‘حي بن يقظان’ بين ابن سينا والسهروردي وابن طفيل
محمد الحمامصي
إذا كان ابن سينا هو أول من كتب عن قصة “حي بن يقظان” وتلاه ابن طفيل ثم السهروردي وأخيرا ابن النفيس الذي غير اسم “حي بن يقظان” إلى “فاضل بن ناطق” إلا أن الباحث د. محمود إسماعيل رئيس تحرير سلسلة الذخائر الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة يرى في تقدمته للقصة بنصوص ابن سينا وابن طفيل والسهروردي والتي حققها وعلق عليها بدراسة قيمة أحمد أمين، أن القصة عند ابن طفيل كانت أنضج وأطول وأكثر استيعابا، وأن فلسفته كانت انعكاسا للصراع بين البرجوازية الآفلة والإقطاع الذي ساد العالم الإسلامي برمته منذ منتصف القرن الخامس الهجري وحتى مشارف العصر الحديث.
ويقول د. محمود إسماعيل إن فلسفة ابن طفيل عكست ازدواجية الواقع السياسي والاجتماعي الاقتصادي، ومن ثم أزمة الفكر والثقافة، لذلك عول ابن طفيل على الرمز في الإفصاح الخائف عن مكنونات ذاته، وهي منحازة للعقلانية من ناحية وتنطوي على إرهاصات مادية جدلية من ناحية أخرى، وفي الحالين معا تشي بنزعة إسلامية مستنيرة، وهذا يعني تعويله على مرجعيات متعددة تجمع بين التشيع والاعتزال والتصوف العرفاني الذي يحض على الثورة من منطق تنويري ينحاز إلى قوى المعارضة، ومع ذلك فإن فلسفته تعبر عن أزمة فيلسوف حرص على توجيه خطابه إلى النخبة المثقفة القادرة على توعية الجماهير الغاضبة لمواجهة سلطة مستبدة جائرة، كما تعبر عن خشيته من مغبة تلك السلطة وفقهائها حفاظا على حياته.
ويخلص د. إسماعيل في مقدمته إلى أن فلسفة ابن طفيل شأنها شأن فلاسفة الإسلام جميعا كانت تنطلق من الدين أساسا من ناحية، كما أنها كانت انعكاسا لواقع سياسي واجتماعي مضطرب لم يسمح لهم بالتعبير الواضح عن أفكارهم من ناحية أخرى.
ويلخص د. سليمان العطار في مقدمته أيضا للقصة بقوله “طفل رضيع تلقيه الأقدار على شاطئ جزيرة مهجورة خالية من السكان، فتلتقطه غزالة وتتولى تربيته، وبعد موتها يضطر إلى الاعتماد على نفسه فيحقق أعلى درجات المعرفة نتيجة الفطرة التي فطر عليها الإنسان من حب للاستطلاع بفضل قواه العقلية التي ميزته عن سائر الأحياء”.
ويرى العطار أنها أسطورة التقطها فيلسوفان ومتصوف: ابن سينا وابن طفيل والسهروردي المقتول، ليصبوا تصوراتهم الفلسفية رمزا في إطار المعرفة التي حازها بمجهوده الخاص حي بن يقظان. ويضيف أن الجانب القصصي قد تمت التضحية به عند ابن سينا والسهروردي لصالح الفلسفة فخلا من التشويق وتوارت القصة من الناحية الفنية ليغرقنا الراوي في رموزه، ويختلف ابن طفيل الذي يكاد يقع على أصول السرد الروائي الحديث وأصبح مسئولا عند عدد من الباحثين عن ظهور تلك الرواية الحديثة. وقد استلهمته السينما الأميركية في فيلم “طرزان” وأفلام أخرى تحمل نفس الفكرة لطفل الغابة الذي يتربى بين الوحوش ويصير منها وصديقا لها، ولعل السبب في هذه الطفرة ـ كما يرى عبدالعزيز الأهواني مؤسس الدراسات الأندلسية في محاضرات ألقاها في كلية الآداب لم تنشر ـ هو ظهور شريحة بورجوازية في عصر الموحدين تتصارع حتى القتل على الاقتراب من السلطة بالسيطرة العامة على العامة.
وتضم القصة ثلاث فئات تشمل شخوص الرواية ممثلين لها هم: الفلاسفة والمتصوفة والفقهاء. ويشير العطار إلى أن ابن طفيل في محاولته لفض هذا الصراع كتب هذه الرواية، فلم تكن رغبته في عرض فلسفته هي المحرك الأول للكتابة كما حدث عند ابن سينا والسهروردي ومن ثم اكتسبت الرواية بعدا اجتماعيا دفعه دفعا نحو بعض خصائص السرد الروائي من مثل تعدد الأصوات، واتخاذ الراوي مقعد القاص في أسلوب حر غير مباشر مرات كثيرة، وظهور شيء من الوصف مع تعدد الشخوص وظهور عامة الشعب وخاصته في الجزيرة المعمورة.
وفي دراسة محقق النصوص الثلاثة للقصة يرى د. أحمد أمين أن القصة تشبه في جوهرها كتابا يونانيا اسمه “إيمن دريس” “حافظ الناس” منسوبا إلى “هوملص” وهو محاورة امتزج فيها المذهب الأفلاطوني بمذاهب قدماء المصريين، وقد عرض هذا الكتاب وأشار إليه القفطي في تاريخ الحكماء.
ويوضح أن خلاصة حي بن يقظان لابن سينا أن جماعة خرجوا يتنزهون، إذ عن لهم شيخ جميل الطلعة حسن الهيئة مهيب قد أكسبته السنون والرحلات تجارب عظيمة، وهذا الشيخ المهيب الوقور اسمه حي بن يقظان وهو يرمز إلى العقل وقد اكتسب التجارب من السنين والرحلات، وهذه الرفقة ليست أشخاصا وإنما هي الشهوات والغرائز والغضب وسائر الملكات الإنسانية، والمجادلة بين الرفقة والتحدث إلى حي بن يقظان هو عبارة عن المجادلات التي تحدث عادة بين غرائز الإنسان وشهواته وضميره وعقله.
ويلفت أمين إلى أن رسالة ابن سينا القصد منها تبيين قوة العقل وتمييزها على ما سوى الإنسان من غرائز وملكات وفضل العقل عليها، وهدايتها ونجاتها إذا سمعت لقوله، ثم بيان علاقة هذا العقل الأرضي بالعقول السماوية العليا ثم هذه كلها بالعقل العاشر وهو العلة الفاعلة أو بعبارة أخرى هو الله واجب الوجود.
ويرى أمين أن حي بن يقظان عند ابن طفيل شيء آخر، هو أيضا يتصل بالعقل ولكن على نمط آخر، هو رسالة بناها على نظرية له، وهي أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول إلى الله بحيث يستطيع بعقله أن يصل إلى معرفة العالم ومعرفة الله، وعنده أن المعرفة تنقسم إلى قسمين معرفة حدسية ومعرفة نظرية أو بعبارة أخرى معرفة مبنية على الكشف والإلهام كالتي عند الصوفية ومعرفة مبنية على المنطق كالتي عند العلماء، أما الأولى فيمكن الوصول إليها برياضة النفس فتنكشف لها الحقائق كأنها نور واضح لذيذ يومض إليه حينا، ثم يخبو حينا وكلما أمعن الإنسان في الرياضة تجلت له المعارف. وأما النوع الثاني من المعرفة فهو مؤسس على الحواس والمعرفة بالحواس تتألف وتتركب وتستنتج منها نتائج علمية هي أيضا نوع من المعرفة التي يسميها المعرفة النظرية.
ويؤكد أمين أن ابن طفيل في “حي بن يقظان” يذهب المذهب العقلي والكشفي معا وأن الإنسان بملكيته هاتين يستطيع أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ومن المعقول إلى الكشف وأن الفكر مستقل عن اللغة، فإنا نعلم أن الفلاسفة الشرقيين والغربيين قد اختلفوا اختلافا كبيرا هل يمكن العقل أن يفكر من غير لغة، أو لا بد له من لغة، فلما كان حي بن يقظان وصل إلى ما وصل إليه وهو لا يعرف لغة حتى وصل إلى الكمال دلّ ذلك على أن الفكر يمكن أن يكون مستقلا عن اللغة، ثم إنه يرى أن الإنسان وإن كان عاريا من السلاح ضعيف القوة، قليل البطش، وعاري الجسم، استطاع أن يغلب الوحوش بقدرة عقله وأن يصل إلى الغذاء وأن يكتشف النار وفؤائدها ويعرف خصائص أعضاء الجسم حتى لقد استطاع أن يعرف أن في كل مخلوق من جماد ونبات وحيوان شيئا روحيا غير الجسم فأدرك بذلك الروحانية.
ويضيف أنه إذا كان حي بن يقظان في نظر ابن سينا هو العقل الإنسان وفي نظر ابن طفيل هو الإنسان نفسه باحثا منقبا عن الحقيقة حتى يصل إليها، فإن حي بن يقظان عند السهروردي هو الإنسان الذي اكتمل عقله وأراد أن يصل عن طريق الكشف والذوق إلى معرفة ربه ثم وصل إلى ذلك بعد طول عناء. حيث أراد السهروردي أن يبين المرحلة الأخيرة للرقي عند الإنسان وهي اتصاله بالله وانكشاف العالم والتغلب على العقبات التي تعترضه من شهوات وطباع وغرائز وأنه لا يمكن التغلب عليها إلا بجهد كبير وإلهام من الله تشير إليه قصة الهدهد مع سليمان.
(ميدل ايست اونلاين)