الإنتماء وتداخل الصور بين إحداثيات الوعيّ المفاجئ وصعوبة التغيير: رواية «س» للأردنية كفى الزعبي
- إبراهيم الجيدة: تقلبات السوق وراء أزمة صناعة النشر - 2023-11-26
- أول طلة - 2022-10-29
- لبنة في هذا الصرح - 2022-03-31
الجسرة الثقافية الالكترونية –
صونيا خضر
«هكذا… فجأة، ومن دون أسباب أو مقدمات يتحوّل عشاؤنا الهادئ وحوارنا الثقافي إلى معركة بعد أن يقلب الطاولة بما عليها في وجوهنا ويهجم علينا بالسكين»
هكذا أوضح (كما تقول الكاتبة كفى الزعبي) عازف الكمان، الموسيقي الوحيد بين مجموعة من الأصدقاء فكرته عن سمات الموسيقى الكلاسيكية وعما يميزها خلال العشاء الذي جمعهم في الصفحة الاولى من الرواية، وهكذا وبدون مقدمات أيضاً تنفجر الفكرة في رأس الكاتبة التي يخطر ببالها أن الإدراك المفاجئ والعميق لجوهر الواقع الذي نحيا فيه فننذهل من تآلفنا معه يصلح أن يكون موضوعاً لرواية بطلتها الوحيدة امرأة اسمها «س».
في مكان ما من الرواية تمشي «س» في طريق عودتها من المحكمة مخذولة دون أن تنظر إلى ذلك الجرح الطويل خلفها والذي يسمى حياة كما فعل بطل رواية «بيدرو بارامو»، لأنها لا تأبه إن بقيت في ذاكرة هذا الجرح الأخضر الفضفاض أو على حوافه أو حتى خارجه وتعرف أن يد الحقيقة الموحشة ستكنسها من ذاكرة هذا الجرح في كل الأحوال.
«س»؛ هي النقطة الواقعة خارج الدائرة المكتملة في داخل الصورة المعلّقة على الحائط، هي الرقم الزائد عن الحاجة في السجلّ المدنيّ، هي المتحرّك في الثابت والمتحوّل في المقدّس، هي الشكل الناقص من المشهد الذي يبدو ورغم نقصانه كاملاً؛ فهي امرأة بخيمة ثقيلة لكنها خارج المسافة المحسوبة جيداً بينها وبين رجل لا يكلّف نفسه عناء الالتفات للتأكد من محافظتها على تلك المسافة في المشهد المتكرر في الرواية وانجرارها خلفه، هي امرأة تحمل النافذة وقت خروجها من البيت لكنها خارج كلّ ما لا يجوز لها أن تنظر إليه، هي امرأة حزينة لكنها عصيّة على ممارسة هذا الحزن أو الذهول بشكل عاديّ.
«س» هي الأنثى المكبّلة بالنص الحقيقيّ الذي لا يشبهها بشيء، المنفلتة بخيالاتها عنه، والتي تؤلفها الكاتبة بحيث تجيز لها الخروج العرضي عن هذا النص حين تشتري علب السجائر من السوبرماركت المقابل للشقة التي تسكنها وحيدة وزجاجة الفودكا من محل لبيع الخمر ورواية المسخ لـ»كافكا» من المكتبة، وهي ذات الأنثى التي تعيد تأليف الكاتبة بدورها وذلك بخروجها السافر عن النص حين تجلس بحجابها في بار في قاع المدينة فلا تعود الكاتبة لتنشغل بمصير هذه الشخصيّة بالرواية بل تتواطأ معها على مغامرة التجريب وقطع الخيط الأخير بينها وبين السطور للتحليق في فضاء أكثر صدقاً ورحابة قد يودي بالكاتبة والشخصيّة معاً إلى مصير واحد وهو السقوط في مهبّ الغضب الذي سيسقط عليهما وعلى الرواية.
«س» هي الأنثى التي لا تكترث بسيل هائل من الشتائم وترفع قضية على الرجل الذي استخدم لفظ «أنثى» (فقط) ليشتمها به، لإدراكها مدى وضاعة هذا اللفظ إن خرج على شكل تذكير بواقع حقير يراها عليه الشاتم، ولا تتوانى عن إسقاط حقها في هذه القضية بعد أن توشك على كسبها لقاء سبب آخر لا يعنيها بشيء.
و»س» هي البطلة التي يصلح أي حرف من حروف الأبجديّة لأن يكونها فيما لا يصلح أي اسم من الأسماء الكاملة لأن يكون اسمها نظراً لأنها ذلك الجزء الناقص من الأنثى العادية الراضخة والذي يعيش خارج كل الأسماء، كما ولا تصلح أي أنثى لا تعي كينونتها جيداً وتضطر لحمل النافذة لحظة الخروج إلى النص أو الدخول فيه لأن تكونها، لا لهشاشتها الشديدة أو لصلابتها الشديدة بل لصلابة وأصالة هذا الجرح الذي يسمى حياة (كما تصفه الكاتبة) في هذه البقعة من المكان.
المكان، الذي يصلح لأن يكون سقف عمان أو قاعها أو سقف أو قاع أية عاصمة عربية أخرى لكي تتمكن الكاتبة من القيام بجولاتها الاستدلاليّة في العمق وعلى الحواف بلا ريب من مصداقية الحدث أو تخيّله مانحة لكل قاريء حرية الاستنجاد بتجربته الخاصة أو ذاكرته القريبة لارتياده ورسم المشهد بألوان أكثر ضبابيّة وقراءة هذه الرواية على النحو الذي يريد.
فكما أن هنالك أكثر من نوع من القراء، هنالك أكثر من طريقة لقراءة رواية واحدة سأختار منها طريقتين، واحدة غير مهمة على الاطلاق في رواية «س» وهي سرعة الدخول وسرعة الخروج منها لمعرفة ما الذي سيحدث للمرأة الوحيدة التي سقطت هي وجسدها المختنق بجلباب في نصّ غريب ومحيط يبدو ضبابيّاً أمامها لا يشبه الحقيقة التي تراها بوضوح، وحثّ النشاط التوقعّي للقارئ على الإسراع باستدراج الفكرة نحو السياق التقليديّ للربح والخسارة في معركة وعي غير متكافئة على الإطلاق.
أما الطريقة الأخرى فهي تناول الأحداث قطرة قطرة دون أدنى اكتراث بالصفحة الاخيرة ومصير الشخصيات وما قد تحمله من خدع كتابية وعاطفيّة لحمل القارئ على اجتياز عتبة النهاية ثم اغلاق الباب خلفه، فالكاتبة هنا تعمّدت إلهاء القاريء عن المصير المتخيّل لشخصية الرواية عن طريق لقائها بالصدفة بعد تأليفها ومحاولاتها لتقصّي أثرها وملاحقتها وزجّها في حالات اللا وعي المتكررة للكاتبة ومشاركتها الدوران والحلم والسكر، فيما القارئ يلهث في التباطؤ الشديد للأحداث لا للوصول إلى مصير الشخصيّة بل لادراك مكانه ودوره في هذا النص. وهذه هي الطريقة التي تعتمد فيها كاتبة بعمق وادراك كفى الزعبي قرّاء روايتها فهي لا تكتفي بأن تطأ أرضا لا تجرؤ الكثيرات أن يطأنها فحسب بل وتتعمد أن تحرثها حرثاً مجازيّاً وواقعيا في الوقت ذاته متجاوزة (كما تفعل دائماً) الفضاء الطبيعيّ الذي تواصل التردد عليه الكاتبات وتفوق النشاط التوقعيّ للقارئ وللنصّ معاً لا لغرابة الأحداث وتعقيدها بل لشدّة بساطتها وسهولة تفكيكها.
ينحاز الراوي عادة لبطل روايته ويحبّه دون أن ينتظر منه أن يبادله هذا الحب، ويحاول نجدته كلّما خرج عن النصّ ليبدو أمام القارئ ضحيّة تستحق عطفه وفضوله في الوقت ذاته إلى أن تكتمل الرواية، الا أن الكاتبة هنا ولشدّة تعلقّها ببطلة روايتها تعمّدت وفي كثير من الصفحات اخراج البطلة عن النصّ عبر تقنيات التصاعد الاستعراضيّ للحالة المألوفة، (كأن تجعل أبا ابراهيم صاحب السوبرماركت والوصيّ على مواريث واخلاقيات الحيّ يفجّر شتائمه في وجهها إلى درجة قد توصل خوفها لحالة من الغليان) ثم تفاجئ القارئ بسقوط مدوّ للمألوف المقابل (حين تصفع «س» أبا ابراهيم بكل بساطة على مرأى من الجميع) ولشدة تعلقها بالبطلة ايضاً لم توكل الكاتبة للقارئ مهام تقصّي سيكولوجية المرأة التي تعي كينونتها، بل فردتها أمامه بوضوح عن طريق استخدامها لتقنيات التهدئة او التباطوء من خلال تكرار المشهد لعدة مرات وجعل هذه الرواية آلة مفتوحة على التوقّع وليس التخيّل والرصد وليس الترصّد دون اكتراث لمصير هذه البطلة التي تجاوزت حدود المحيط والتوقّع بترويضها للنص بحيث يتلاءم مع خروجها الدائم عنه، فهي لم تر ضيراً في رفضها للحماية الذكوريّة أوفي عدم انصياعها للمحاكمة الذكورية أوفي سيرها بعكس اتجاه النهايات التقليديّة للروايات.
تغادر الكاتبة و»س» معاً هذه الرواية كما تغادران المكان وهما على قناعة تامة بأن إشكالية الانتماء لا تكمن في الانتماء إلى الحقيقة أو الانتماء إلى الوهم ولا بمعنى هذين المصطلحين، بل إلى رحابة المكان ولتزاحم الصور والأفكار لمختلف الأطياف والنماذج الروحيّة فيه من دون مركز ومن دون نقطة انطلاق كما في لوحة المربع الأسود الشهيرة للفنان الروسيّ كازيرومفيتش، «فكل النقاط فيها تصلح لأن تكون مركزاً وتتداخل فيها الوجوه والأحداث والصور والأسئلة فينتج عن تداخلها بخار حار يملؤها برداً ووحشة معتمة تتحول الى مربع أسود يصعب الخلاص والفرار منه» كما تصفها الكاتبة في صفحة 103 من الرواية.
القدس العربي