عمر بن أبي ربيعة.. رائد شعر الغزل الصريح

الجسرة الثقافية الالكترونية-الراية-

 

*جهاد فاضل

 

 

لم يفقد عمر بن أبي ربيعة اهتمام الباحثين في سيرته وتجربته الشعرية على مدار القرن العشرين. فقد أقبل على دراسته أعلام الأدب العربي المعاصر كطه حسين والعقاد وشوقي ضيف وجبرائيل جبور وسواهم. كان من الطبيعي أن يذهبوا مذاهب شتى في دراسته وبخاصة على ضوء المناهج الجديدة وكذلك على ضوء نظريات علم النفس الحديث. استدعوا على سبيل المثال النرجسية والدونجوانية لتفسير شخصيته وشعره. لاحظوا عشقه لنفسه ففسروا هذا العشق بعدة عوامل منها العامل الاجتماعي (ثراؤه وعزة عائلته ورفعة مكانتها في مكة) والعامل الذاتي وهو وسامته التي اشتهر بها. كان عمر معجبا بجماله إعجابه بجمال حبيبته، يحبه في وجهه كما يحبه في وجه غيره، كما يقول أحد الباحثين في سيرته. وهناك العامل العاطفي الذي يتمثل بتهالك النساء عليه، والعامل الأدبي الذي يتمثل في أنه أشعر القرشيين. بل هو، وكما ورد في مقدمة ديوانه، شاعر قريش وفتاها، ولم تكن العرب تقر لقريش بالشعر حتى نبغ ابن أبي ربيعة فأقرت لها به.

 

وتداول الباحثون ثلاثة مصطلحات في تحليل عشق عمر لنفسه: النرجسية والاستعلاء وانعكاس العاطفة. يقول شوقي ضيف: “وأكبر الظن أني لا أغلو إذا زعمت أن عمر به جانب من انعكاس العاطفة وشذوذها. فنحن لا نجد عنده الشاعر المألوف الذي يُعني بوصف حبه، وإنما نجد شاعرا يُعني بوصف المرأة نفسها ووصف أحاسيسها، وكانت غايته في ديوانه أن يصف المرأة وصفا نفسيا. لقد حول الغزل من الرجل إلى المرأة. فالصورة العامة في غزله أنه معشوق لا عاشق. وعمر في ذلك يعبر عن تطور جديد في الحياة العربية. فقد كانت المرأة قبله هي المعشوقة. أما في غزله فقد انعكست هذه العاطفة وشذت هذا الشذوذ. فهو المتبوع لا التابع، وهو المطلوب لا الطالب، والمعشوق لا العاشق”.

 

الواقع أن المتأمل في ديوان عمر يجمع الكثير من القرائن الدالة على عشق عمر لنفسه. ومن مظاهره نذكر تمركز الخطاب الشعري على الأنا. فهو محور الحوار بين النساء في “ليت هندا”:

 

أكما ينعتنني تبصرنني

 

عمركن الله أم لا يقتصد

 

وفي “هل يخفى القمر”:

 

بينما يذكرنني أبصرنني

 

دون قيد الميل يعدو لي الأغر

 

وفي “يا من لقلب متيم”

 

قالت لترب لها تحدثها

 

لنفسدن الطواف في عمر

 

من خلال هذه الأبيات يتبين أن عمر يضع نفسه محور حديث النساء: يتناقلن كلامه ويناقشنه، يتخذنه أملا لقلوبهن، وينسين عند حضوره كل المقدسات والأعراف. فهو إذن يرتقي بنفسه كلما اتخذها موضوعا للكلام أو كلما رسمها من خلال حوارات النساء. لقد أدرج غرض الفخر التقليدي في غضون غزله فصار الأصل تابعا للفرع مثلما تحولت المرأة من موضوع للغزل إلى ذات متغزلة.

 

ومن مظاهر عشقه لنفسه حرصه على الظهور أمام الحبيبة خاصة والنساء عامة في هيئة الفارس المهيب الراكب فرسه (يعدو بي الأغر) المشهر سيفه كلما تهدده أو تهدد الحبيبة خطر:

 

فقلت: أباديهم فإما أفوتهم

 

وإما ينال السيف ثأرا فيثأر

 

والفارس الأنيق بملبسه الفاخر، المضمخ بعطره العبق، وقد جاء ينقذ الحبيبة من وجعها في بعده:

 

ورضاب المسك من أثوابه

 

مرمر الماء عليه فنضر

 

قد أتانا ما تمنينا، وقد

 

غيب الإبرام عنا والكدر

 

هذان البيتان نموذج عن الصورة الخارجية التي يريد عمر أن يظهر بها، فتى عربي أصيل جمع القوة والمهابة والفروسية إلى الأناقة والظرف والمرتبة الرفيعة. يحب المرأة جميلة، ويحب أن تحب المرأة فيه حسن صورته. بل يحب أن يكون عند كل النساء ذلك العاشق المرتجى.

 

إنه يعشق نفسه الجميلة مقدار عشقه لجمال الحسناوات. يريدها تريده كما يريدها، يطلب منها أن تطلبه كما يطلبها. يدعوها إلى تمليه كما يتملاها.

 

يأمل أن تدعوه إليها كما يدعوها إليه، وأن تتكلم عنه كما يتكلم عنها، أن تغامر من أجله كما يسارق الأنظار إلى خدرها، أن تدر عيناها لأجله الدموع فرحا وحزنا، أن تدلِـله كما يدللها.

 

هذه المعاني لا تدل على نرجسيته ولا على استعلائه ولا على انعكاس عاطفته كما يؤكد العقاد. وما أبعد هذه المعاني عما سماه العقاد “بالجانب الأنثوي في طبعه”. وأية ذلك أن النرجسي لا يرى شيئا في العالم غير ذاته، وأنه لا يكترث بغيره في البشر، وأنه لا يرى الجمال في غير صورته. وهو ما لا ينطبق على عمر. وكيف يوصف عمر بالاستعلاء وهو الذي يتوسل لهند ويضرع لفاطمة، ويوسط صديقة ابن أبي عتيق بينه وبين الثريا، ويهيم بالجارية المملوكة كالبغوم وأسماء، ويعترف بفشله في طلب عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وغيرهما.

 

يرسم طه حسين صورة لعمر تنفذ إلى عمق شخصيته، فهو يرى أن عمر لم يكن مغروراً ولا تياهاً، كما أنه لم يكن كاذب الحب ولا متكلفه، وإنما كان صادق الحب قويه أيضا. ستقول: فكيف يلائم ذلك ما زعمت من أنه لم يكن عذريا؟ بل كيف يلائم ذلك ما ذكرت من أنه كان يتبع النساء جميعا بحبه لا يكاد يدع امرأة إلا ليعرض لأخرى، وربما اشتغلت نفسه في وقت واحد بغير امرأة؟ كان هذا كله حقا، وكان عمر بن أبي ربيعة مع ذلك صادق الحب قويه أيضا. ذلك لأنه لم يكن عذريا، لم يكن يحب بقلبه ولا بعقله، وإنما كان يحب بحسه وبحسه ليس غير. لم يكن حسه يطيع قلبه فيرى الجمال في عشيقته ويميل إليها، وإنما كان قلبه طوع حسه، فكان يكفي أن يرى جمال المرأة ليخلع عليها ما شاء له الشعر من الصور الرائعة الخلابة. كان عمر يرى كلما أحب امرأة أنه لم يحب قط امرأة كما أحبها، وأنه لن يسلو عنها مهما تتبدل الأحوال، وكان صادقا في هذا كله.

 

ويرى الباحث عبدالوهاب الرقيق أن عمر بن أبي ربيعة هو أكمل النماذج الدونجوانية في الأدب العربي القديم. فهو متقلب العاطفة سريع الانتقال بها من امرأة إلى أخرى. فالعدد غير العادي من النساء اللاتي تغزل بهن-خاض تجربة معهن أو لا- يدل على أنه مفطور على إغرائهن، وعلى أنهن يبادلنه الذوق ويستطرفن ظرفه وسيرته وجاهزيته للنهل من منابع اللذة. ها هي على التوالي مقتطفات من غزله في أسماء ولبابة وسكينة والثريا:

 

–    أبئكم فيه (أي في اللقاء) جوى شفني

 

حُملته من حبكم مثقلا

 

–    سلمت حين لقيتها فتهللت

 

لتحيتي، لما رأتني مقبلا

 

–    دخلت على خوف فأرقت كاعبا

 

هضيم الجشا ريا العظام كسولا

 

–    حدثيني عن هجركم ووصالي

 

أحراماً ترينه أم حلالا

 

إن شهية عمر للانتقال من حبيبة إلى أخرى ظاهرة ثابتة من أول ديوانه إلى آخره، ويعكس هذا الثبات حرصه على المحافظة على التوهج والاتقاد في عاطفته.

 

يرى صادق جلال العظم في كتابه “الحب والحب العذري” أن حياة الشخصية الدونجوانية ليست إلا محاولة للبقاء بالحب على مستوى العشق العنيف والانفعال الحاد والبحث عن شتى الوسائل والطرق التي تبعد عنه خطر الاستقرار وما يتبعه من وهن في اشتداد العشق وضعف في حدثه وتعريض له للرتابة والتكرار والملل.

 

وفي طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي وصف دقيق وشامل لشخصية الدونجوان:”وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة وأقلهم صبرا على المحبوب. وانقلابهم على الود على قدر سرعتهم إليه فلا تثق بحلول ولا تشغل به نفسك، ولا تعنها بالرجاء في وفائه”.

 

ولئن غفرت نساء كثيرات له سرعة تغيره وانتقاله بحبه إلى موضوع جديد، فإن بعضهن رفضن هذا التحرر المفرط لاعتقادهن أن عمر يسعد بالمخادعة. لذلك قابلت الحبيبة مغالطاته في “ليت هندا” بمغالطة مماثلة:

 

كلما قلتُ: متى ميعادنا

 

ضحكت هند وقالت بعد غد

 

ويصل الأمر بالبعض منهن إلى صده بحدة ظاهرة أو إلى هجره قبل هجرها:

 

–    ما ظبية…

 

بألذ منها، إذ تقول لنا

 

وأردتُ كشف قناعها: مهلا!

 

دعنا فإنك لا مكارمة

 

تجزي، ولست بواصل حبلا

 

–    أرسلت أسماء: إنا

 

قد تبدلنا سواكا

 

–    لن ترى أسماء حتى

 

تبلغ النجم يداكا!

 

غير أن عمر الدونجوان لا يكترث لمخادعة النساء وصدهن وهجرهن، وإنما يجد فيه لذة يزداد بها لهن حبا لأنه ميال إلى الممازحة واللهو. فحسبه أن ينال من التي لا تقع في شراكة تسليه أو كلمة تطربه أو حيلة تفاجئه. بل إن عمر ككل غاز متمرس يتسلق الأسوار التي تختبئ وراءها المرأة، يرفض المرأة التي تأتيه طائعة حتى وإن كان يحبها.

 

في قصيدة “يا من لقلب” رفض الاستجابة لدعوة المرأة:

 

قومي تصدي له ليعرفنا

 

ثم اغمزيه يا أخت في خفر

 

قالت لها قد غمزته فأبى

 

ثم اسبطرته تسعى على أثري

 

عمر يريد أن يحرز المرء بالبذل إليها والمكابدة فيها حتى يكون طعم الظفر بها ألذ.. فهو لا يعدم النساء إذ له منهن زوجات وسريات وحوار، وإنما الذي يريد هو أخذها عنوة كالمغتصبة لأنه بذلك يرضي كبرياءه، ويثبت لنفسه أهليته للفوز بها. وشأن عمر في ذلك شأن الدنجوان.

 

الغالب على تجارب عمر الدونجانية كما تعرضها قصائده هو استئثاره مفردا بقلوب النساء فهن يستقطبن رهافة عواطفه المتفجرة من نعومة كلامه، وينظرن بعين مفتونة إلى تحرره في رأيه وموقفه وقراره. إنه يحتل في وجدانهن الموقع الحسن والدرجة الرفيعة على ما فيه من قسوة الهجر. لذلك لعمر الدونجان صورة السيد الماجد الذي تربع على عرش الجمال في مكة وامتد سلطانه إلى العراق والشام.. إنها فحولة الرجولة تنضاف إلى الفحولة الشعرية على اعتبار أن التحرر الدونجواني أتاح له الاستحواذ على مملكة الشعر ومملكة الجمال الأنثوي. وها هي أمثلة ترسم متسلطنة:

 

تقول له نعم:

 

فأنت أيا الخطاب غير مدافع

 

علي أمير ما مكثت مؤمر

 

وتقول له أسماء في مغامرة مماثلة في أحداثها لمغامرة ليلة ذي دوران:

 

لقد حليتك العين أول نظرة

 

وأعطيت مني يا ابن العم قبولا

 

فأصبحت هما للفؤاد ومنية

 

وظلا من النعمى علي ظليلا

 

أميرا على ما شئت مني مسلطا

 

فسل فلك الرحمن يمنح سولا

 

هكذا نتبين أن عدوى التحرر الدونجواني وشهية الحياة الدونجوانية قد انتقلت من عمر إلى المرأة المتغزل بها مما يضاعف مخاوف أنصار القيم السائدة من هذا الغازي المتمرد على مثل المجموعة وقواعدها الأخلاقية كالعفة والشرف والثبات في العاطفة. ويمثل العذال والكاشحون والوشاة والرقباء القوة المعارضة لإرادة عمر الذي يعتبرونه تهديدا للتماسك الاجتماعي.

 

فهو، في نظرهم يخرق بصلف جرئ وتحد عنجهي أسس الفضيلة، ويهدد بسحر الغواية وإغراءات اللذة الحرمات التي أمر الله أن تصان.

 

غير أن إرادة الدونجوان أعتى من أن تستسلم لذلك يتواصى الحبيبان بالكتمان كوسيلة وقائية.

 

يقول لسكينة:

 

سألت بأن تعصي بنا قول كاشح

 

وإن كان ذا قربى لكم، ودخيلا

 

وتقول له سكينة:

 

فهلا إذا استيقظت انك داخل

 

دسست إلينا في الخلاء رسولا

 

فنقصر عنا عين من هو كاشح

 

وتأتي ولا تخشى عليك دليلا

 

ويذهب عمر في تحدي قوى المحافظة أبعد من ذلك فيعلن عصيانه لإرادتها مصرا على الاستمرار في ملاحقة الجميلات الحبيبات إلى القلب:

 

يا أيها العاذل في حبها

 

لست مطاعا أيها العاذل

 

أنت صحيح من جوى حبها

 

وحبها لي سقم داخل

 

إن الذي لاقيته من حبها

 

لم يلقه حاف ولا ناعل

 

وذلك أن عمر الدونجوان يطرب بالعذل ويهزأ بالوشاية ويتلمظ سروره كلما رأى الكمد والغضب على وجوه الأحراس والوشاة، ويمعن في استفزازهم بالحرص على مزيد العصيان بحبها:

 

أيها العاذل أقل عتابي

 

لم أطع في وصالها العذالا

 

إن ما قلت والذي عبث منها

 

لم يزدها في العين إلا حلالا

 

لا تعبها فلن أطيعك فيها

 

لم أجد للوشاة فيها مقالا

 

الحب دين عمر، والحس فيه مذهبه، والتعدد مبدأه والتسلية منه مطلبه. حظي بحب النساء ولم يغتر، هجرنه ولم يحقد عليهن بل أمعن في طلبهن ينسج لهن حرير الكلم بلسانه، ويغسلهن بشعاع عواطفه، ويوشم الإيمان بالحب والحياة والأمل والحرية في قلوبهن وعقولهن وأجسادهن.

 

يصفه الباحث التونسي عبدالوهاب الرقيق بـ”لذيذ الخداع” عنيف ناعم القسوة، ظريف طريف النزق، أمير في العشق والشعر، ولكن هل كان عمر متصالحا مع ذاته؟ هل كان راضيا عن سيرته؟ ألم يكن شقيا بوعيه؟ بم نفسر نسكه في الشطر الثاني من حياته مع ما كان الناس يعلمون من “فسقه”؟ لم كان يعتق رقبة كلما ثار فيه شيطان الغزل؟ لم يتحسر في شيخوخته على شبابه السعيد العامر بكل الملذات والسرور؟ ماذا كان يعكر عليه رؤيته للوجود؟ هل لقارئ ديوانه أن يستخلص حقيقة تصوره للعالم؟ هل كان عمر “فاسقا” في جبة “قديس”؟

 

هذه هي الأسئلة التي يطرحها باحث لعله أحدث من كتب عن عمر بحثا مستوفيا لكل مستلزماته وشروطه العلمية. وفي اعتقادنا أن البحث في عمر بن أبي ربيعة لن يعرف له نهاية نظرا لما يثيره في النفس من أسئلة وللآفاق التي يفتحها أمام باحثيه. لقد كان في تجربته الشعرية رائدا بل إمام مدرسة فتح لشعراء الغزل من بعده آفاقا فنية واسعة. خالف العذريين في أساليب النظم ومقوماته وانحرف عن سنن الجاهليين وقواعدهم وابتكر لنفسه صيغا إبداعية جديدة تشكلت وفقها بنية القصيدة وصورها التعبيرية ودلالتها تشكلا مغايرا للمألوف عند العرب.

 

وإذا كان الشاعر نزار قباني أقرب المحدثين إليه من الشعراء، فهناك نقاط اتفاق ونقاط اختلاف كثيرة بين الشاعرين يحتاج بحثها إلى مقال خاص.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى