‘خياليَّات’ قراءة فنية وتأملية ونقدية في أفلام سينمائية
خالد جودة أحمد
يعد كتاب “خياليَّات” للكاتبة رانيا مسعود، كتابًا مقاليًّا من وحي الذائقة والقراءة الفنية في عدد من الأقلام السينمائية.
وقد رأت الكاتبة أن تستعمل المفردة العربية “الخيالة” المناظرة لمفردة “Cinema” –تخزين الحركة وإعادة عرضها مرة أخرى- مبررة هذا الاختيار (واختيار هذه اللفظة نابع من إرادة قوية في إحياء ألفاظ بعينها تداعت عليها ألفاظ أجنبية، (فكانت لها كوأد الذهب في التراب)، وتأكيد الهوية نجده أيضًا في ظلال شروح النقد الاجتماعي برؤى الكتاب، حيث يعمد لتحرير المفاهيم وإيضاحها.
وتقول: (المجتمع المعتصر لأفراده بالعادات والتقاليد المنحرفة تمامًا عن المسلك الديني)، والذي تراه أيضًا في جانب المرأة (أبسط مظاهر الحرية المكفولة من الدين لأي امراة)، كما نرى تأكيد الهوية عبر تناصات عدة، مثال استعمال المفردة النبويَّة الرقيقة في تشبيه النساء بالـ”قوارير”، ومفردات أخرى، بل كانت الاستعانة بموقف كامل من السيرة الشريفة، من خلال تأصيل في سياق تاريخي لما أطلقت عليه الكاتبة “طفولة المشاهدة”، تقول: (عائشةٌ أنا بكل ما أريد من طفولة المشاهدة علي أكتاف النبي – لمشهد رياضي يدور بين الصحابة).
ويشدنا موقف طفولة المشاهدة إلى باعث التأليف، حيث تشير الكاتبة أنها تكتب عن أفلام مفضلة لديها منحوتة في الذاكرة بأزميل المتعة والمنفعة، حيث كانت موحية في بعض لحظات الحياة، أو كما تقول (السينما حياة تأخذ كثيرًا منا في عالم خاص، ربما تؤثر فيه أو يتأثر بها، فإما أن يعيش أسيرًا فيها أو تعيش هي بداخله).
وبالعودة إلى الجذر اللغوي بالمعجم الوجيز الصادر عن مجمع اللغة العربية لكلمة “الخيال”، قال: (الطيف وما تشبه لك في اليقظة والمنام من صورة)، و(دور الخيالة دور تعرض فيها أفلام السينما)، وفي الإيضاح أنها صورة مؤثرة في الشعور واللاشعور، في السلوك والعقل الباطن جميعًا، يقول عبدالمنعم شميس: (ُيروى عن أحد الفلاسفة أنه قال: أعطني مسرحًا وخبزًا أعطك شعبًا، ولو أنه عاش إلى اليوم لطلب فيلمًا سينمائيًا بدل المسرح، فقد أصبح الفيلم هو المؤثر الأول في حياة الجماهير.
وأصبحت الصور الناطقة ذات أثر قوي في الحياة الاجتماعية للشعوب مما لم يسبق له مثيل في الحياة الإنسانية)، ولسنا بصدد مناقشة فكرة استبدال السينما بالمسرح، وإنما للتدليل على حماس الكاتبة لفن السينما وتأثيره الاجتماعي، فإذا كان علماء نفس سينمائي قد أجروا بحثهم حول ظاهرة “لماذا يذهب الإنسان للسينما؟”، بسؤال آلاف البشر في شتى أصقاع الأرض، وكانت الإجابة تنحصر في قسمين كبيرين للتسلية وقطع الوقت، ولجلب المعرفة الجديدة، والمفترض أن يكون الفيلم فنًا خالصًا فيه لذة القلب ولذة العقل، يحتوي الترفية والتثقيف جنبًا إلى جنب، وقد اجتازت الكاتبة إلى هذا المفهوم في كتابها “خيالات”، حيث روح الكتابة شاهدة على ضرورة أن يحتوي الفن السينمائي المتعة والتثقيف والتربية معًا.
وحيث أن لكل نص أدبي لافتة أو عبارة مضيئة تمثل مفتاحًا للنصوص، أو العمود الفقري والمقولة المركزية الحاكمة لروح الكتاب الإبداعي أو المقالي أيًا كان نوعه، فإني أرى أن عبارة الكتاب: (أن مشكلاتنا الاجتماعية مبعثها الحب والعاطفة، وأن أغلب صراعاتنا لا ينبع إلا من قلوبنا التي لا تمارس العاطفة بصورتها المرغوبة) ، وعبارات مثيلة أخرى (أنماط قوالب اجتماعية ذات قيود صارمة تتحكم فيها العادات والتقاليد بعيدًا عن الدين والأخلاق)، (أعراف وتقاليد المجتمع متدني التفكير في أهمية العاطفة التي تغذي روح الإنسان).
والكتاب –في رأيى- يسعى إلى رصد رصد ظاهرة التصحر العاطفي في أفق الأسرة المصرية والمجتمع المصري على سواء، والتنقيب عن هذه الجذور اليابسة –أسباب- هذه الظاهرة المؤسفة، لذلك نجد الإلماح التربوي في ظلال الأسرة وتأثيرة على شخصية الأبناء، في حديثها عن شخصية “غادة” في فيلم “حب البنات”: (.. حالة الكراهية التي تسببت فيها العاطفة السلبية التي بثتها والدتها في ذهنها لسنوات … هي تجارب الأم المربية وغرس القيم والأفكار المغلوطة للعيش بطريقة مختلفة في هذا العالم المدهش)، وفي هذه المقالة المعنونة (سيكولوجيا الدراما في عودة معالجة العاطفة) نجد جذر يابس: (السر في الكثير مما نعانيه من أمراضنا النفسية يعود إلى صراعات تأزمت فيها مشكلات العدو خلف العاطفة التي قد تنهار في مجتمعاتنا النفوس بسببها، على الرغم من أنها تنحسر في حرفين اثنين لا ثالث لرباط يربط بين اثنين إلا من خلالهما: حب.
ومفتتح المقال نجد شروح المشكلة وعرض السبب والحل، ثم استعمال شخصيات وأفكار فيلم “حب البنات” لتفصيل ذلك كمجال تطبيقي لهذه الفكرة المركزية بالكتاب، بالتالي تسعى الكاتبة أيضًا لنفي الظاهرة السلبية من خلال فكرة أن الحب هو ترياق المحن النفسية، تقول: (.. هو ما جعل الفتيات يخضن تجربة الحب ويجربن العاطفة، وفي كل مرة يتصورن أنهن بالفعل مريضات حين يثير الحب في نفوسهمن ما يجعلهن يدركن يقينًا إصابتهن بالمرض النفسي).
كما ترصد الجفاف العاطفي بين قطبي الأسرة تقول: (أيكون حلمًا أن تلح زوجة على زوجها أن يأتيها بصحبة ورد، اشتاقت لتلمس خديها الناعمين بنعومة أوراقها حين تتلمسها بعد اشتمام رائحتها) ، فالقضية الحقيقة هي القضية الاجتماعية ودراستها في ظلال من وسيلة فنية طاغية “الخيالة”.
وتمتد مظلة رصد الجذور اليابسة إلى العائلات وصلتها ببعضها البعض، فتعمد لضرورة نفي قطيعة الأرحام، من خلال قراءة في فيلم “أسرار البنات”، تقول: (العلاقات بين العوائل لا ينبغي أن تنقطع أواصرها ولا يجب أن تنفك عراها) ، وتقدم حلًا بضرورة الفطنة في طريقة علاج تلك المشكلات: (الخالة تتعامل بدافع أمومي تقاتل فيه من أجل معالجة الأمر بعقلانية دون اللجوء إلى أي مظهر من مظاهر العنف)، والعلاج العقلاني منتج للشخصية المتزنة، وتصفها الكاتبة بالسحر الخاص، تقول: (اتزان الشخصية واتزان المشاعر بموازنة حساسة من صاحبة القرار حين تغضب لتلقي باللوم على من يتسرع دائمًا في اتخاذ قراراته دونما اعتبار لخطورة نتائجها، يصنع للشخصية سحرها الخاص).
وتشير الكاتبة لفيلم “السفيرة عزيزة” نموذجًا لتلك العقلانية والاتزان، وأن هناك الإحسان في انتقاء اسم الفيلم لأنه من قبيل الذكاء الاجتماعي أو الدبلوماسية الناجزة، تقول: (أن تحافظ الفتاة على علاقتها بلا تفريط في حقها حتى يأتيها الحق فتكون هبة لمن حارب من أجلها).
وإذا كنا قد أشرنا سابقًا لفكرة تأكيد الهوية في الكتابة، ففي السياق ذاته نجد لمحة تأصيلية مستمدة من ثقافتنا الدينية كملاذ لتحقيق العدالة ومواجهة الجور الاجتماعي خاصة الواقع على المرأة، تقول: (ما زلنا نجد المجتمع بتفكك بفكر أحادي الرؤية)، ثم إيضاح جور رجال بمنع المساواة (بينما هي أصل الشرائع حين يساوي الله في الحقوق والواجبات التي تحفظ لكلا الجنسين إنسانيته بخصوصيته الخاصة)، وتلك اللمحة التأصيلية تستدعي فكرة أخرى مرتبطة بها وهي تصويب أو تحرير المفاهيم ووضعها في إطارها الصحيح مثل مفهوم القوامة: (إذًا هي تكليف سماوي وليس تشريفًا ولا تعظيمًا من أجل المباهاة او المغالاة في حرمان طرف من حقوقه المشروعة)، وتدين الكتابة نموذج المرأة المقدم في الأفلام العربية، تقول: (نماذج تحييها ذكرى التملك والرغبة والسيطرة والبشاعة والفظاظة والمعاني السيئة التي حملتها إلى ذكرى كل فيلم تمثلت فيه بطلاته بهذا النسيج اللاأخلاقي الديني الذي يحركه المجتمع ذو الرغبات القاتلة) ويتماس هذا مع صورة مجازية حملها الكتاب المقالي: (خدش زجاجات القوارير حد إصابتها والتلذذ بنزيفها)، (عوار المجتمع الذي يدهس ورداته الناعمة الرقيقة، دنيا لم تُخلق لهن ولم يُخْلَقن لها)،(مجتمع اغتال أجمل زهراته ودهسهن بأقدامه حتى أنه يخجلها من كونها الأنثوي)، فالقضية الاجتماعية الغالبة تصف بتعبير الكتاب (الممارسات القهرية في مجتمعاتنا الشرقية)، و(استمراء الرجال)، و(الأنثى المغلوبة على أمرها في مجتمع لا يأتي لهن بحقوقهن إلا من خلال هذا المسار الواحد الزواج)، وترقى بالمشكلة إلى المستوى الإنساني (هضم الحقوق من المقربين هي القضية التي لا بد أن تُعالَج في كل زمان ومكان).
ويقدم الكتاب كعادته حلًا لقضية قهر الفتاة، بداية بمحاولة الكاتبة بعث الصفات الإيجابية للفتاة كي تقاوم، تقول: (فتيات قد اختفت شخصياتهن وتضاءلت صفاتهن في مجتمعاتنا، إلا أنها ما تزال تخفي خلف تلك الرقة والعذوبة الغالبتين كصفتين عليها صفة القيادة والبطولة والشهامة وحب مساعدة الغير)، أو من خلال البعد التربوي بالمقاومة بصوبة الحنان بطولة الرجولة والأبوة الحقيقية من خلال قراءة تذوقية في فيلم “اضحك الصورة تطلع حلوة”، وعنوان المقال “اضحك على الصورة تطلع أحلى”، وترصد صوبة الحنان، تقول: (إنه عشق الأبوة الجارف حين يلتحم برجولة تحفظ على الابنة كرامتها من أي شيء يخدشها)، وتصف كيف يبتعد (بزهرة أحلامه) عن (وحوش الدناءة البهيمية التي تعدو نحو الأرض البركانية الغاضبة)، وتخلص لتلك العبارة الموفقة: (ومهما تصور الكبار أنهم اعتلوا صغار البشر، لا يكون في هذا العالم إلا حضن أمان من ابن أو زوج او أخ أو مصدر قوة تستند عليه الشخصية النسائية).
واستعلاء الكبار يشدنا إلى رصد الكتاب لظاهرة أخرى من التصحر الاجتماعي، حول الاستعلاء والنحر الطبقي، والعزلة بين الطبقات الاجتماعية، تقول: (… من أحاسيس الآخرين يدهسونها تحت أحذيتهم غالية الثمن بما يربو على أثمان كرامتهم التي لا تساوي أكثر من أوراق البنكنوت)، (تفكير يقهر طبقات المجتمع الكادحة مهما وصلت بهم الأحوال ليغيروا ما بهم، هناك من يقفون لتعجيزهم والإقلال منهم مهما بلغوا من نجاحات)، ويتماس هذا الشأن مع تعاطف الكتاب مع المواطن المصري المطحون، حيث تلتقط عددًا من المشاهد السينمائية التي تناولت المواطن المصري، وترى مع تنوعها أنها معالجات ضعيفة لأنها تأسر هذه الشخصية في أفق رب الأسرة المغلوب على أمره، تقول (… تشويه متعمد للشخصية المصرية التي تكافح بشرف)، ورصدت هذه الرحلة من السذاجة إلى الكوميديا الداكنة، لكنها لا تتركنا إلا ببث الأمل في التغيير، فالأب “سيد” في فيلم “اضحك الصورة تطلع حلوة” يمجد بطولة المصري المكافح الشريف رغم سحقه: (أنا مش أحسن الناس، لكن في إيدى أخليك تكوني أحسن الناس)، وقد احتفت الكاتبة بهذا القول.
وهكذا تستمر رحلة الكتاب في رصد الجذور اليابسة للظمأ الاجتماعي الحارق من خلال “الخيالة” مفسرة، وناقدة وموضحة للحل، لتقدم كتابًا نادرًا في نوعه، وهذا أمر يُحمد لها.
يقول محمود قاسم في كتابه الصادر 1998: (الآن وبعد سبعين عامًا من ميلاد هذه السينما، ومع هذا الكم الهائل من الأفلام التي شاهدها الناس، أصبحت السينما المصرية بمثابة نبعًا لتغذية أرفف الكتب بالمزيد من العناوين الجديدة، وهما كانت أعداد الكتب، وعناوينها التي تابعت عطاء هذه السينما، فإن أرفف المكتبة السينمائية ما تزال فارغة، ويمكنها أن تستوعب الكثير من الكتب الجديدة).
ويتصف الكتاب بسمة أسلوبية حملها الإهداء (أخذ الجيد ونبذ الرديء)، أو كما قيل الكتابة هي إعادة الكتابة، او فكرة الإضافة بالحذف والتهذيب، يقتني الكتاب سمته بالنصوص القصيرة وهي بصفة عامة سمة الأداء في الكتابة الجديدة المواكبة للعصر الرقمي، باستعمال تقنية “تقطير المعنى”، فالكتاب نصوصه قصيرة سواء ببنط الكتابة الكبير المريح بالعين، أو عدد الصفحات وعدد المقالات بالكتاب.
سمة أخرى وهي تركيب الصورة في تشبيهات الكتاب، بعبارات مركبة والتي قد تستغرق من القارئ وقتًا وإعادة للقراءة، نموذجًا هذه العبارة (هتك أستار المغاليق بإبحار في تجسيد حياة كل معاناة اندست في مقدرات رسمتها لها ظروف قاتمة السواد في تلك الحياة)، وهنا نجد الدوائر المتداخلة التالية علي ترتيب (الحياة / ظروف قاتمة السواد في الحياة / مقدرات تفرزها تلك الظروف / معاناة ناتج ذلك / الهدف الإبحار وهتك الأستار وفتح المغاليق لتلك النواة “المعاناة”).
كما قدم الكتاب أساس من أسس النجاح للخيالة، وأنه ليس كافيًا (واقعية الإيقاع) بتعبير الكتاب، ولكن من المهم الحبكة ذاتها، من حيث ثراء الفيلم الناجح بالتفاصيل الحياتية.
كما أدانت الكتابة تناول سينمائي غير موفق للعاطفة، ووصفت في الوقت نفسه نضوج العاطفة، فتنفي (الوقوع في شراك الشهوة وتوجيهها بما لا يجدي نفعًا لا على المشاهد ولا على المؤدي إلا في إصابة كليهما بالأمراض النفسية الحقيقية .. فالعاطفة الناضجة هذا الميل الذي يحفظ استقامة تلك العلاقات في خط سيرها المعتدل بثبات).
وبعد رحلتنا المختصرة في رصد الجذور اليابسة للتصحر الاجتماعي، ووسائل لنفيها، نصنف الكتاب بإطمئنان في إطار رؤية جمالية تأملية في إطار من الذائقة الفنية والكتاب لا يمنح أفكاره من أول قراءة، بل يحتاج إلى أكثر من قراءة بسبب تركيب العبارة وتكثيف الصورة، وزاد من هذا الشأن أن الأفلام –ما عدا فيلمًا واحدًا- التي يتناولها الكتاب لم يتم إضافة هامش تعريفي أو بطاقة مختصرة للأفلام محل المقالات رغم التداولية والشهرة، بداية لأن معلومات الفيلم في حد ذاتها مؤشر نقدي يدعم رؤية الكتابة، كما أن سرد حدوتة الفيلم على باب كل قسم من الكتابة هام حتى لا ينفصم القارئ عن الكتابة ويفقد التواصل معها، حيث من الممكن أن فاته مشاهدة الفيلم، أو يحاول في رحلة ذاكرة مجهدة أن يتذكر تفاصيل دقيقة تتناولها الكتابة في تلك الأفلام، إضافة بالطبع لناحية توثيقية في رحاب تأملات ذات رؤى اجتماعية.
(ميدل ايست اونلاين)