غزة توقظ في الأدب الإنساني صرخته ضد الديستوبيا
الجسرة الثقافية الالكترونية-العرب-
*د. حيدر البستنجي
المدينة الفاسدة أو ديستوبيا هو مجتمع، عادة، خيالي أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما. الديستوبيا تعني باليونانية المكان السيّئ الذي يعيش فيه البشر غير المرغوب فيهم، وفيه يتركون لمصيرهم المحتوم خارج عطف الآلهة وبقية البشر، وهو وصف دقيق لما يجري في غزة الآن التي يتخلى عنها العالم كسجن كبير ومصير محتوم لتواجه الموت السريع أو البطيء لا فرق، ولكن غزة الحرة ترفض هذا المصير وتطرق جدار الخزان بدماء أطفالها بشكل يتفوق على الأسطورة أو يعيد صياغتها من جديد.
هناك نوع من الأعمال الروائية يمكن وصفها بـ”أدب الديستوبيا”. وهي تقوم غالبا على تصوير المستقبل القاتم للبشرية استنادا إلى التجربة المأساوية للحروب الكبرى وظهور الأنظمة الشمولية التي يغيب فيها الإنسان ليظهر كرقم معزول خارج سياق الجوهر الوجودي، قابل للانسحاق والإلغاء والنفي.
نظام شمولي
الشمولية مغلفة بشعارات السعي للتطور والوصول إلى الكمال، تجنح إلى تحقيق النقيض، من خلال إلغائها لجوهر الإنسان، بدلا من المدينة الفاضلة التي يجد فيها البشر أنفسهم يعيشون وسط مجتمع يبدو ظاهريا مجتمعا مثاليا وكأنه اليوتوبيا الموعودة، ولكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك.
ففيه تنعدم الحريات ويتحكم النظام السياسي الشمولي بسكنات الشعب وحركاتهم ولذلك تكثر الحروب والكوارث. وتعتبر رواية “آلة الزمن” لـ”هربرت جورج ويلز” (1895) أول مؤشر على هذا الشكل الروائي، بالإضافة إلى رواية “نحن” للكاتب الروسي يوجين زامياتين والتي نشرت عام 1924، وهي الرواية التي ألهمت جورج أورويل لكتابة “1984” وتؤشران معا لدمار الفكر الشمولي وعبثية اختزال الإنسان إلى مجرد رقم وفي عام 1932 ظهرت رواية “عالم جديد شجاع ” لـ”أولدس هكسلي” والتي تدور أحداثها في عام 2540.
قيمة هذه الأعمال تنبع قدرتها على فضح الواقع القائم على إلغاء الإنسان فهي لا تتنبأ بالمستقبل المظلم ولكنها تحاول منع حدوثه، وذلك بالتحذير من كل الظواهر السلبية التي تحدث عندما يترك البشر أو مجموعة منهم للحصار الظالم ليواجهوا مصيرهم دون تدخل العالم.
بؤس ومعاناة
ملكة الأردن رانيا العبدالله كتبت مقالا بعنوان «غزة: صناعة “ديستوبيا” عصرنا الحالي» تتكئ فيه على رفض العالم الأكيد لسياسة السجن الجماعي الكبير مستندة في ذلك على رواية “مباريات الجوع” للكاتبة سوزان كولنز، وخصوصا أن هذه الرواية تعتبر من أهم الروايات وأكثرها تأثيرا على جيل الشباب في الغرب هذه الأيام، حيث تصدمنا هذه الرواية بمجتمعات لا حريات فيها ولا عدالة، قائمة على الحرمان ولا قيمة ولا حُرمة للحياة البشرية فيها.
تدفعنا تلك الصفحات لنتخيل مجتمعا يُجبر فيه الناس على أقصى درجات التحمّل، وعادة ما يقتلون إن لم يتحملوا، أليس هذا فعلا ما يجري في غزة وعلى مدار الساعة وأمام أنظار العالم ودون أن نحرك شيئا لتغيير هذه المأساة اليومية؟ إن الحرب الأخيرة ما هي إلا تصعيد في واقع دامٍ وسوريالي وغير إنساني.
يضع المقال القراء أمام حقيقة الوضع في القطاع من حيث البؤس والمعاناة، ليس فقط تحت القصف ولكن تحت الحصار أيضا الذي يعانون منه منذ ثماني سنوات على مرأى من مجتمع دولي غير مبالٍ إلى حدّ كبير. “نساء وأطفال ورُضّع وكبار في السن وذوو احتياجات خاصة وأبرياء، منذ ثماني سنوات يحاربون ذلك الظلم كل يوم، تحت حصار إسرائيلي، يكافحون للعيش ولا يعيشون.
مجرد ظل
شاب فلسطيني عمره 17 عاما، داخل السجون الإسرائيلية، وصف المأساة اليومية التي يتحملها أهل غزة بقوله: “كأنك مجرد ظل، غير قادر على التحرر والعيش. ترى نفسك ممددا على الأرض ولكنك لا تستطيع بث الحياة في ذلك الظل”.
ببساطة: “موت بطيء”. هذه الظلال الإنسانية التي تعيش على الهامش المتاح محاصرة من كل الجهات تصرخ الآن في وجه العالم، إنهم بشر من لحم ودم ليسوا إرهابيين كما تصورهم الرواية الصهيونية وهم بالتأكيد ليسوا أبطالا وقديسين بالمطلق إلا ما تحمله هذه الكلمة من قدرة على الصمود والبقاء على قيد الأمل، «هل سنقف متفرجين بينما تتعزز أساسات “ديستوبيا” عصرنا أمام أعيننا؟ أم ستوحدنا إنسانيتنا المشتركة وتدفعنا إلى العمل على إنقاذ أهل غزة؟ ففي إنقاذنا لهم، إنقاذ لإنسانيتنا”.
هذه الصرخة الإنسانية التي يطلقها الأدب في وجه الظلم هي صرخة الرفض لعالم لا يزال يتقبل فكرة وجود الديستوبيا بأي شكل من الأشكال.