مكتبة قطر الوطنيّة.. أيقونة المعرفة الإنسانيّة

مقتنياتها تثري الحوار وتنيرُ العقول

تقف مكتبة قطر الوطنية، شاهدة على ثراء معرفي وثقافي كبير، تتمتع به دولة قطر، ما يجعلها وجهة حضارية تنشر معارفها إلى مختلف أصقاع الأرض، بفضل ما تضمه من مقتنيات نادرة، وبعدما أضحت صرحًا ديناميكيًّا، يضخ فعلًا ثقافيًّا، يثري الحوار وينير العقول، علاوة على دورها الرائد في إحياء دور المكتبة الحضاري، فضلًا عن اهتمامها باللغة العربية، والعمل على النهوض بها.

هذه المزايا وغيرها التي تتمتع بها مكتبة قطر الوطنية، جعلتها توصف بـ”أيقونة المعرفة”، كونها صرحًا عريقًا ينفتح على الأحداث والقضايا المعرفية المهمة، ليس على صعيد دولة قطر فحسب، ولكن على مستوى العالم أجمع، لما تمثله المكتبة من قيمة كبيرة، يجعلها واحة للابتكار يقصدها أفراد المجتمع بغرض الدراسات والبحوث.

صُنع المستقبل

إنشاء دولة قطر للمكتبة جاء إيمانًا منها بأهمية الدخول إلى عصر المعرفة بكل ما يحمله من تطور وتقنية في عالم المكتبات العصرية، محملة بذلك نفائس وكنوز من مختلف ألوان المعرفة والعلوم والثقافة وغيرها من مجالات مختلفة تسهم في بناء الأمم، وتصنع حضارة الشعوب، مستحضرةً الماضي بكل ما يضمه من إرث عريق، ومواكبة للحاضر بكل ما ما يشهده من منجز حضاري، وساعيةً منهما إلى صُنع المستقبل بكل ما يحمله من رؤى واعدة.

■ من معرض ملصقات السينما العربية في مكتبة قطر الوطنية

وفي هذا السياق، تضطلع المكتبة بمسؤولية مهمة في الحفاظ على التراث الوطني للدولة من خلال جمع التراث والتاريخ المكتوب والمحافظة عليه وإتاحته للجميع، وتسهم بدورها في دعم مسيرة البلاد في الانتقال من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى تنويع مصادر الاقتصاد والحفاظ على استدامته، عبر إتاحة المصادر المعرفية اللازمة للطلبة والباحثين وكل من يعيش على أرض دولة قطر، للمساهمة في توفير مستقبل أفضل للجميع، وتعزيز فرص التعلُّم مدى الحياة، وتمكين الأفراد والمجتمع، على السواء(1).

هذه القيمة التي صارت إليها المكتبة، جعلتها وجهة للعديد من المؤسسات العالمية لإبرام مذكرات تفاهم وشراكات، خاصةً وأنها تضم بين جنباتها العديد من الوثائق والكنوز التاريخية، ما يجعلها مركزًا للعلم والمعرفة، حيث تتيح لأي شخص في العالم إمكانية الوصول إلى المجموعة التراثية التي تضمها وفقًا لبروتوكول المكتبة، ما يجعلها مكتبة تتحاوز الإطار التقليدي للمكتبة الصمَّاء، إلى دور رائد لطبيعة المكتبات العالميّة.

من هنا، تعد مكتبة قطر الوطنية مركزًا للاستنارة على مستوى العالم، للدور المعرفي والمجتمعي الذي تقدمه لروادها، نتيجة دعمها لحركة البحث والتأليف، ورقمنة المعلومات محليًّا وعربيًّا ودوليًّا.

وعلاوة على ذلك، فإن مبنى المكتبة يعد ضمن أفضل 10 مبان في العالم، وفق موقع Dezeen البريطاني. وفي هذا السياق، فقد شُيد هذا المبنى على مساحة قدرها 45 ألف متر مربع وتضمن تقنيات مبتكرة، وحملت المواد والألوان المستخدمة في تشييده الطبيعة الجغرافيّة لدولة قطر.

نفائس وكنوز

الأوعية المعرفية التي تضمها المكتبة، بكل ما تحمله من نفائس وكنوز، كان ضروريًّا أن تحتضنها بيئة تسهم في الحفاظ عليها وحمايتها، ولذلك كان تصميم مبنى المكتبة بطريقة عصرية، حيث جرى تصميمه وفق أحدث معطيات التكنولوجيا الحديثة ليكون الوجهة الاجتماعية المفضلة لجميع أهل قطر، وفي الوقت نفسه وجهة قطر الحضاريّة، لتشعَّ به على العالم، فتنشر شعاع المعرفة والاستنارة.

■ من عمليات الرقمنة

مبنى المكتبة تبلغ مساحته قرابة 45 ألف متر مربع، صمَّمه المهندس المعماري العالمي رم كولهاس، ليشبه ورقتين فوق بعضهما البعض مطويتين من الزوايا ومسحوبتين إلى الأعلى بحيث يشكل الفراغ بينهما ما يشبه شكل الصدفة، وهو عبارة عن الفضاء الداخلي المفتوح من المبنى. وحرص خلال هذا التصميم على تحقيق التوازن بين توافر المحتوى المعرفي وسهولة الوصول إليه من ناحية، وبين المحافظة على هذا المحتوى من ناحية أخرى، فضلًا عما يهيئه لزائريه من استكشاف مسيرة تطور المعرفة من الماضي إلى الحاضر، بكل ما تحمله من كنوز ثمينة.

وجرى تصميم الجزء الداخلي الرئيسي للمكتبة ليسمح بدخول مقدار محدد من ضوء الشمس لبهو المكتبة، بما يرمز للمعرفة التي تربط المكتبة بالعالم الخارجي. وحرص المصمم على أن تبدو أرفف الكتب جزءًا طبيعيًّا من المبنى ذاته، على أن يكون بارزًا من الأرض في إشارة للقيمة الرفيعة للكتب في الثقافة القطرية، بالإضافة إلى استخدامه للمواد الكلاسيكية مثل الرخام في تصميم المكتبة التراثية التي تضمها المكتبة، بجانب إدخال بعض المواد الأخرى في المبنى من الفولاذ المقاوم للصدأ.

درب المعرفة

احتوى مبنى المكتبة على مليون كتاب عند افتتاحه في 16 أبريل/نيسان 2018، حيث شهد الافتتاح الرسمي إضافة الكتاب رقم مليون إلى رفوف المكتبة، وهو نسخة نادرة من صحيح البخاري “الجامع الصحيح من السنن”، يرجع تاريخه إلى عصر الأندلس، بالإضافة إلى كل ما ينير درب المعرفة، وينمي العقول، ويستحضر قرائح المبدعين والباحثين والطامحين إلى القراءة، وهو الكتاب، بكل ما يحمله من رسالة وقيمة وأهداف.

المخزون المعرفي الكبير الذي تضمه المكتبة بين أركانها، يتنوع ليشملَ العديد من المجالات المختلفة، التي تحفظ التراث الوطني، محققةً بذلك أحد أهم أهداف المكتبات الوطنية التي تُنشئ من أجلها، ما يعني أن المكتبة تضع في مقدمة أولوياتها هذا الجانب، دون إغفال الانفتاح على ثقافات العالم وحضاراته.

وفي هذا الإطار، تحرص المكتبة على أن تصبح مركزًا لتبادل المعلومات فيما يتعلق بحقوق النشر والتأليف ضمن أحد أهدافها، فضلًا عن توسيع مجموعاتها الوطنية، بالإضافة إلى تبنيها لأحدث أنظمة الفهرسة المتبعة عالميًا، والتي تتماشى مع أفضل الممارسات والمعايير، بجانب حرصها على الحفاظ على المواد الرقمية والمطبوعة في مجموعتها(2).

هذه المجموعات الخاصة بالمكتبة تزيد على مليون و200 ألف كتاب مطبوع، فضلًا عن الدوريات التي تتنوع بين صحف ومجلات، بالإضافة إلى المصادر الإلكترونية التي تضم نصوصًا كاملة وأكثر من 500 ألف مادة إلكترونية. هذه المجموعات الثمينة تُمكن المكتبة من تحقيق رؤيتها في أن تكون أحد الصروح المتميزة عالميًا في مجالات الثقافة والبحوث والتعلم، وأن تقوم بدور فاعل في الحفاظ على التراث المحلي وتراث المنطقة، بالإضافة إلى صقل الجانب الروحي لدى الإنسان، وتشجيع الاستكشاف، من خلال رسالة تعمل على تعزيز الابتكار، والحفاظ على تراث الأمة، ونشر المعرفة، وصقل ملكات الإبداع، وذلك بتوفير بيئة معلوماتية موثوقة تسهل الاستفادة منها، وضمان استدامتها وتقديمهما في محيط متقدم من التكنولوجيا والثقافة، عبر خدمات مبتكرة وبرامج متنوعة(3).

مجموعات تراثيّة

وتوصف المجموعة التراثيّة التي تضمها المكتبة بأنها واحدة من أهم المجموعات الخاصة في موضوعها بالشرق الأوسط، ولذلك حرصت المكتبة على إتاحتها للجمهور والباحثين والدارسين، باعتبار هذه المجموعة جزءًا من تراث الفكر الإنساني(4). ولعلّ في هذا ما يعكس مدى فهم المكتبة لطبيعة وأهمية المجموعات التراثية بأنها على الرغم من أهميتها لدى الباحثين والدارسين، والغوص في كنوز المعرفة، فإنها جزءٌ من إرثٍ إنساني كبير، ولذلك حرصت على اقتنائها، تعزيزًا للتعايش الإنساني بين الشعوب، وتعميقًا في الوقت نفسه من عُرى التواصل الثقافي والحضاري عبر مختلف أشكاله.

■ من داخل المكتبة التراثية في مكتبة قطر الوطنية

هذا الإرث الكبير من المجموعات التراثية من مخطوطات وكتب مطبوعة وخرائط وسجلات أرشيفية وصور وأدوات للرحالة وعدد آخر من المقتنيات النادرة تمَّ جمعُها في مكان واحد، لتعكس الطابع الفريد للثقافة العربية والإسلامية، إذ تصل مجموعة المخطوطات إلى قرابة أربعة آلاف مخطوطة تلقي الضوء على مكانة الدين الإسلامي الحنيف والقرآن الكريم، ودوره في تحقيق النهضة العربية، بالإضافة إلى ما تضمه هذه المخطوطات من علوم دينية وسير ذاتية وثقافة من شعر وأدب، فضلًا عن المعارف والعلوم الأخرى(5). وشكَّلت هذه النفائس دعامة أساسية للمكتبة التراثية، التي تُعد القلب النابض لمكتبة قطر الوطنية.

وبلغة الأرقام، فإن المكتبة التراثية تضم حوالي 50 ألف مادة تاريخية، وتشمل أكثر 70 ألف صورة فوتوغرافية، وأكثر من 1300 خريطة، وما يزيد على 26 ألف كتاب مطبوع، وأربعة آلاف مخطوط تاريخي، فضلًا عن عشرات من المجسمات للكرة الأرضية والأطالس، ومجموعة ضخمة من المواد الأرشيفية، وذلك علاوة على المعرض الدائم للمكتبة التراثية المكون من 12 قسمًا، يتناول الآداب والعلوم، والرحالة، ومكانة المرأة. ومن أبرز هذه الأقسام قسم “قطر عبر الزمن” الذي يسلط الضوء على المصادر التاريخية التي تضمها المكتبة التراثية فيما يتعلق بدولة قطر.

ومن حين لآخر، تقوم المكتبة بتنظيم العديد من البرامج والفعاليات التي تدعم تحقيق أهدافها، وفي مقدمتها دعم القراءة والحث عليها، فضلًا عن دعم البحوث والدراسات، ما جعلها تطلق جائزة المبادرات المفتوحة التي تحتفي بأفضل المشاريع والمبادرات والإنجازات في نشر المعرفة والدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية وإتاحة الوصول إليها للجميع دون قيود. وقامت بتتويج الفائزين بالنسخة الأولى لهذا الجائزة خلال أكتوبر/تشرين الأول 2020، وهو ما يعكس مدى حرص المكتبة على تقدير المبادرات والأنشطة التي ساهمت في تطوير العلوم والدراسات المفتوحة في قطر.

وحرصًا على التفاعل مع محيطها الإقليمي والعربي، فقد أولت مكتبة قطر الوطنية اهتمامًا بالغًا بإبرام العديد من الشراكات مع الجهات الدولية ذات العلاقة، بما يحقق أهدافها، ويلبي تطلعاتها المستقبلية، الأمر الذي يعزز بدوره من مكانة المكتبة على الصعيد العالمي، ومن ثم الثقافة القطرية بكل ما تشكله لها المكتبة من دور كبير في نشر المعرفة إلى مختلف الأصقاع.

صيانة التراث

ومن تقدير الجهات الدولية للمكتبة، لدورها في تطوير طُرق حفظ التراث ونشره، عملًا برسالة مؤسسة قطر الرامية لتعميم المعارف، وتنشئة أجيال مثقفة وملمة بتاريخها، فقد اختارها الإتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات (إفلا) رسميًّا كأول مركز إقليمي عربي لحفظ وصيانة التراث العربي والإسلامي، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما يلقي على عاتق المكتبة مسؤولية دعم وصيانة التراث، فضلًا عن أن هذا الاختيار يفتح الطريق لتكون ضمن الشبكة الدولية التي تتولى مهمة حفظ التراث.

■ جانب آخر من خارج المكتبة ليلاً

الحضور الكبير لمكتبة قطر الوطنية على الصعيد الدولي يبرز مدى المكانة العالمية التي صار إليها هذا الصرح العريق، وأنها بقدر موقعها الجغرافي المحلي، فإنها تحرص على الانفتاح على مختلف الجهات المعنية بالمعرفة والثقافة، وهو الانفتاح الذي قابله تقدير دولي، ما جعلها وجهة للباحثين والطامحين للمعرفة، فضلًا عن كونها ملتقى يجمع الثقافات والمعارف المختلفة في رحاب الثقافة القطرية، بكل ما تشهده من تطور ومنجز حضاري.

————————

إحالات:

1- مكتبة قطر الوطنية، الموقع الإلكتروني، الدوحة.

https://www.qnl.qa/ar/about/about-the-library

2- مكتبة قطر الوطنية : التقرير السنوي 2018، ص22، الدوحة.

3- مرجع سابق. مكتبة قطر الوطنية، الموقع الإلكتروني، الدوحة.

4- تاريخ الكتاب.. رحلة المعرفة، كنوز من التراث العربي والإسلامي في مكتبة قطر الوطنية – مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، محمد همام فكري، ص90، معرض الدوحة الدولي للكتاب الدورة 25، الدوحة.

5- في البداية كانت “أقرأ”: العرب عبر التاريخ.. نماذج من مجموعة المكتبة التراثية، ص5، مكتبة قطر الوطنية، الدوحة.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى