جزر العزلة في فضاء أخرس / رحاب أبو هوشر

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

من مقولات المفكر الوجودي الفرنسي “سارتر” الشهيرة: “الجحيم هم الآخرون”، تلك كانت رؤية وجودية لاغتراب الإنسان في علاقته مع العالم ومحيطه الاجتماعي. كلما تمادى الواحد منا اقترابا من الآخرين، قضم شيء من تفرده وفرادة شخصيته باستدراجه تحت مفهوم عائم للتكيف الاجتماعي، وأحيانا خوض صراعات معه لقسره على التماثل مع الآخرين أفرادا، أومع منظومة المجتمع، سواء بالنسبة لأفكاره ومعتقداته أو أسلوب حياته، وعلى الرغم من قسوة ما يتعرض له الفرد وفكرة الفردية، فإن الالتقاء مع الجماعة والتفاعل معها، يعتبر أحد أهم الحاجات البشرية الطبيعة، أما الصداقة فإنها كنز الغرباء المستوحشين.

 

من البديهي وجود فروقات نسبية بين البشر، تحدد مستويات تفاعلهم مع وجوه الحياة المختلفة، وتعتمد على مكونات شخصية كل منهم، واستعداداته وقابلياته النفسية والفكرية والعاطفية. وكل فرد منا يأخذ وجوده ملامحه من خلال عالمين، عالم داخلي تشكل عناصره أهم مكونات الشخصية، وعالم خارجي تمثل علاقتنا معه مرآة لتفاعلاتنا الداخلية. ولكن في الواقع المعاش، كم هي العلاقة متوازنة ما بين العالمين، وإلى أي حد تكون العلاقة مع الخارج إيجابية بالنسبة للواحد منا؟

 

بالنسبة لنا فإننا بعيدون عن نقاش ذلك المستوى الفلسفي “المترف” في رؤيته للعلاقات الإنسانية، وما زلنا أسرى أزماتنا الاجتماعية والثقافية، التي تهبط بالنقاش إلى مستوى معنى ومضمون علاقاتنا الاجتماعية، حيث تشكل بمفاهيمها السائدة والراسخة، عبئا واقعيا حقيقيا وترجمة للاعتداء والتطفل واستباحة كيان الإنسان وتفاصيل حياته اليومية والعادية جدا. إنها علاقات يمكن تسميتها بالعلاقات الإكراهية، يتذمر الجميع من حصارها الخانق، ويقرون بتفاهتها وزيفها الإنساني، وإن استمرت فليس إلا من قبيل القضاء والقدر! 

 

فالعلاقات مع المحيط الاجتماعي وإن كانت ضرورية، إلا أنها محفوفة بالمخاطر، إذا ما استغرقنا بها دون مراجعات وضوابط، ما الذي تضيفه لنا تلك العلاقات؟ سؤال قد يبدو مثاليا في مجتمع لا تعترف ثقافته إلا بالجماعة كمرجعية اجتماعية، ويضيع فيه الفرد، وجودا وحقوقا وقيمة، إلا بانتسابه لجماعة ما واعترافها به،  فعلى الرغم من انهماكنا في علاقات اجتماعية متنوعة، إلا أن الشكوى تعلو من هنا وهناك، عن الزمان الذي تغيرت قيمه، وتغير إنسانه، لصالح زمن يلهث خلف المادة، وبشر يتوقون للحب والصداقة، لكنهم هم أنفسهم يتغيرون ويقايضون الحبيب والصديق بالفرص الثمينة.

 

والأمر لا يتوقف على القيم والمشاعر، بل يتعدى ذلك إلى التفكير والأفكار أيضا، نكون أحيانا مطالبين بالتنازل عما أفنينا العمر في تحصيله ثقافة ومعرفة، كي نحظى بالقبول الاجتماعي، في مجتمعاتنا التي لا زالت ترفض الاختلاف والتنوع،  ونضطر لمجاراة ما لا يتفق مع قناعاتنا وتوجهاتنا، كي لا تصوب إلينا نظرات الاستهجان، وأخشى أن أقول النبذ الاجتماعي، وبالمحصلة نفقد الكثير من صدقنا مع أنفسنا ومع الآخرين أيضا، بينما الكل مستمر في الشكوى!

 

سرعة إيقاع الحياة ودخول أدوات الاتصال والتواصل التكنولوجية إلى حياتنا، كأنها أفراد جدد أضيفوا إلى العائلة أو كأصدقاء لكل منا، ليست الأسباب الوحيدة لهذه العزلات الإنسانية القاسية التي يعانيها معظمنا، فشعور العزلة والاغتراب الإنساني سابق عليها، وافتقاد اللغة المشتركة والتواصل مع المحيط مزمن، سواء في الأسرة أو خارجها. هذه مجرد تهمة متكررة نوجهها اليوم لأدوات التكنولوجيا، كي نستمر بإنكار العطب الإنساني داخل ذواتنا، المتقوقعة في هزائمها وكبتها وخوفها، أو الهاربة من علاقات مهترئة وغير متحققة إنسانيا. قبل ذلك، كان اللوم يوجه للتلفزيون، الذي يتسيد جلسات الأسر أو “الأصدقاء”، فيصمت الجميع، والأمر أن التلفزيون كان ينقذهم من البحث عن ما يملؤون به فضاءهم الأخرس!   

 

في شرطنا الاجتماعي الراهن، يمكننا أن نمدح العزلة أيضا، إذ تصبح معادلا للفردية والاحتجاج على الانصياع للجماعة، عزلة تكون خيارا إنسانيا، أمام وحشة وقسوة العالم الخارجي، وشح التواصل الإنساني. تصبح الوحدة خيارا فقط، في مواجهة غربة تنهش الحالمين بعلاقات أكثر رحابة وتسامحا وتفهما، وأكثر جدوى إنسانية، مهما تبدلت الأحوال، ومهما استشرت بشاعة الحياة المادية المستهلكة لإنسانية البشر. في جزرنا المعزولة، نذهب كي نستريح قليلا من زيف الأقنعة التي تفرضها علينا حاجتنا الأكيدة لعلاقات مع الآخرين في كافة المجالات. نذهب حيث الوحدة الأليفة، إلى عوالمنا الداخلية، حيث يمكننا التقاط صوتنا الداخلي العميق، يطمئننا إلى أننا لم نزل بخير، رغم الشروخ، لاستعادة التوازن مع هذا الخارج المجنون. مثل هذه الوحدة ليست هروبا ولا هزيمة، إنما هي شحذ للطاقة والعزيمة في معركة الحياة، وتطهير للروح والعقل من الاشتباك اليومي مع تفاصيل منهكة وبائسة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى