العرب وحروب لا طائل من ورائها: في مُطابقة التّمثيلات والتصورات الغربية

الجسرة الثقافية الالكترونية –

رامي ابو شهاب

كثيراً ما ينشغل الخطاب الغربي بتقصي أسباب تفوق أوروبا بوصفها نموذجاً مثالياً، ومطلقاً للأمة التي تقود التّاريخ، والعالم برمته، وكي يستقيم الأمر، كان لا بد لخطاب المركزية الأوروبية من خلق تمثيلات للطرف الآخر، أي العالم غير الغربي الذي يشمل الشّرق، والمسلمين، والعرب، بل سائر شعوب الأرض، وبذلك، فلا جرم أنْ تصدر غير دراسة عن منظري المركزية الأوروبية تتغيا هذا المسلك. ومن هنا كان لا بد أنّ نسعى لمساءلة فكرة مطابقة خطاب المُتخيل الغربي فيما يتعلق بالشّرق بوصفه حاضناً، ومقراً لثقافة الحرب التي هيمنت على أقاليم كثيرة، ولاسيما في القطاع العربي حيث يبدو الموت مجانياً وعبثياً، نظراً لأن الحرب أمست قيمة إنجاز مُسيطرة على الذّهنية العربية التي تكوّنت من مخلفات الاستعمار، بالتّضافر مع الأنساق السّلطوية التي تغذّي هذه النزعات. ومع أنّ منظور المتحاربين في الشّرق، يذهب إلى أنّ هذه الحروب تأتي في سبيل التّحرر، والخلاص نحو المزيد من الدّيمقراطية، واستجلاب أنساق من الدّول – في معظمها راديكالي أو اتباعي- اتكاءً على قوة السّلاح، غير أن هذا المسعى لن يكون كافياً، ما لم تكن هنالك بِنية ثقافية وعقلانية، تقود المشروع الحضاري التنويري «العربي الجديد»، وأقول الجديد؛ لأن ما سبق من مشاريع نهضوية قد فشلت… ما لم تكن مسؤولة عما نحن فيه من اختصام، واقتتال دائم، كون تلك المشاريع حالت دون تكوين دول تنهض على قيم القانون والعدالة والحرية والدّيمقراطية.
ما من شك، بأن ناقد المركزية الغربية سوف ينشغل بنفي مقولات المركزية الأوروبية، وأبرزها أفكار تتصل بإيريك جونز الذي وضع كتاباً، يحدد فيه عوامل تفوق الثّقافة الأوروبية على باقي الحضارات، ومنها الشّرق، بما يشمل العرب والمسلمين، والصّينيين وغيرهم. ومما يعجبُ له القارئ، ما أورده جونز من نزعات اختزالية، مؤداها أنّ الشّعوب العربية تتسم بعدد من الصّفات التي تحول دون تقدّمها حضارياً، ومنها غياب البحث الإمبريقي، والكسل، وحب الرفاهية، علاوة على الولع بشراء الأشياء التافهة، وعقاقير، لا تعرفها الدّساتير الطّبية، يُضاف كذلك الرّوح الذّليلة، ونزعة الخيانة. كما يصف جونز الشّرقيين بأنهم مفطرون على عدم مقاومة الأوتوقراطية، والميل للانعزال، ناهيك عن افتقادهم لروح الاستكشاف (بلاوت، ص 147)، غير أنّ أهم من كل ذلك عبارة، يوردها جونز في معرض مناقشته لأسباب تراجع الشّرق، ومنها أن الشّرقيين ينشغلون بحروب لا طائل من ورائها (ص 147). ومع أن ما يذهب إليه جونز ما هو إلا نتيجة منهج من التحليل، والقياس الخاطئ كونه ينبثق من نزعة تهدف إلى تمجيد الأوروبي، ولكن الإشكالية والمفارقة تتحقق حين نجد أنّ الشّرق ـ غالباً- ما يذهب إلى مُطابقة تلك التمثيلات، ولو جزئياً؛ ولهذا ينبغي أن نتمهل قليلاً للبحث عن بعض هذه الصّفات، ومدى ما بات منها قريب الصّلة بنماذج من السّلوك الشّرقي التي تدفع بعض منظري المركزية إلى اتخاذها دليلاً على ما يذهبون إليه، ولاسيما حين تتحول إلى مسلك مُهيمن لدى بعض الشّعوب، كما في حالة العرب الذين يبدون – في زمننا هذا – مولعين بالحرب. غير أنّ الولع بالحروب وخوضها أشدّ ما يكون لصيقاً بالأوروبيين، فمعظم الحروب، وأشدها قسوة تدين لأوروبا! ومنها حروب داخلية ذات طابع ديني، لم تؤدِ في معظم الأحيان إلى نتيجة، ولذلك صُفيت، وهنالك حروب كولونيالية، طالت تداعيتها الكثير من مناطق العالم نظراً للكم الهائل من الجغرافيات التي أتت عليها تبعاً للنزعة الاستحواذية، والطّبيعة الاستعمارية لأوروبا، وهكذا تبلور مفهوم يتعلق بالحرب، ومفاده أنّ الحروب تكون مبررة حين ترتبط بخدمة هدف، وغرض ما، ولعل هذا يفسّر تلك النزعة التّوسعية لكثير من الحروب الأوروبية التي كانت تهدف إلى الاستفادة من هذا السّلوك في بناء، وتدعيم أوروبا، ولاسيما إبان الثورة الصّناعية التي تطلبت الكثير من الأسواق، والأيدي العاملة، والمواد الخام، وفي المحصلة، فإنّ الحروب الأوروبية كانت ذات سلوك مبرر بالنسبة للأوروبي، كون جزءاً منها كان موجهاً للعالم الآخر، والجزء الثاني كان بين الدّول الأوروبية للسّيطرة على المستعمرات، إلا أنّ الدّروس والعبر التي استفادت منها الحضارة الأوروبية بعد منتصف القرن العشرين، قادها إلى التفكير ملياً قبل خوض الحروب، إذ لا بد من أسباب مقنعة، تستوجب ذلك.
إذا ما نظرنا إلى نسق الحروب التي تشتعل الآن في المنطقة العربية، فإنها تبدو أقرب إلى حروب لا طائل من ورائها، وإن تسترت بأقنعة تحقيق الدّيمقراطية، وحرية الإنسان، وصون كرامته، ورفاهيته، بل هي غالبا ما تؤدّي إلى نتائج عكسية، وهي في معظم الأحيان تقود إلى فعل استبدال لأنساق سلطويّة، لا تختلف إلا في الظّاهر، والآليات، وبناء على ذلك، أمست الحربُ جزءاً من صناعة، واستثمار سلعتها الوحيدة الموت، وبذلك فقد تحولت الحرب إلى «ثقافة». وتعليل ذلك يعود إلى نمط الشّخصية العربية المُفرغة، والمَهزومة، والتي شُيّدت من مخلفات الاستعمار، وما تبعة من أنساق سلطوية محلية.
كل ما سبق حال دون اجتراح قيم حضارية مُنجزة، وبذلك لم تجد الشّخصية في ذاتها قدرة على الإنجاز على أي مستوى من المستويات الحضارية، فسنوات من الجهل، والتّخلف، والبيروقراطية، والفساد، قد أفرزت شخصية لا ترى إنجازها، وذاتها إلا بالسّلاح، وامتلاك السلطة. والمتتبع للتاريخ العربي الحديث يلحظ أن العقل العربي انشغل بصراعاته الداخلية أكثر مما انشغل بالصّراع العربي الإسرائيلي، وأن من قُتل بالحروب والنزاعات العربية العربية، يفوق ما قتل بالحروب العربية الإسرائيلية، ولهذا فإن التّقدم والإنجاز نحو المزيد من بناء نموذج الدولة المتقدمة، يبدو غائباً عن العقلية العربية التي تبدو معظم كياناتها خاضعاً لسلطة الاستهلاك، والثانويات، وهو ما يقترب من مطابقة تمثيل مؤرخي المركزية الأوروبية، ونظرتهم للعالم الآخر.
يقودنا التّحليل إلى أنّ العقلية العربية تذهب بوعي، أو دون وعي إلى مُطابقة التّصورات والتّمثيلات التي صاغها الخطاب الاستعماري، أو الكولونيالي، فالإنجاز العربي يُتوج بسلسلة من الحروب التي لا طائل من ورائها، إذ لا يكاد يُلتفت إلى أية رغبة بالاكتشاف، والاختراع والابتكار، ومعنى الدّولة غير ناضج، والقانون هامشي، ونحن في معظم الأحيان منشغولون بالطارئ والهامشي، وإذا ما بقينا في هذا النسق من المطابقة للتمثيلات الغربية فإن ذلك يعني أننا نذهب إلى المصادقة على مقولات الخطاب الغربي في تحليله لأسباب تخلّف الشرق، وبالتالي، لا يمكن أن تُقوّض هذه التمثيلات، ما لم يُسعَ إلى البحث عن وسائل، وأساليب عملية، وممارسة فعلية لمعنى الإنجاز عبر التّخلص من الثّانويات والاستهلاك والكسل، ناهيك عن خوض الحروب العبثية.
إن أي متتبع لأي منتج فكري، وثقافي، وحضاري …. سوف يجد مقدار التّواضع العربي المُنجز، وهنا نعمد إلى آلية إحصائية، وليس مجرد نظرية، وخطابات لا تمتلك سوى أدوات النفي، في حين أن ما هو على الأرض، والواقع يذهب لتأكيد تمثيلات الغرب، وخطابه الكولونيالي المهيمن يوماً بعد يوم، فالمفارقة تبدو جلية، حين نجد أنّ التمثيلات الغربية تترجم واقعياً من حيث اضطراد تقدم الجهة الغربية في شمال، وغرب الكرة الأرضية، في حين أن الجنوب والشرق يزداد بؤساً. ولعل ما نطالعه من أرقام وإحصائيات للانزياحات السكانية لمهاجرين يسعون للوصول إلى النموذج الغربي العقلاني، والديمقراطي هرباً من البؤس والديكتاتوريات، وانعدام الحريات الفردية، وحقوق الإنسان في قطاعات كبيرة من القارة الأسيوية والإفريقية، لهو دليل على عمق الأزمة، وإذا لم نسارع إلى الوقوف على أسباب هذا الاختلال، فإننا مضطرون إلى الاعتراف مُرغمين بالعوامل والتّحليلات التي ارتكز عليها مؤرخو المركزية الأوروبية، والتي يحددها جونز بعدد من العوامل: منها النقص النفسي نتيجة عدم توفر العقلانية في أمور الحيوية الفكرية، بالتّزامن مع عدم القدرة على الابتكار، وعامل يتحدد بالبيئة، وأثرها على الشّخصية… ، بالإضافة إلى النمو المطرد في عدد السّكان مما يحول دون التّقدم اقتصادياً (ص147).
إن خطاب جونز يذهب تشخيص حالة هذا النّكوص الدّائم للشرق، فالبشر يتطورن، ويتغيرون ما لم يكن هنالك من موانع خارجة على أجسادهم، وعقولهم، تمنعهم من ذلك (ص 151). إذن لا بد للشّرق من البحث عن عوامل التّقهقر المزمن على المستوى الحضاري، وهذا يعني أنه ينبغي أن نشرع في دراسات تذهب بالمستوى الأفقي والعمودي بهدف الخروج من الأزمة الحضارية. وبما أنّ مُعظم نظريات، ومقولات جونز لا يمكن أن تصمد أما التّحليل المنطقي، إلا أنّ السّلوك في العالم الشرقي، لا يفعل شيئا لنقض هذه النظريات، بل هو يسعى إلى المزيد من الحروب التي لا طائل من ورائها سوى أنها تعدّ منجزاً مشوهاً لشخصية قلقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى