“كتابة الفاجعة”: في نقل التلعثم
مزوار الإدريسي
بغضّ النظر عن الروايات التي ألَّفها الكاتب الفرنسي موريس بلانشو (1907-2003)، فإنّ أعماله النقدية والفكرية كانت عبارة عن جمع لمقالات وضمِّها بين دفّتيْن، في ما عدا عمله “كتابة الفاجعة” فهو الوحيد الذي ألَّفه بلانشو بالمعنى الدقيق للتأليف، وقدَّمه مثالاً على التعانق بين النقد والإبداع في الكتابة. صدرت مؤخَّراً عن “دار توبقال” الترجمة العربية لهذا العمل وقد أنجزها الشاعر والناقد عز الدين الشنتوف.
بوسعنا أن نزعم أن زمننا هذا هو زمن الترجمة بامتياز، خصوصاً إذا ما انتبهنا إلى الوعي بقيمتها مؤخَّراً، وإلى الكم المحترم من الكتُب التي شُرِع في نقلها إلى العربية في العالَم العربي عموماً، وفي المغرب خلال العَقد الأخير خصوصاً، ولو دققنا أكثر لوجدنا منطقة الشمال الأكثر نشاطاً، ولها تقاليدُ وتاريخ مع الترجمة دشَّنتها “مدرسة الألسن” في طنجة، أواخرَ القرن الثامن عشر، وبحركة الترجمة القوية في زمن “الحماية”، وباعتراف المركز بقيمة الترجمة في الشمال (عمر بوحاشي، سناء الشعيري…).
وجليّ أنّ الوعي بقيمة الترجمة له جذور بعدية في الثقافة العربية بعامة، منها ما قاله الجاحظ في شأنها، وأن عميد الأدب العربي طه حسين اعتبرَها ثالثة الأثافي في النهضة العربية، التي راهن عليها، لكنّ مشروع الأخير لم يُهتمَّ به بالشكل المطلوب حتى نتشرَّب الفكر الأجنبي ونتعرَّف على المصادر الأساسية للفكر الآخَر، خصوصاً المعاصر منه.
ولعلّ ترجمة كتابِ “كتابة الفاجعة” إلى العربية تندرج ضِمن هذه السيرورة التاريخية والثقافية، حيث لا يَخفى أنه احتفاءٌ بالكتابة أوَّلاً، وبإبداعٍ مائِزٍ ضمن تجاربِها ثانياً، ولأنه احتفاءٌ بمُنجَز قدَّمه رأسَان ثالثاً. الرأْسُ الأوّلَ هو موريس بلانشو مؤلف “كتابةَ الفاجعة”، والرأسُ الثاني هو المترجِمُ عز الدين الشنتوف مُعِيدُ كتابةِ المؤلَّف نفسِه ومُضيفُه في العربيّةِ؛ والذي نالَ به جائزةَ الأطلس مؤخراً.
يَصْدُر كِلا المؤلِّفيْن عن موقف كان فالتر بنيامين في “مهمة المترجم” قد رصده ببلاغة عالية، وعرَّفَه بِحِذْقٍ حينما ذهب إلى أنَّ المؤلِّف وهو هنا بلانشو يُؤلِّف وهو يُفكِّر في الكائن البشري، وأنّ المترجِمَ وهو هنا الشنتوف يُعيد الكتابة وهو يستحضر القارئَ- قارئَه العربي. وأنَّ المؤلِّفَ لا يَجْعلُ التواصُلَ هَمَّه وقَصدَه بالضرورة، في الوقتِ الذي يُعْنَى الثاني بِإفهام فَهمِه للمتلقّي.
لكنّ الطريفَ هو الإحساسُ الذي يَغمُر قارئَ “كتابةَ الفاجعة” مترْجَماً إلى العربية؛ فهو ينتهي إلى أن هناك تماهياً بين الاثنيْن، لأنه يتهيَّأ له أنّ بلانشو في “كتابة الفاجعة” كان يبحث عن مترجِمِه الشّنتوف، وأنّ الشنتوف في ترجمته “لكتابة الفاجعة” قد وجد ضالّتَه في بلانشو، وذلك أمر لا يستغربُه أصدقاءُ المترجِم، الذين يعلمون عن علاقتِه الوثيقة بفيلسوف الصمت، ويكفي التنبيه إلى أن مكتبَة بلانشو المؤلَّفة مما كتبَه الأخير أو ما كُتِبَ عنْه كلَّها مُتوافرَةٌ لديْه.
يكتب بلانشو في “كتابة الفاجعة” بشكل غريب، يكتب على غير مثال، إنه يتلعثم، فيبدو غريباً داخل لغته، لاجتراحه أسلوباً خاصاً، أسلوباً لا يلتزم مثالاً ولا استمرارية، أسلوباً لا يكف بلانشو عن تدميره في الوقت الذي يبنيه، وذلك الأسلوبُ الأصيل، لأنَّ “الأسلوبَ هو أن يتوصَّل المرء إلى التلعثم في لسانه الخاص. إنه أمر صعبٌ لأنه يقتضي ضرورة التلعثم. لا يعني هذا أن يكون المرء متلعثماً في كلامه، وإنما أن يكون متلعثماً في اللغة ذاتها؛ أن يكون كأجنبي داخل لسانه الخاص، أي أنْ يصنع خطّاً هروبياً”.
ينجح الشنتوف المترجِم في أن يُحدِث ذلك التلعثم ذاتَه في لغة الاستقبال وثقافتها. إذاً، طبيعي أنْ تقترن الغرابَة بعمله شأن كل ترجمة تستقبل الغريبَ في غير أرضه، ولعل قيمةَ ترجمتِه، تكمن في ذلك، اعتباراً لسعيها إلى “إدخال الجدة” إلى ثقافة الوصول، حسب هُومِي بَابَا، ولعل الطابعَ التأملي للكتابةِ في “كتابة الفاجعة”، حيث التلاقي بين الأدبي والفكري من جهة أولى، ومن جهة ثانية لاجتراحِها الجنسَ الشذريّ في إهابه الطارئ على الثقافة العربية، في أعلى تَجَلٍّ وتحقّق له، قد ضاعف من منسوب التلعثم في العمل، وهو شيءٌ محمود، لأن المرفوض في مثل هذه النصوص هو أن تُدجَّن، فيَصيرُ منطوقُها عاديّاً أليفاً.
إنه أسلوبٌ يُشْعِر القارئ بأن الكتابةَ عند بلانشو في حال شروع دائب وتفلُّت مستمر، مما يُصيِّرُها مُستعصية على الملاحقة، بُحكم طبيعتها الارتيابية في ذاتها وفي كل شيء، وبإيغالها في الصمت وهي تقول، وبالغياب وهي حاضرة، وبالنقصان وهي تكتمل، وتلك لعمري هي طبيعة الكتابة الشذرية.
يُخرِجُ الشنتوفُ بلانشو من عُزلته وتواريه وغيابه وصمته، ويَمنحُه وَجهيّةً visagéité، فيعرضه علينا في “الخارج”، ليس عبر ترجمة عمله فحسب، وإنّما عبر تلك المقدّمة التشريحية المستفيضة التي تندرج ضمن “الترجمة الموازية”، أي ما يُسميه هنري مالديني “التقديمات” áppresentation، أو ما ينعتُه جيرار جينيت بالعتبات.
قد نكون في حِلِّ من طرح السؤال التالي: إلى أين تمضي الترجمة بالكتابة؟ لكن إلى أين تمضي ترجمة الشنتوف بترجمة “كتابة الفاجعة”؟
قد يتوهّم بعضُنا أن هذه الترجمة ستضمن الاستمرارية لكتابة بلانشو، وهذا ما يُنتَظَر من كل ترجمة، وما لا شكّ فيه أن ترجمة الشنتوف تُحقِّقه لعمل بلانشو، لكن يمكن أن نرى أيضاً أن كتابَ الشنتوف بسبب تماهيه القوي مع أصلِه “كتابةِ الفاجعة”، قد ضاعف من فاجعة الكتاب الأوّل، لأنه بإخراجه إلى الوجود عربياً يكون قد نكأ جرحَ غيابه مجدَّداً، وعَمَّق فداحةَ فاجعته، بإدخاله في شَتاتٍ عربيٍّ لا يقلُّ شأناً عن مَعيشِ الإبادة، التي تتهدد الكائن في كل لحظة، والتي لا تخفى هيمنتُها على العبارة ومنها قول بلانشو بعبارة صاغها الشنتوف: “الرغبة في الكتابة، أيُّ عبثٍ هذا: هي فقدان الإرادة، تماماً كفقدان السلطة وكسرِ الإيقاع، وهي الفاجعةُ ثانياً”. أو قوله: “الإحجام عن الكتابة: الإهمال واللامبالاة غير كافييْن، وقد تكفي رغبةٌ شديدةٌ لا صلة لها بالسيادة – علاقةُ انغماسٍ بالخارج. أيِ الاستكانةُ التي تسمح بمقاومة ألفة الفاجعة. إنه يُسخِّر كلَّ طاقته كي لا يكتب، ليكتب بالعجز، وفي شدة العجز وهو يمارس الكتابة”.
المصدر: العربي الجديد