تونس تودع زريابها صالح المهدي

الجسرة الثقافية الالكترونية -السفير-
*عبد الرحيم الخصار
بعد عمر ناهز التاسعة والثمانين رحل يوم الجمعة الماضي الموسيقار التونسي صالح المهدي، تاركا خلفه أكثر من ستمئة لحن ستبقى في ريبرتوار الموسيقى التونسية والعربية. الشاب الذي بدأ عازفا على آلة الناي في النصف الأول من القرن الماضي يصبح الاسم الفني الأكثر تأثيرا في تونس، ويستحق الرجل هذه المكانة بسبب تنوع انشغالاته في حقل الموسيقى، فقد جمع بين العزف والتلحين والتدريس والتنظير والتأريخ وتحمل المسؤوليات في الجمعيات والمنظمات الفنية.
كان صالح المهدي (مواليد 1925) يفخر باستعادة عنصرين شكلا بالنسبة إليه المنابع الأولى لحب الموسيقى: جدته التي كانت تحفظ الكثير من المدائح وتؤديها بشكل جميل، ووالده الذي كان يتقن العزف على العود ويقدم في بيته دروسا لمحبي هذه الآلة. ومنذ الطفولة ستدفعه غيرته من الطلبة الذين يتوافدون على بيت والده إلى صنع آلة وترية من الخشب ومجاراتهم، بل كان يسبقهم رغم صغر سنه في حفظ الألحان. وبالرغم من أن والده كان عازفا، إلا أنه لم يكن يرغب في أن ينتمي ابنه إلى عائلة الفن خوفا عليه من الضياع، لكن الطفل سيقنع والده بصعوبة ليبدأ تلقي أولى الدروس بشكل احترافي نهاية الثلاثينيات، من الشيخ علي درويش أحد مشاهير الفن في سوريا، والذي سبق له أن حصل على وسام الافتخار من الباي، لما قام به من جهد من أجل النهضة الموسيقية بتونس.
تأثير علي درويش في صالح المهدي ظل مستمرا على مدار عقود، فالموسيقار التونسي ألف العديد من الموشحات المشرقية التي تتقاطع مع ما كان يؤدى في بلاد الشام آنذاك، إضافة بالطبع إلى الأغاني التونسية، العاطفية منها والوطنية.
وكان المهدي قد اشتهر في بدايته على الأخص بتأليف الأناشيد، ويذكر له نشيد حماسي كان يخرج به إلى الشارع في أول أيار (مايو) من كل عام احتفاءً بعيد الشغل، حيث كان يجمع العمال وعازفي الفرق النحاسية طيلة شهر نيسان (أبريل)، ليدربهم على عزف وأداء هذا النشيد الذي كان يردده الجميع في المظاهرات العمالية التي كان يقودها آنذاك الزعيم النقابي المعروف فرحات حشاد.
كان المهدي صالح أول عربي يلتحق أستاذا بالمعهد الموسيقي بالعاصمة تونس أيام الاستعمار الفرنسي، ومباشرة بعد الاستقلال أصبح رئيس مصلحة الفنون بوزارة التربية، وعمل بعدها على تأسيس المعهد الوطني للموسيقى، ثم الفرقة القومية للفنون الشعبية مطلع الستينيات، ولاحقا الأوركسترا السمفونية التونسية. وانضم إلى الهيئة التنفيذية للمنظمة الإسلامية للتاريخ والثقافة والفنون والهيئة العليا للحضارة الإسلامية والمجلس الدولي للموسيقى، كما شغل منصب نائب رئيس الجمعية الدولية للتربية الموسيقية.
قبل تفرغه للموسيقى بشكل حاسم كان صالح المهدي قاضيا، لكن الحبيب بورقيبة طلب منه أن يترك سلك القضاء ويلتحق بمصلحة الفنون في وزارة التربية، فكان البحث الموسيقى إضافة إلى التلحين والتدريس والتأطير يشكل بالنسبة إليه مثار اهتمام كبير، فألف عددا من الكتب طبع معظمها في دمشق وبيروت، من بينها: الموسيقى العربية في تطورها ونموها، الموسيقى العربية ومسيرتها المتواصلة، الموسيقى العربية مقامات ودراسات.
بعد الإطاحة بالنظام الملكي في تونس عوض على سلام الباي بنشيد وطني جديد، كان الملحن الذي أوكلت له هذه المهمة هو صالح المهدي، لذلك ظل نشيد “ألا خلّدي” الذي ألفه الشاعر جلال الدين النقاش ولحنه المهدي هو النشيد الرسمي للبلاد منذ 1958 إلى حدود 1987. يقول مطلعه: “ألا خلّدي يا دمانا الغوالي جهاد الوطن/ لتحرير خضرائنا لا نبالي بأقسى المحن/ جهاد تحلى بنصر مبين/ على الغاصبين على الظالمين طغاة الزمن”. لكن بن علي حين وصل إلى السلطة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 أعلن أن بورقيبة عاجز عن القيام بمهماته كرئيس دولة، وكان أول ما قام به بعد الجلوس على كرسي الرئاسة هو إلغاء النشيد الوطني الذي لحنه المهدي صالح، لأن جملة فيه كانت تقول: “نخوض اللهيب بروح الحبيب زعيم الوطن”، في إشارة واضحة طبعا للحبيب بورقيبة.