عمر أبو الهيجاء بين سلطة الإنشاء وشهوة التفكيك / د. غسان إسماعيل عبد الخالق( الأردن)
الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
(قراءة في ديوان بلاغة الضحى)
ما أبعد الغاية التي نذر عمر أبو الهيجاء نفسه لإدراكها (بلاغة الضحى)! وما أشق الطريق الموصل إليها! ففي عنوان مكون من كلمتين فقط كاد يجمع المستحيل من التعبير؛ أما (البلاغة) فقد كفانا الجاحظ مشقة مطلوبها حينما نبهنا إلى حقيقة أنها الوفاء بالمعنى وفقًا لمقتضى الحال، وهذا الوفاء لا يعني بالضرورة الإغراب أو التعقيد في القول، بل يعني اختيار المفردات المناسبة مهما كانت بسيطة ومتداولة وسلكها في سياق ما لتعبر بالضبط عما نريد. أي أننا يمكن أن نبلغ المعنى –أحيانًا- بلفظ (سوقي) كما يمكن أن لا نبلغه –أحيانًا- بلفظ (رسمي). فالمهم في البلاغة هو إدراك الغاية ووصول النهاية، بقطع النظر عن الوسيلة. وأمّا (الضحى) فقد كفانا ابن كثير أيضًا مشقة تفسيره لما قال: إنه صدر النهار حين ترتفع الشمس، كما كفانا مهمة تعليل القسم به في سورة (الضحى) فقال: (لما جُعلَ فيه من الضياء). وهذا يعني أن الضحى معادل موضوعي لكل ما هو واضح وباهر وساطع ولا يحتمل اللبس.
تحت هذه اليافطة الدلالية الثاوية في العنوان المختصر (بلاغة الضحى) أو (غاية الضحى)، يتقدم عمر أبو الهيجا بأطروحته الشعرية التاسعة التي كتبت بين عامي 2009-2011، واشتملت على 13 قصيدة تمدَّدت عبر 204 صفحات من القطع المتوسط. يتقدم ليحاول أن يعرّف لنا بوضوح، ثلاث مفردات واضحة هي: الإنسان – الحب – الوطن.
وجه التحدّي في العنوان (بلاغة الضحى) يتمثّل في أنه يقف –من حيث الدلالة- على النقيض تمامًا من مطلوب الشاعر والديوان في آن واحد؛ فالعنوان بوصفه عتبة المكتوب، يحيل إلى تاريخ طويل من الإنشاء الصوري والإيقاعي، الذي لخصه الناقد القديم بالقول: (أفضل الشعر ما سابقت ألفاظه معانيه)!! وهذا يعني أن المتلقي يصبح شريكًا كاملاً في قول ما ينبغي أن يقال، إلى درجة أنه يغدو قادرًا على توقع ما سيقوله الشاعر قبل أن يقوله، ورغم أن (البداهة) هنا تنهد بوصفها توطأً مغريًا، لكنها بداهة المتوقع والمحسوب، وليست بداهة الإدهاش الصادم التي تمثل جوهر الشعر بوجه عام، والغاية التي يرنو لتحقيقها كاتب قصيدة النثر بوجه خاص.
بعبارة أخرى: هل يمكن تحقيق دهشة التفكيك عبر بداهة الإنشاء؟! هذا هو فحوى الرهان الخطر الذي يقف بالمرصاد للشاعر عمر أبو الهيجاء، وهو يتهيأ لتفكيك العديد من السياقات الشعرية، عبر عتبة منقوعة بسلطة الإنشاء. فهل يمكن لقصيدة النثر أن تتحول لمجرد شكل حاضن لمضمون غنائي؟ وهل يمكن للمضمون الغنائي أن يتقبل إمكانية إقامته في فندق قصيدة النثر؟
ولأنه ممن اتخذوا (قصيدة النثر) أداة للتعبير، فهو يدرك أن زاوية النظر يجب أن تكون مختلفة، إنه ليس شاعرًا إيقاعيًا غنائيًا مهمته الاحتفاء بتفاصيل الحياة، بل إن مهمته تتلخص في تفكيك هذه التفاصيل وانتهاك وحدتها العضوية والموضوعية المزعومة، عبر فيض من الصور المكثفة المشحونة بالمعنى والإيقاع المستمد من تراجيديا الصورة وليس من رثمها الخارجي:
– (من أضرم النار يا بلدي؟ / أغنية للحزن / وأطلق في أقصى المدن / غراب الموت / ونام في جرحنا / أسئلة تفيض كرغوة الحلم / على عشب اليدين).
– (كثيرة هي الجدران والجهات / الصورة وحيدة تئن / في برواز / يدي).
ويبلغ هذا الولع بالتفكيك حدّه الأقصى في قصيدة (سيناريو اللوحة)، حيث يستعير الشاعر عين الكاميرا ويرشقنا برزمة من اللقطات الصّورية المكثفة، آملاً بأن يتطوع خيال القارئ أو ذاكرته للقيام بالمَنتَجة الملائمة لفيلم افتراضي عنوانه (الحياة):
– (في اللوحة أكثر من شرطي ضرير / وأكثر من شاعر يموت في حبره).
– (في اللوحة رؤوس ينقرها الطير وأثداء مجفّفة / وحمّالات صدر بأياد تجتاح بطونا نحاسية).
– (في اللوحة نعاس دبق / يلامس فحيح العتمة / والليل يفرد عباءته / مضاجعًا سرير الأحلام).
– (في اللوحة شعراء / قاصون / روائيون / نقاد / فنانون / وكرّاس يأكله الفراغ).
ومن هذه الرؤية السينمائية المدججة بالمفارقة الطالعة من أرحام اللغة والمعنى والصورة، يذهب عمر أبو الهيجاء باتجاه المسرح وتقنية الحوار. وهل ثمة حوار إنساني أقدم من الحوار بين آدم وحواء؟ وهل ثمة تكامل أوفى من ذلك الاتحاد الناتج عن اختلاف مصدر الأنين أو البهجة بين الأنوثة والذكورة؟
– (قلت: أطلقي حمام الصدر / على إيقاع الريح / كي أمشي في تراب البيت / مرشوشًا بزخة ضوء / لأحتويك).
– (قالت: أذكر التأتآت / لعثمات البوح خلف شجر الرؤيا / ها أنا / أقرأ الآن / أسرارنا على سلالم الهوى / أسرد حكايات فراش / لاذ بدمي).
ولا يفوّت عمر أبو الهيجاء الاحتفاء بتلك المقولات البديهية ذات العمق الشعبوي، والتي اكتسبت بمرور الزمن سلطة تقارب سلطة اليقين، فيستدخلها استدخالاً غير متكلّف أو متصنّع:
– (كل ريح خبّأتها في صدري تبحث عن شجري / وشجري لسواي).
– (كل المحبين يغنون على ليلاهم / وأنا أغنّي على / ليلاي).
وإن كانت قافية الياء قد أخذت من عمر أبو الهيجاء، مأخذًا ملحوظًا لكنه هيّن في غير موضع من قصائده، وعلى غير عادة شعراء قصيدة النثر، فإن من الإنصاف القول: لقد بذل في سبيل بلوغ الغاية من ديوانه جهدًا لغويًا وصوريًا وإزاحيًا ملحوظًا، وأحسبه قد اقترب كثيرًا من هدفه البلاغي، كما تجرّد من ادعاء العصمة:
– (سأنام الليلة / وحيدًا بدوني / تركتني هناك / في الميادين / اتقلّب على جمر الثورة / أغني للحرية).
– (مرّري الآن حروفك / على خدّي الورقي / كي أحج معتمرًا ببلاغة الضحى / إلى كعبة روحك).