لمحات ثقافية

مودي بيطار

سقوط بيت ذهبي

> يمزج سلمان رشدي المأساة الإغريقية بسلطة الثراء الفاحش في روايته الثانية عشرة الصادرة عن دار كيب. ترصد «البيت الذهبي» أو «بيت آل غولدن» أسرة من أب وثلاثة أبناء تشتري منزلاً فخماً بين حدائق مانهاتن الجميلة في بداية عهد باراك أوباما. يتساءل الراوي رينيه الذي يعيش في الحيّ ذاته إذا كانت الأسرة أتت من إنكلترا أو لبنان أو الهند، ويكتشف أن نيرو غولدن اعتمد اسماً مستعاراً ليخفي ماضياً حافلاً بالجرائم في بومباي، وأعاد ابتكار نفسه كمقاول أميركي كبير. ظلم الرجل أبناءه بأسماء رومانية وإغريقية، فغيّرها هؤلاء من بترونيوس ولوسيوس أبِليوس وديونيسوس الى بتيا وأبو ودي. تمتد الأحداث حتى انتخاب دونالد ترامب الذي يكتفي الكاتب بتسميته «المهرّج» وملك الرسوم المتحركة الأخضر الشعر الذي يبدأ انحدار أميركا معه.
يغيب السحر عن الرواية لتحضر أفعل التفضيل بكثافة. يعاني بتيا من القلق ورُهاب الأماكن المنفتحة، ويعالجهما بشرب كميات عظيمة من الكحول وبناء حياة سرّية على الإنترنت، فيصبح عبقرياً في الكومبيوتر. يتمتّع أبو بموهبة استثنائية في الرسم، ويتفوّق على سلفادور دالي في التقنية. يحتار دي الفائق الجمال في جنسه، ويدرس الخيارات المتاحة. يُفتن نيرو الأسطوري الثروة بروسية خارقة الجمال والجشع تقدّر بالنظر وحده، وبالسهولة ذاتها، قياس النوافذ وتابوت صديقها. ويعترف الراوي بأنه كثير المبالغة والثرثرة، ويتعرّف إلى العالم عبر الأفلام. حين يمحّص أسرة غولدن لا يستطيع التقرير إذا كانت تنتمي إلى «المواطن كين» أو «غود فيلاز»، ويدوّن انحدارها كأنه يكتب سيناريو.
يعرض رشدي الذي يعيش في نيويورك منذ خمسة عشر عاماً ثقافته الشعبية وموقفه السياسي، فيهاجم المهرّج «المجنون تماماً» الذي يرتدي معطفاً أرجوانياً وسروالاً واسعاً مقلّماً، ويترشّح للرئاسة. يتعامل المهرّج مع السياسة كأنها فرع من صناعة الترفيه، فيفاخر بنيّته بناء جدار عازل، ويسخر من الصحافيات اللواتي يخرج الدم من جسدهن. يشكو المتنمّر من اتفاق الزُمر ضده، ويدعو، هو المحتال، منافسته محتالة. «لسوء الحظ كانت هيلاري مرشحة سيئة» قال رشدي لصحيفة «ذا غارديان». «والكل، بمن فيهم أنا، أساء تقدير البغض الكبير لها حتى وسط اليساريين، الشباب والنساء».

حِداد على أنثى مفقودة

> قلة من النساء رفضت التحدّث حين طافت سفيتلانا ألكسيفتش تستنطق الذاكرة النسائية عن الحرب العالمية الثانية. جمعت الفائزة بنوبل الأدب التاريخ الشفوي طوال سبعة أعوام في السبعينات والثمانينات، وأصغت إلى مئات النساء. طيارات، طبيبات، قناصات، مدفعيات، طباخات، غاسلات، سائقات وعاملات هاتف. «رهيب أن نتذكر» قالت إحداهن»لكن النسيان أسوأ». صدر «الوجه اللانسائي للحرب» أولاً في 1985 بعد تعرضه لمقص الرقيب العابس: «عليك أن تكتبي عن النصر لا القذارة». يكتشف قارئ الكتاب الصادر كاملاً بالإنكليزية عن «بنغوين» معنى القذارة في الدعاية السوفياتية عبر شهادات رهيفة لشابات عدن من ساحة القتال وهن يشعرن أنهن فقدن فيها صباهن الى الأبد.
حاربت مليون امرأة في الجيش الأحمر. قائدة طيارة رفضت الإدلاء بشهادة كاملة قالت إنها لا تستطيع العودة الى ثلاثة أعوام لم تشعر خلالها أنها امرأة. حين طلب زوجها يدها وسط أنقاض برلين ثارت، وطلبت في المقابل أن يجعلها امرأة أولاً. صبّت الأخريات ذكرياتهن بالقص وإعادة التخيّل، وكلما ازددن بساطة، تطهّرت قصصهن من المعرفة الثانوية. ولدت الكاتبة في 1948 وسمعت عن أقارب قتلوا في المعارك، أو ماتوا بالتيفوئيد أو حرقوا أحياء بنيران النازيين. ساد حديث الحرب في قريتها الأوكرانية، وترمّل معظم السكان. تركت المدرسة لتعمل صحافية، ثم كرّست حياتها لتوثيق شهادات ضحايا الحروب والكوارث التي شملت الانفجار في تشرنوبيل والقتال في أفغانستان. لو عاشت في زمن دوستويفسكي وتولستوي كانت امتهنت الرواية. لكن الأحداث تتسارع اليوم إلى درجة لا يستطيع العقل البشري استيعابها، ولا الفن نقلها. ترى نفسها كاتبة، صحافية، واعظة وعالمة اجتماع ونفس، والعالم جوقة من الأصوات الفردية وكولاج من تفاصيل كل يوم.
بدأ المشروع حين قرأت ألكسيفتش في مينسك، عاصمة أوكرانيا، عن حفلة وداع لمحاسبة عملت قناصة في الحرب وقتلت خمسة وسبعين شخصاً. تلقّت أحد عشر وساماً، لكنها أدركت أن الحرب نادراً ما حُكيت بلسان النساء. لم تهتم بالبطولات أو ترَ شيئاً بطولياً فيها. كانت الحرب فعلاً مقزّزاً ومجنوناً، وشاءت التركيز على البشر العاديين الكبار. كثيرات من اللواتي تحدّثن إلى الكاتبة بذلن جهدهن ليقاتلن بعدما زوّرن أعمارهن، وتركن أطفالهن مع أفراد الأسرة ليقاتلن على الجبهة. لكنهن لم يجدن المجد هناك بل الهمجية والرعب والقذارة والإرهاق. سمعن جماجم الجنود الألمان القتلى تتحطّم تحت دواليب العربات. رأين جرذان ستالينغراد تلتهم حقائب الجنود لشدّة جوعها. شاهدن جثث البحارة في زيّهم المقلّم منفوخة كالشمّام. وربطن أطفالهن حول أجسادهن عند الذهاب في مهمّة. كان القتل أشقّ على حاملات الحياة منه على الرجال، وحاولن حماية حياتهن العادية بالتمسّك بتفاصيلها. لففن خُصل شعرهن حول أكواز الصنوبر، وطرّزن بين فورة قصف وأخرى، ووقعن في الحب. لكن العودة إلى البيت لم تكن بحجم الأحلام. قُتل رفاق ورفيقات كثر، اختفى أزواج، دُفن الأهل في التراب من دون تابوت، وكبر الأطفال وهم يجهلون أمهاتهم. بحث الرجال العائدون من الجبهة عن النعومة الأنثوية، ورفضن المقاتلات الخشنات. شعرت هؤلاء بالحداد على أنوثتهن المفقودة، وحتى اللواتي كن في العشرينات أحسسن أنهن فقدن شبابهن.
عاشت سفتلانا ألكسيفتش أحد عشر عاماً في فرنسا وألمانيا حين غضب عليها نظام ألكزاندر لوكاشنكو في أوكرانيا عام 2000. انتقد كثيرون منحها جائزة نوبل في 2015 قائلين إن جمع التاريخ الشفوي ليس أدباً، لكن عملها يبقى تأريخاً أدبياً بأرفع أشكاله.

رحلة أخرى

> أحد أفضل ممثلي هوليوود وأكثرهم تواضعاً، ويسلك في أوائل ستيناته طريقاً آخر لا يشجّعه النقاد عليه. باكورة توم هانكس القصصية «نمط استثنائي: بضعة قصص» الصادرة عن «وليم هاينمان» لم تجد معجبين كثراً. كانت «ذا نيويوركر» نشرت أفضل القصص السبع عشرة التي تناولت أربعة أصدقاء يدورون حول القمر بصاروخ صنعوه بأنفسهم. يظهر هؤلاء في قصة أخرى يرتبط فيها الراوي وآنا المهووسة باللياقة والحمية الصحية بعلاقة قوية يخبر فيها أفضل اتصال جنسي في حياته. لا يفصّل مشاعره خلالها أو الحزن الذي أعقب انتهاء العلاقة، وينتقل بسرعة إلى رحلة الأصدقاء إلى القطب الجنوبي. تسيطر العاطفية والأخلاق الحسنة على أجواء القصص، وتذكّر مشاهد الحرب بمثيلتها في أفلامه. تفتقر باكورة الممثل إلى العمق، وتسود لغة عادية تحفل بالكليشيهات المعاصرة التي تناقض صورة هانكس محاطاً بمجموعته الكبيرة من الآلات الكاتبة القديمة.

مادح نفسه

> تُعرض نسخة نادرة من «طريق سوان»، الجزء الأول من «البحث عن الزمن الضائع»، للبيع في مزاد لدار سوذبيز في باريس هذا الشهر بعد فضحها سرّاً يتعلق بكاتبها مارسل بروست. وُجدت طيّ النسخة مراجعات نقدية مادحة كتبها بروست بنفسه عن روايته، ودفع مالاً للصحف لكي تنشرها. كلّف أحد أشهر كُتّاب القرن العشرين ناشره طبع مراجعاته على الآلة الكاتبة، واعتمد اسماً مستعاراً لستر هويّته، وغضب من «لو فيغارو» لحذفها عبارة «مسيو بروست الرفيع المقام». أظهر الكاتب براعة فائقة في الترويج لنفسه، ولم يجد سبباً للتواضع في إغداق الثناء على أعماله. رأى «طريق سوان» تحفة صغيرة تقصي البخار المخدّر لأعمال الكُتّاب الآخرين مثل هبّة الريح. قارن نفسه بتشارلز ديكنز، وكتب: «ما يراه مسيو بروست ويشعر به مبتكر تماماً (وكتابته) تكاد تكون أكثر نورانية من احتمال العين».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى