الدار البيضاء.. حين لم نكن بعد على الخريطة
سهام بوهلال
من الرحم الأعمق لمدينة الدار البيضاء، من الضواحي القصية، الأكثر بعداً وانعزالاً، كنّا في كل يوم سبت نقطع، أنا وإخوتي، حي للا مريم، ثم الهُوّة الكبيرة المزدحمة بالأسرار والمخاوف، والجرائم أيضاً. منطقة ينبغي ألا نمرّ منها عند حلول المساء، وكذلك في الصباح الباكر، أو في الظهيرة وقت القيلولة. تشتبك أيادينا الست الصغيرة بقوّة، نصبح مثل متراس، اليدان الصغيرتان بين الأربع الأخرى، ومثل جدار كنّا نتقدّم ونشقّ طريقنا المرعب هذا. بعد نصف ساعة من المشي السريع، نصل إلى حيّ “مبروكة”، إلى خط الحافلة الوحيدة، رقم 10. باتجاه وسط المدينة أو “لِمدينة”. “أنفا”، ذلك التل الذي لا ينبت فيه شيء، أرض شعثاء بلا حصاد، حسب الاسم الأمازيغي الأصلي للدار البيضاء.
■ ■ ■
فيلم في الأسبوع. تقليد أرساه لنا أبي وأمّي. قرابة الخمس والأربعين دقيقة من الاختناقات، والتزاحمات، والتخوّفات أيضاً في الحافلة. ذلك أن النشّالين يشتغلون في هذه الأثناء، ونحن نريد الذهاب بأي شكل إلى السينما، وبالتالي من غير المطروح أن نفقد دراهمنا. من حين إلى آخر، نسمع صراخاً أو صوت صفعة وجّهتها بنت إلى الصعلوك وراءها. نشتمّ رائحة السجائر والعرق البارد، وأحياناً رائحة الخمر، أو عطر مبالغ فيه مثل الريفدور الفرنسي بخس الثمن.الذهاب إلى المدينة لم يكن مسألة هيّنة، وإنما رحلة حقيقية، وكان من الضروري الاستحمام قبل الذهاب. كانت الحافلة “تتقيّأ” كل هؤلاء في “السوق المركزي”، هناك حيث تُطحن أفضل أنواع القهوة، وحيث نجد أفضل الأجبان، والثمار اللذيذة، وغير بعيد سوق الأزهار أيضاً. كل ما لا نراه في حيّنا.
اختيار الفيلم كان يتم بسرعة من قبل أكبرنا، اعتماداً على ما في “الحائط” الممتلئ بالملصقات، وبصور الممثلات والممثلين الأسطوريين. بالنسبة لي، وأكثر من الفيلم، كان الأهم هو السينما.
قاعة “النصر” كانت تجذبني باسمها ولطافة الآنسة في الاستقبال، “آ بي سي” بسبب قربها من بائع المثلّجات “الدانوب الأزرق”، قاعة “ليبرتي الحرية” تتيح لي أن أتملّى في واجهة محل الدراجات، وفيها تلك الدراجة الحمراء التي لن أمتلكها أبداً، وهي رفيقة أحلام تبلغ بي فضاءات بعيدة. وأيضاً، سينما “الريف”، هناك حيث أصعد السلالم وأقف منبهرة، لا أتحرك، أمام صورة الممثل الفرنسي آلان دولون وعينيه الخضراوين. يا لها من عيون ساحرة. أما سينما “لوتيسيا” فكانت غرابة الاسم هي ما يشدّني إليها.
غير بعيد، فندق “لينكولن” يلفظ آخر أنفاسه، ينهار ويتلاشى. هو ليس سينما بالتأكيد، ولكنه بالنسبة لي مكان حلم كبير. حين كنت صغيرة، تساءلت دائماً من هم هؤلاء المحظوظون الذين يستطيعون دخوله؟ هم اليوم مجرّد ظلال.
بعد الفيلم، هناك غالباً المثلجات والجولة في شارع مولاي عبد الله، ثم جحيم ركوب الحافلة ثانية. علينا أن نذوب في الكتلة الملتحمة، أن نخترق الزحام، ونترك أنفسنا نُحمل إلى الداخل. وما إن نصل إلى موضع نستطيع التنفس فيه، كنّا نصمد ونبقى كتماثيل حتى نهاية الخط في الجانب الآخر من المدينة، بعيداً عن كل شيء.
■ ■ ■
مرة أخرى ها نحن في عملية العبور الرهيبة. كانت توجد سينما “ساهارا” (الصحراء) ليس بعيداً، في حي سيدي عثمان، على مسافة قريبة من المستعجلات ومركز الشرطة، ولكنها لم تكن تعرض سوى أفلام الكاراتيه، ولم تكن أي فتاة تجرؤ على مغامرة الدخول: لم يكن الأمن مضموناً في الداخل، أي فتاة تريد أن تعرّض نفسها لهجوم وحشي؟
أعود إذن، إلى كازا، إلى ذاتي، إلى حيّنا، حيث لا يسكن الأغنياء ولا يعلمون حتى أنه موجود؛ بأرصفته الموحلة، ببيوته الصغيرة التي تحمل معالم جغرافية الفقر، تتشابه في ما بينها، وتُحشر فيها أُسر بكاملها، من الجدّة الكبيرة إلى أصغر حفيد. هنا لا يُرمى بالأجداد في دور المسنين.
الأحياء العشوائية غير بعيدة من هنا، بلا ماء ولا كهرباء. كنّا نعتبر مرفهين بالنسبة لسكان الصفيح. كنّا نتعاطى لعبة المدينة في حين لم نكن حتى شبه مدينة معترف بها. هذا الحي كان قلباً ثانياً ينبض داخلي. كل أحلام سِني النضج تجري هناك، أعيش اليوم في باريس، وأحلم بللا مريم، بجاراتنا: أمي رابعة، أمي توده، أمي خدوج، وأُخريات وآخرين. حين ينتابني كابوس، فذلك يعني غالباً أني أضعتُ الطريق إلى للا مريم أو أن كل شيء فيه قد تغيّر: لا أعثر على مدرستي. ترعبني عمارات ضخمة ووجوه لا أعرفها. لا أجدُ عربات أو ما نسميه الكرويلة يجرّها فرس مسكين آيل للموت. الأرصفة جديدة، وسلالم في كل مكان. وأحياناً يغمر البحرُ الحيَّ ويغرقه ويغرقني.
■ ■ ■
منذ خمس سنوات، انتقل والداي إلى حيّ آخر. صارا يسكنان في شارع أنفا وسط “كازا”. ولكن بيننا، نحن الإخوة والأخوات، حين نتحدّث، نقول: هل أنت في للا مريم؟ نلتقي في للا مريم؟
“كازا” قطعة مني، أحملها أينما أذهب، أحملها معي إلى نهاية العالم. لا يهم الفقر والغبار والكوكاكولا بلا غاز المخصصة للأحياء الشعبية. ما الذي يعنيه كل ذلك؟ هنا تعلّمت الكرمَ والمشاركة، والعنف والجوع أيضاً.
في البدء، لم يكن هذا الحيّ موجوداً، كان فضاء شاسعاً من التراب والنباتات الشوكية، وكانت أحياء سيدي عثمان الصفيحية قد امتلأت عن آخرها. قامت الدولة عندها ببناء مكعّبات صغيرة بمساحة 40 مترا مربعا، جرت تغطيتها بالصفيح وقسّمت في كتل داخل الوحل، ثم ارتبطت لاحقاً بشبكة طرقات متربة. لم تكن في البدايات وقتها لا محافظة ولا محكمة، ولم تظهر هذه المؤسسات إلا بعد سنوات، وحده المستوصف أنشئ بشكل أسرع. تحوّل حيّ الصفيح إلى المكان الذي سمّي للا مريم على اسم إحدى الأميرات.
عند العودة من المدينة، وحين نصل إلى “مبروكة”، وهي حيّ أكثر تأنقاً آنذاك، لم نكن نرى إلا مشهداً مرعباً من الوحل والغبار والحديد عند مقبرة السيارات، والتي كثيراً ما وجدت بينها جثث مقتولين. ونصل بعدها إلى سوق اسمها القريعة حيث يمكنك أن تشتري فردة حذاء واحدة، ثم دور صفيح غير بعيدة من “مقبرة غبيلة”.
على عتبة للا مريم، حيث يبدأ الحيّ بالفعل، كان ثمة “صندوق” أزرق يلتقي فيه أشقياء الحيّ. إنه مقهى شلّوخ. كنّا نسكن في المدرسة، واسمها الأميرة للا مريم أيضاً. عند وصولها، وَجدت أمي نفسها أمام مجموعة بنايات في وسط مكب نفايات. دُعيت لإدارة المدرسة. لقد كان تنظيف المكان عملاً شاقاً تبعه بناء سورٍ للمدرسة وجلب ترابٍ حيّ لزرع نباتات وأشجار داخل المدرسة. ذهبت أُمي للقاء المسؤول عن النباتات في الدار البيضاء كلها وقتها، السيد بيتو الفرنسي، وطرحت الإشكال عليه.
في اليوم الموالي، جاءت ثلاث شاحنات بشجيرات تين وموز وشقائق نعمان وأقحوانات وغيرها من الزهور، كان هناك أيضاً زعفران بين هذه البدائع الصغيرة. هكذا، ظهرت أول حديقة عمومية في للا مريم. واستعملت أُمي الخطة نفسها لتهيئة الأرصفة وتزفيت الساحة، حتى لا تتسخ أرجل الأطفال بالوحل كلما أمطرت السماء. كانت أُمي تتوجه مباشرة إلى المؤسسات المعنية، دون المرور بالبلدية أو مسؤولي المنطقة، ربما لم يكن حيّنا موجوداً بعد على خرائطهم.
لاحقاً، احتاجت الدولة لمكان بعيد عن المدينة لبناء سوق للجملة، جرى تحويل القريعة تبعاً لذلك إلى الجهة الأخرى من الحيّ، وسميت شطيبة. مقبرة السيارات والجثث ترَكت مكانها لمقرّ الولاية والمحكمة وحدائقهما والتي فُتح جزء صغير منها للعموم.
■ ■ ■
سكّان أحياء الصفيح الأخرى باتوا يتدفقون إلى للا مريم، ظهر حيّ جديد بالقرب منه ببيوت أعلى وأوسع، إضافة إلى قيسارية، تباع فيها ملابس وحلي وغيرها من البضائع. ظهرت أيضاً سينما ومقهى جديد. أما مقهى شلوخ فلم يعد سوى ذكرى.
تجرّأ سكان الحيّ، هم أيضاً، على إعلاء “مكعباتهم”، لنجد بعد ذلك من ارتفع ست مرّات، بما يقارب أربعين متراً من الارتفاع. هناك مكعب واحد لم يتغيّر، إنه مكعب أُمي معيدر، البيت الصغير المعروف في الحيّ كلّه بأنه الأنظف من بين الأفقر. كان لدينا السوق الكبير والصغير، وهذا الأخير كان بجانب المسجد، وفيه نجد باعة الخضروات وجزّاراً وحلّاقاً، ومحلّاً لبيع أشرطة الكاسيت، وكان الذهاب إليه يعدّ في حد ذاته رفاهية.
بعد ذلك، نصل إلى ثانوية “مولاي إسماعيل”، وأسفل منها قليلاً (دائماً بالنزول في الغبار أو الوحل، بحسب الفصل) توجد المدرسة الإعدادية التي تسمّى هي الأخرى للا مريم: كنّا نحظى بالمباركة الأميرية، وهو أمر مخصوص بالبنات فحسب.
عشت هناك أربع سنوات رائعة، تناولت الفرنسية من أيدي أساتذة فرنسيين ضمن “برامج التعاون” بين البلدين الموروثة من زمن الاستعمار، وكان هؤلاء الأساتذة يبدون لي ككائنات خارقة للعادة.
السيدة ألبيرتين كانت المفضّلة لديّ. لكن هناك آخرين، علموني “خبايا” اللغة العربية والرياضيات والتاريخ والكيمياء والعلوم الطبيعية. السيد أوزيز، والسيد منير، السيدة تيفريدين، وآخرون.
في الثانوية كان هناك، أبو عصابة، أستاذ التاريخ والجغرافيا، والسيد أسمر، أستاذ الفلسفة، والسيد مشهوري، أستاذ الفرنسية، والسيد بوجبيري وزوجته حورية، أستاذة العربية، وآخرون ممن لا أنسى دروسهم ولا وجوههم.
أصبحنا شيئاً فشياً نشكل ساكنة لها أهميتها في وقت الانتخابات. مر علينا كل صنف من “القيّاد”، ولكن من بينهم من كان مرهوباً أكثر. كان ينشر الخوف كلّما مرّ. ذات مرّة، صفع فتاة لأنها تحدثت مع ولد في الشارع. حين يمر بالمدرسة، كان يروّع الحارس المسكين الذي كان رجلاً طيباً. كان يدفع به أرضاً تقريباً، ويصيح فيه: “هل تقوم بعملك يا بولحية عدو الله؟”.
كان العنف في الشارع شائعاً. تصفية الحسابات، العراكات التي تنتهي بحمامات دم، حتى بين الجيران والأصدقاء. ذات سنة، قبضت الشرطة على بارون من بارونات ترويج المخدرات، كان يختبئ داخل هذا البؤس.
عموماً، كانت قبضة الدولة قوية. أحداث سنة 1981 كانت دامية، قتل فيها أولاد كثيرون من الحي، بعضهم جرى إطلاق النار عليهم في “مكعباتهم”. الشوارع لم تكن مضاءة بشكل كافٍ ليلاً، في ما عدا احتفالات “عيد العَرش” حيث تعمّ الأنوارُ المدينةَ. في مناسبات كهذه، كنت أُجبر والديّ على الذهاب إلى شارع الحسن الثاني لمشاهدة الأضواء. كنت أعبر هذه المساحة من الأضواء، دون أن أعرف أنه بالقرب منها، في درب مولاي شريف، كان ثمة معتقلون سرّيون في ظلام مطبق، ليل نهار، حيث تنغلق الطوابق السفلية على صرخاتهم. اثنان من أقاربي اختفيا فجأة وكانا هناك، تماماً مثل الرجل الذي كنت سأرتبط به بعد ثلاثة عقود.
“كازا” وعالمها السفلي، الذي لا يتكوّن فقط من أحياء مثل حيّي، ولا الأحياء الصفيحية، ولا البارات، ولا الفيلات حيث تلطخ فئة من السعوديين، بدولاراتها، فتيات فقيرات ويائسات.
■ ■ ■
بالفعل كان هناك قاعات سينما، وكان “المعرض الدولي” يقام كل سنة، ونزهات على حافة البحر في عين دياب، وفي وسط المدينة على نمط الآرت ديكو والذي تحوّل اليوم إلى شبه أطلال، درب عمر حيث نجد تقريباً كل البضائع، وباعة الفواكه الجافة الذين يبيعون في آخر محلاتهم الكتب القديمة والنادرة. درب غلف حيث يمكننا أن نشتري حتى الجن الأزرق -كما يقال، الملعب الشرفي لكرة القدم، والعربي باطمة صاحب ناس الغيوان في الحيّ المحمدي…
الدار البيضاء، هذه المدينة الكبيرة التي تعيش، وتتنفس بقوة، تتقيّأ، تعرض نفسها كمومس، أو تتصرف كتقيّة، تتجشأ من الغازات السامة، تثور، وتُقمع. إنها الأفضل والأسوأ. ولا شيء يتغيّر. ربما، هناك مقاهٍ أكثر، وفضاءات ثقافية أكثر، وقاعات سينما جديدة، وأخرى اندثرت، سينما “باراديزيو” حقيقية، وحتى أنه أصبحت لدينا “عمليتنا الانتحارية” في شارع مولاي يوسف منذ سنوات قليلة. لكن القمع لم يتغيّر. شباب 20 فبراير ضُربوا بقسوة في شارع الأشجار في “سباتة”، هناك حيث كنت أذهب للحمّام، غير بعيد عن للا مريم.
كثيراً، وأنا على “جسر الفنون” في باريس، أطل على مياه السين، أشعر أن نكهة لذيذة تغمرني، رائحة الغبار، رائحة للا مريم، الدار البيضاء كما أعرفها أنا.
المصدر: العربي الجديد