صالح الدمس: تعلمت من طفولتي وعملي كـ’بوسطجي’ كيف أكتب

حسونة المصباحي

الكاتب التونسي صالح الدمس المولود عام 1950 في بلدة منزل عبدالرحمان، قرب محافظة بنزرت في أقصى الشمال التونسي، يكاد يكون صنو الكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان. فهو مثله “بوسطجي”.

وإذا ما كان صاحب “مالك الحزين” قد انقطع عن عمله كـ”بوسطجي” ليتفرغ للكتابة والعمل في مؤسسات ثقافية، وصحافية، فإن صالح الدمس ظل يمارس مهنته حتى بلوغه سنّ التقاعد.

ومثل إبراهيم أصلان تعلم الدمس من مهنته الاختصار، واختيار الكلمة الدالة والموحية، واجتراح مواضيع قصصه من حياته الشقية، ومن حياة الناس البسطاء في بلدته الصغيرة المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

يحب صالح الدمس العيش بين البحارة والمزارعين والعمال. وهو لا يختلط بالمثقفين إلا لماما. فهو يعزف حتى عن حضور الندوات والملتقيات. وربما لهذا السبب ظلت شهرته كقصاص موهوب منحصرة في دوائر ضيقة.

وثمة سمات مشتركة بين هذا الرجل الطريف، الوفي لأصدقائه، وبين الراحل محمد شكري، فكلاهما عاش طفولة شقيّة. فقد انفصل والده عن أمه ولم يكن عمره قد تعدى بضعة شهور. وعندما كبر لم يعرف حنان الأبوة.

كل هذا ترك في نفس الكاتب جراحا ظلت مفتوحة حتى هذه الساعة. متحدثا عن طفولته، يقول صالح الدمس “لم أتحدث إلى والدي إلا عند بلوغي سنّ التاسعة. وعندما انتقلت للعيش بين أبنائه الذين أنجبهم من زوجة ثانية، كان يتفنن في تعذيبي وضربي. لذا جاء أبي في أغلب قصصي وكأنه رديف للشر والقسوة والظلم والعداء”.

وهربا من الجحيم الأبوي، ترك صالح الدمس البيت العائلي ليهيم على وجهه في أماكن مختلفة. ومع ذلك حصل على جائزة اللغة العربية في المعهد. ولكن لم تحرمه سنوات التشرد من قراءة أمهات الكتب.

عن ذلك يقول ”بالنسبة إلي، القراءة سبقت الكتابة. كنت أقرأ من دون توجيه. كنت أقرأ لأن القراءة كانت هروبا من عالم قاس ومقفر من الحب الإنساني. وعندما كتبت أول قصة، وكان ذلك عام 1967، كنت قد أتيت على أمهات الكتب في الأدب العربي القديم، والحديث. ولم أنتبه إلى الأدب العالمي إلا بعد ذلك بسنوات قليلة لأكتشف عالم الوجودية من خلال ألبير كامو وجان بول سارتر. ثم تعددت قراءاتي بعد ذلك لتشمل روايت شارل ديكنز، وإرنست همنغواي الذي أحبه كثيرا، وألبرتو مورافيا، وإسماعيل كاداري، وأرثر ميللر، وكافكا، وفلوبير.. كما قرأت الأدب التونسي، وأعجبت كثيرا بجماعة ‘تحت السور‘. لذلك حين أكتب قصصا، فإن تراكمات عدة تؤثّث مناخي. ولا يمكنني أن أجزم بأن هناك كاتبا أثر فيّ أزيد من آخرين”.

عند بلوغه سنّ العشرين، انقطع صالح الدمس عن التعليم ليصبح “بوسطجيّا”. ومتحدثا عن تجربته في البريد يقول الدمس “لقد أفادني عملي في البريد كثيرا في الكتابة. في ‘البوسطة’ كما نقول في لهجتنا التونسية، عالم عجائبي. عالم من الحكايات والأسرار والغواية. أحيانا حين أكون أمام أكوام الرسائل التي أفرزها أتساءل ترى ماذا كتب مرسلوها، وبأي لغة صاغوا كلّ تلك النصوص المحفوفة بالفرح والحزن، وبالحب والكراهية، وبالسعادة والشقاء. وكثيرا من المرات تمنيت لو أنني آخذها معي إلى البيت وأقرؤها كلّها. لكن فقدت المراسلات القديمة جماليتها مع غزو التقنيات الحديثة لحياتنا”.

يضيف “تمكنت في عملي من التعرف على حياة الناس، ومن الاحتكاك بهم، والنفاذ إلى أسرارهم”.

وعن الدعابة السوداء التي تتميّز بها جلّ قصصه، يقول الدمس “حين كنت صغيرا، كنت أتساءل دائما لم النساء يأتين دائما إلى منزلنا، ويجالسن أمي لساعات طويلة؟ وقد أدركت سرّ ذلك عندما كبرت. فقد كانت أمي، رحمها الله، تمتاز بطرافة نادرة بين نساء البلدة. كانت سريعة الضحك، صافية السريرة، وحكّاءة ماهرة. ورغم حزنها، كانت تقاوم الفقر بالدعابة والسخرية المرة في غالب الأحيان. لذلك حين أكتب قصصي، أحبّ أن أتماهى مع شخصياتها، وأحاول جاهدا أن أكون البطل المتخفي. كان والدي يبكيني بقسوته الشديدة، غير المبررة. أما أمي فكانت تضحكني حتى في الأوقات الأشد ضيقا. وأنا صبي تعلمت منها كيف أروي حكايات تضحك الآخرين، وتنسيهم همومهم”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى