تستحقّه. على العموم أنا الآن أرأب صدعا كبيراً حيال هذا العالم. لقد تصدّع هيكلي بخيانات كبيرة أهمّها الزّمن والفقدان. على القصيدة الآن أن تدخل قاعة التمريض وأن تمرّن قدمها على الوقوف من جديد في أفق جديد. هواجسي لم تُفقد بعد، لازلت حيّا، وروحي صلدة بعد العاصفة. حين ألتفتُ إلى قصيدتي السابقة أشعرُ أنّها مثل كلبة وفيّة قامت بما في وسعها لتقف في زمنها الشعري، لذلك تستحقّ تربيتة على الرّأس. لقد كنت منذ أوّل مجموعة أكثر جرأة في أخذ مسافة من الشّعر الذي كان يُكتب بتصورات جماعية. لقد نظرت إلى خياراتي وراهنتُ عليها رغم صداميتها أحيانا، واختلافها. “انتباه المارّة” أُنجزتْ في مرحلة تأثري بفنّ الرّسم الإنطباعي، هذا التأثر كان بمثابة أعمدة للعمل تلتقي في مزيج مرحٍ مع تصوّراتي، أي المضمون الشعري الذي أضعه تحت المكبّرة. لست رسّاما ولكنّي شاعر، وتأثري بهذا الفنّ الكبير أفضى إلى تأمّل عميق، وكل تأمّل هو وجهة نظر أو فلسفة. فلسفة لم تقم على منهج ولا على حكمة، بل على الشّعر. النظرة أوالتأمّل عبر حاسة البصر للطبيعة للون والضوء كانا هما الممرّ للشعور وحدس الفكرة. وعلى هذا الأساس يجب أن تُقرأ. أعتقد أنّني أحوز مفتاح قراءة نصوصي، وقد خبأته في مكان ما فيها، وعلى القارئ أن يجده. هذه لعبتي التي أقترحها.

=وحدك تحمل مفتاح قصيدتك؟ ماذا لو لم يجده القارئ؟ هل أنت ممّن يؤمنون بأن القارئ كاتب ثان للنص يفتحه بمفتاحه الخاص؟

– بعض النصوص نحتاج إلى مفاتيح لقراءتها، لا أعني بذلك أننا بصدد فكّ ألغاز. أو أن نجعل القراءة عسيرة الهضم على القارئ. أو أن نقفل النص بتعابير غامضة، أو نومئ للمعنى على طريقة “كليلة ودمنة” لأننا نخاف الجهر بوجهة نظرنا؛ لا أبداً. إذا كان الغموض في الشّعر يعني ذلك، وقد كان ربما في نظر الدارسين في مرحلة مفخّخة بحواشي الأسئلة حول الشعر العربي وواقعه السياسي أو بعده الرّمزي يعني ذلك، فأنا لا أعتبره مسألة شعرية ذات أهميّة. لكني أعني بالمفاتيح القدرة على قراءة النّص في ما يطرحه من جدّة، من أفق مُغاير، من صلابة رؤية.. ثمة قرّاء وبمعنى دقيق قرّاء يقترحون أنفسهم كنقاد يشقّ عليهم انفتاحهم على أفق آخر من التفكير أو التزحزح عمّا ألفوه من رتابة، إنّهم يريدون تذوق الحلوى ذاتها بالمقادير المتّبعة. إذا كنّا قارئين جيدين ولنا مرجعية لا بأس بها لإدراك المختلف فسنبحثُ عن المزيد من الدهشة، تلك الدهشة التي نقف فيها عند عتبة السؤال، وسؤال الشعر تحديدا الذي نريدُ توسيعه من خلال سؤال وجودنا وعلاقتنا معه. أنطلق إذن من رؤية خاصة للعالم وذاتية للشعر. أعتقد أنّ هذا أبسط حقوقي في الكتابة. أومن بالفردانية في أبعد تجلياتها وعلى هذا الأساس ومنه أنطلق. على النص أن يضاء الكثير من زواياه إضاءة ساطعة. وفي المفردة ذاتها قد لا نعثر على مشترك وإنّما على معاني جديدة في حقل إمكانية شعرية أخرى. وعلى القارئ أن يصل المحدّد والمقصد، كما عليه أن يعي أنّه يدخل منطقة صافية متخلّصا من أيّة مرجعية مُطمئنّة. بالطبع، لا أترك الكلمة وحدها في عماء إنّي أرفقها بحشدٍ من تصورات تبني النّص. ليست بالضرورة من ذات النّص فقط، بل من توليفة العمل ككل. من الوجهة التي أقترحها عليه للدخول إلى تمثّل الحالة الشعرية. أتعامل مع القارئ بكلمات بسيطة لكنّها مغسولة، إذ على الشّعر أن يحرّرنا من الكلمات التي تريد قتلنا، على الشّعر أن يبني وعينا من جديد بالعالم ويخلّصنا من التبعية.
أما بخصوص سؤالك المتعلق بالقارئ ككاتب آخر للنّص، فقد اتّخذ تأويل هذا الكلام تشعبات مُتعدّدة ومفاهيم جديدة. لن نتعمّق في تلك التصورات حول “النّص المفتوح” أو “موت المؤلف” أو ما يجاورها من مقاربات اجتهدت بكلّ ما أوتيت من جهد في البحث في صلة القارئ بالمقروء من جهة، وكاتبه من جهة ثانية. لكنني أعتبر القارئ أحد زوايا النّص وأركانه المهمّة. لكن، أيّ قارئ ولأيّ كاتب ؟ !. هذه مسألة تشغلني جدّا، وفيها الكثير ممّا ينبغي توضيحه.

= كيف تختلف تجربة الكتابة الشعرية من مرحلة إلى مرحلة، وما هي مرحلتك الشعرية الحالية؟

– كلّ مرحلة أو طور يجد لمسته في القصيدة، الأحداث التي يعايشها الشاعر، المعرفة التي يكتسبها والإستعدادات النفسية الشعورية الإنفعالية التي وُلدَ بها كلّها تبصمُ العمل. قد تتراكبُ لتصنع شيئا، قد تتصارع مع اللغة صراعاً متوتّراً فتخلق لحظتها، وآثارَها. قد تنفي وتُدمّرُ. لأجنّب شعري شعر اللّغة، أبني صور لغوية جديدة كي أصل معاني جديدة. أركّز في الكلمات خارج القاموس حيث البرد واللاجذور مثل الروح عارية، أرى من خلالها وأستشفُّ وأتبيّنُ. أُلغي عالمنا المتثاقل وأحفّزُ على الإنتباه من جديد إلى فجر النّص والمعنى الجديد الذي يومئ إليه. نشرت إلى الآن عملين شعريين، في حصّالتي الشعرية المزيد ينتظر، قد ينشر لاحقا إذا وجدت ناشرا. قد يبدو مختلفا لإنّها مراحل مختلفة، متباعدة، حيث يريحني التعدّد إذ ليس لي خطّ ممتدّ كسكة الحديد إلى أيّ أين. سوى أن أطيع صوتي الداخليّ الغامض الذي يحثّني على كتابة هذه القصيدة، وأسمح لنفسي بمزيد من التوسّع والإنفتاح.

= هل يمكن أن نتحدث عن توجهات شعرية عامة يسير فيها الشعر المغربي، يتأثر فيها الشعراء بنمط واحد في الكتابة الشعرية؟

– في كل المراحل السابقة كانت هناك توجهات شعرية عامّة تطبع كل مرحلة. لكن ستكون بالتأكيد وسط كلّ هذه الضجّة أصواتٌ متفرّدة.

= كيف للشاعر أن يصوغ صوته المفرد في الإيقاع، مثلما هو مفرد في ألمه الداخلي، وسط هذا التّناسخ الشعري الغالب والذي تساهم فيه وسائل التواصل الاجتماعي؟

– بأن يصغي إلى ذلك الغامض الذي يدفعه للكتابة، بأن يسير وفق ما يلحّ عليه. بألاّ يرتعب من البقاء وحيدا خارج السرب. بأن يمتلك معرفة أكبر بنفسه وبالشّعر، معرفة دقيقة. بأن ينظر إلى عالمه الداخلي الغنيّ ويواجه به العالم.

= في مجموعة “انتباهُ المارة”، هناك مقطع يقول: الكاميرا تقتنص مفردات العالم/ لتُكوِّنَ جملة واحدة بالأبيض والأسود/ بنفس الشِّعر. هل توافق على أن الشعر يلتقط صورا للحياة، صورا مجزأة تلتقط ملايين التفاصيل الصغيرة التي تشكل في مجموعتها أحداثًا كبرى؟

– جميل أنّك ذهبتِ إلى تلك المساحة. هنا أتحدّث عن الكاميرا في ذاتها. بعض الإختراعات الإنسانية مُذهلة، مثلا: آلات التصوير والآلات الموسيقية.. هذه الآلات حبل انبهار هائل، من حظنا أننا أمسكنا به. لأنّها تنصتُ برهافة بالغة إلى الزّمن وإلى تلك الطاقة الخلاّقة التي صارت هذا الكون الذي نعرف. في اعتقادي أنّ هذه الطاقة هي الشّعر. -لنتجاوز قاموس الكلمات غير مفهومة- إنّني أعتقد وهذا اعتقاد ليس خاصا بي، أنّ الشعر أكبر من أن يكون جنسا أدبيا. إنّه أكبر من كل التحديدات.. القصيدة مُحدّدة، تتخبّط في شكلها، وتصطدم بإشكالاتها عبر التاريخ لتمسك به. فالقصيدة ليست شعراً، إنّها محاولةٌ جادّةٌ ومهمّةٌ من أجل الشّعر. واللغة وسيلتها الخاصة. هذه اللغة سبب كبوتها وسبب انطلاقها في آن. ما يجعلها فريدة في هذا الكون هو أنّها تحمل النظرة واللمسة الحانية الإنسانية للوجود؛ حتى لو كانت نظرة شرّ.
انعطافا على سؤالك العميق أرى أنّ القصيدة بذاتها حدث كبير، والتفاصيل الصغيرة التي تتطرّق إليها تكشفُ وجه الحياة الخائف الحذر كعصفور يهربُ حالما نلتفت إليه بنظرتنا التي أثقلها عالمنا.

= في نفس السياق هل الشعر رصد لحركة الإنسان ولشعوره؟

– .. وتأملاته أيضا وخيالاته وأوهامه وخساراته. إذا تخيلنا قراءة حركة الإنسان في التاريخ من وجهة نظر الشّعر الذي كتبه هذا الإنسان، سنكون قد قرأنا الجهة القلقة المنفعلة المتمرّدة والمتشكّكة والمتألّمة، الغنائية أو الشذرية التي تشبه الشرارة الحالمة أو الزفرة الحارقة من هذا التاريخ الذي زُوِّدَ بمزيد من الوسائل المُترفة للمعرفة والدّمار. وبما لا يدعو للشك سنكون قد قرأنا فصلا كاملا رهيبا لإخفاء الإنسان من أجل إظهار السلطة. حتى في ابتهاج الشّعر سنعثرُ على انسحاقٍ ويأس، وضياع الطبيعة من بين أيدينا.

= يقول لويس بونويل أن الفن وسيلة لتوثيق القلق الإنساني ومحاولة لهدم وتدمير الخوف بداخل روح الفنان، كيف استطعت السيطرة على هذا القلق عن وعي –وأنت القادم من الفلسفة-، وتقديمه بشكل غير ضاجٍ وكاشف، وتمكنّت من السّيطرة على الهواجس الفكرية للفلسفة بحساسية الشاعر القادمة من قدرته الشعورية الفائقة؟

– أعتقد أنني قادم من السؤال والدهشة فينبوعهما لا فلسفي ولا شعري فقط، بل هما معا أو أكثر من ذلك. الفلسفة درستها أكاديميا لوقت قصير ثم تخصصت في شعبة أخرى. الجامعة لم تقدّم لي الفلسفة التي كنت آمل، قدمتها بغير قليل من الحذر. لذلك ارتأيت أن أكون قارئا حرّاً، ولازلت أطالع بين الحين والآخر القضايا الفلسفية التي تثيرني لكن، ليس بحماس كبير. الفلسفة تساعدنا على الجرأة في طرح الأسئلة في الموضوعات المُفكّر فيها، وتساعد الوعي على النموّ وتخطّي الآراء التي تُقدّم على أنّها حقيقة، إنّها نشدان الحرية. حين تقرأ الفلسفة أو تفكّر بشكل فلسفي لن تستفيد أكثر من الإحساس بتلك اليد التي تدفعك من الخلف لتسقط في الفضاء، ثمّ حين تهبط إلى أرضك الجديدة بمظلتك الرّائعة عليك أن تدبّر أمرك بالطريقة التي تراها مناسبة.
إذا كانت الفلسفة هي إعمال العقل والتفكير المنطقي الذي يبدأ بسؤال الفكرة ليقود في النهاية إلى بداهة الفكرة، فإن الشعر يبدأ بالإحساس وينتهي إلى كلمات، مرورا بالطبع بالفكرة. لذلك لا أزال أفضل تعريف روبرت فوست الهادئ للشعر، إذ يقول: “الشعر هو ما ينتج عن عثور الإحساس على فكرته وعثور الفكرة على كلمات”. إذن، أسلوب الشعر أو مسلك تحقّقه مختلف عن مسلك الفلسفة. هذه هي لغة الظاهر التي تجعل من الشعر فنّا، ومن الفلسفة درسا معرفيا مثقلا بصرامته المنهجية التي ليست في الواقع سوى وسيلة، إنّما غاية الفلسفة هي تلك الومضة التي قد يرسلها الشّعر بشكل خاطف. لنتذكّر، بعض الفلاسفة كانوا شعراء حقيقيين. سيوران كان شاعرا، نيتشه أيضا، كتاب التاو هل هو شعر أم فلسفة؟ !. الذين بوسعهم فهم الشّعر في العمق لا يجدون حرجا في اعتبار هؤلاء جميعا شعراء. ولكي أصل هذا بدقّة سؤالك، أرى أنّ ما أنجزته لحدّ الآن لا يطرح فلسفة صريحة، قد يطرحُها ضمنيا كانفعال حالومي بالوجود يستبطن تصوّراً ناشئا عن إحساس يقظ أكثر منه فلسفة بليغة. بعبارة أخرى، لا يُقدّم درساً فلسفيّا بل يُقدّمُ شغفا بالطبيعة والضوء، بالآلات التي نُأخذ فيها بأنفسنا في ابتهاج ودهشة وانخطاف إلى أقصى التجربة الوجودية واللامرئي منها، بكيان الإنسان الحرّ، بالذاكرة، بالنظرة وبالكلمات وبجنوح الكشف الفزيائي المعاصر نحو الشّعر. لكن قد يحتاج ذلك إلى البطء لنستلذّه، ذلك البطء الذي قد نتلقّى به موضوعاً مُدركاً في أفق خيط بالغ الرّهافة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى