جيم موريسون الشاعر تجاوز الموسيقي

انطوان جوكي

نحو نصف قرن مرّ على وفاة نجم موسيقى الروك ومغنّي فرقة «دورز» (Doors) الأسطورية، جيم موريسون (1943- 1971)، ومع ذلك لم يتمكن الزمن من النيل منه وطيّ صفحته. ولا شك في أن ذلك يعود إلى موسيقاه التعزيمية، المتقدّمة على زمنها، التي ما زالت تلهم وتسحر عدداً كبيراً من الموسيقيين وهواة الموسيقى عبر العالم، سواء بحيويتها الدوّارة التي تمتصّ المصغي إليها وترفعه إلى نشوة الانخطاف، أو بالكلمات التي تحملها، كلمات شعرية بامتياز، ذات غاية تحرّرية، تعكس ثقافة موريسون الكلاسيكية والمضادّة معاً، وأيضاً جانباً غير معروف كفاية من إبداعه، أي الشعر.
وفعلاً، بموازاة نشاطه الموسيقي، واظب موريسون طوال حياته القصيرة على كتابة الشعر، وكم كان محقّاً في منحه هذه الكتابات أهمية فائقة، ليس لأن الشعر يتقدّم على الموسيقى كفنٍّ، بل لأن إنتاجه الشعري يبقى أهم من إنتاجه الموسيقي، كما يتجلّى ذلك بسرعة لقارئ نصوصه التي يمكن أن نطّلع على مختارات واسعة منها في مجموعته «الليل الأميركي» التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «كريستيان بورجوا» الباريسية، مرفقةً بنصوصها الأصلية.
الصعوبة الأولى التي تواجه قارئ هذه المجموعة تعود إلى الفكرة الخاطئة المكوّنة حول موريسون الشاعر كشخصية شديدة الحساسية سعت إلى إسقاط انفعالاتها شعراً، بينما الحقيقة هي أنه هدف إلى تفجير اللغة «العادية» التي اعتبرها غير قادرة على التعبير عمّا يعتمل في أعماقنا. غاية يتطلّب فهمها التذكير بالأبحاث التي قادها رامبو ومالارميه في هذا السياق وأثرها على الابتكارات التي اقترحها إيليوت وفيرجينيا وُلف وقادت شعراء جيل الـ «بيت» في ما بعد إلى البحث عن الدلالات العميقة للأصوات في الخصائص الصوتية والإيقاعية للغة. وحين نعرف إعجاب موريسون الشديد بكتابات شاعرَيّ جيل الـ «بيت»، لورانس فيرلينغيتي ومايكل مور، منذ سنّ المراهقة، لا نعجب من إطّلاعه على هذه الأبحاث الجوهرية وتوظيفه إياها داخل أعماله الشعرية.
ولذلك، غالباً ما يجد القارئ نفسه أمام طريقٍ مسدود حين يحاول استخلاص وفهم معنى هذا النص أو ذاك من شعر موريسون، بينما المهم فيه هو تلك البنيات الشكلية، السمعية والبصرية، التي تجعل من ترجمة قصائده مهمة شبه مستحيلة. ففي بعضها، نجد أبياتاً يحمل السجع والجناس فيها أصواتاً أكثر تعبيرية من الكلمات التي تتألف منها. كما يلجأ موريسون أحياناً إلى بهلوانيات شعرية هدفها اختبار خصوصيات اللغة الإنجليزية، كتلاعبه بطبيعة الكلمات عبر قطعه بيتاً شعرياً في مكانٍ غير متوقّع يمنح الفاعل أو المفعول به في هذا البيت قيمة فعلٍ، أو تصريفه فعلٍ ما على طريقته. وثمة غاية أخرى، أكثر عمقاً، من تفجيره اللغة: التعبير عن مناخ عالمنا المديني والتكنولوجي المعاصر الذي لا تمكن محاصرته بلغة مبنية وفقاً لقواعد النحو.
في مطلع الستينات، أصدر الفيلسوف جون أوستين بحثاً ألحّ فيه على الوظيفة الأدائية للغة، وبالتالي على أن كل جملة تملك مفعولاً ملموساً على متلقّيها. بحثٌ لم يفت أيضاً موريسون الذي استعان بطاقات اللغة ومفرداتها من أجل إحلال علاقة مباشرة وشخصية مع قارئه الذي لم يعد بإمكانه التصرّف كمجرّد متلقّي أو «مُشاهد» للقصيدة. ففي أحد نصوصه، يهاجم هذا القارئ منذ البيت الأول بسؤاله: «ماذا تفعل هنا؟»، قبل أن يضيف: «أعرف ما تريد/ تريد نشوةً/ رغبةً وأحلاماً/ وهي مظاهر خادعة». تطلّعات يمكن لأي قارئ أن يقرّ بها، لكن بفضحه إياها، يجرّدها الشاعر من قيمتها، وفي الوقت ذاته، يحلّ مناخاً مقلقاً يضع القارئ في مواجهة مع نصٍّ يعرفه جيداً ويكشفه إلى ذاته.
باختصار، لا يسمح موريسون لقارئه بولوج شعره بطريقة سطحية، ومَن يبحث عن قصة مثيرة أو نظمٍ رشيق في نصوصه، يتعذّر عليه فهم شعريته، لأنه لا يتوق إلى سرد سلسلة أحداث بقدر ما يجهد في إحلال مناخٍ وإسقاط القارئ فيه للتأثير فيه ونقل له شعور الغرابة والضيق الذي يوحي به العالم المعاصر. ولتجسيد هذا الشعور، يستخدم غالباً بنية شعرية تقوم على التلاعب بالجانب الملتبِس للكلمات وعدم تثبيت معانيها بوضوح إلا في أبيات لاحقة.
وما يعقّد أيضاً عملية قراءة قصائده هو التلميحات الغزيرة إلى كتّاب آخرين وصعوبة محاصرة وتفكيك ما هو مضمور فيها. وفي هذا السياق، تكثّف ثقافته الواسعة نصوصه لأنها تلمس معظم ميادين المعرفة: الأدب طبعاً ولكن أيضاً التاريخ والإثنولوجيا والفنون والتقاليد الشعبية والحكايات والأساطير والتقاليد الباطنية، كالسحر والخيمياء.
وبالتالي، يتعذّر فهم نصوص موريسون في حال مقاربتها من منطلق أن جمال القصيدة يتأتّى من «عفوية» صاحبها أو «صراحته»، لأن شاعرنا لم يكتب تحت تأثير الإلهام إلا نادراً، وعالج نصوصه «العفوية» كمسودات أولى خضعت لإعادة تقييم نقدية وتغييرات جمّة. ولا نبالغ بقولنا إن كل كلمة في قصائده تأخذ مكانها بدقة محسوبة، وفقاً لجميع الكلمات الأخرى. وبينما تمكن قراءة كل قصيدة كنصٍّ مستقل لدى العديد من الشعراء، يصعب عزل أيّ نصّ له عن سائر نصوصه، وأحياناً كان يدمج قصائد عدة مشغولة سابقاً داخل نصٍّ طويل واحد. وإذ يتملّك قارئ شعره الانطباع بمقاربة مواضيع كثيرة مختلفة، من قصيدة إلى أخرى، لكن قراءته بعمقٍ تبيّن تواتُر موضوعات وصور محددة عمل عليها باستمرار من زوايا مختلفة، كما تكشف رغبة في زرع الحيرة والبلبلة في ذهن قرّائه، تتجلى خصوصاً في انعدام العنونة والترقيم والإخراج في معظم نصوصه التي تبدو مرمية على الورق من دون أي هاجس جمالي.
أما مواضيعه المحبَّبة فنستشفّها بسرعة لدى قراءة قصائده، وأبرزها الدين والجنس وشغف العيش وقدر البشرية والبيئة المدينية وإكراهات المجتمع، من دون أن ننسى السينما والفن الفوتوغرافي، والصورة عموماً، علماً أن الموت شكّل هاجسه الأكبر وربما سبب رحيله المبكر، نظراً إلى افتتانه بعالم الغيب ورغبته الملحّة في معرفة ما ينتظرنا بعد وفاتنا. وفي نصوص كثيرة له نقع أيضاً على فكرة أن الإنسان هو كائن يتعذّر التحكّم به لخضوعه لسلطة تتجاوزه، ويقع غالباً ضحية نفسه والرعب الذي يكوّنه ويحدّده. من هنا المفردات العنيفة الكثيرة في شعره، وأيضاً هاجس التفصيل لديه وتسمية الأشياء بكلماتٍ صاعقة تمنح قوة لقوله. فهو لم يكتب لبلوغ رقّةٍ، بل للتعبير عن قسوةٍ وعذابٍ، كما أنه لم يسع إلى شفافيّة في جُمَله، بل إلى شقّ بحر لغتنا المتخثّر. ومن هذا المنطلق، كتب:
«كل شيء مبهَم ومدوِخ. الجلد يتورّم/ ولم يعد من تمييز بين أجزاء/ الجسد. تصلنا اصواتٌ مهدِّدة/ ساخرة ورتيبة. إنه الخوف، إنها جاذبية/ الالتهام».

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى