غيمة أحفاد حسين مروة
الجسرة الثقافية الالكترونية-العربي الجديد-
*احمد باشا
عند خوض تجربةٍ مسرحيةٍ، تغدو أيّ إجابة لحظية عن الأسئلة التي يجابهها المسرح بوصفه مختبراً فنياً، دون العودة إلى الحياة وما تفترضه من دراماتورجيا خاصة بها، محض افتراءٍ، وذلك لكون الدراما بالدرجة الأولى: فعلاً. الأسئلة نفسها قد تضع صاحبها في حيرةٍ أكبر إن بقي الواقع مزيفاً، وامتنع عن مواجهة نفسه.
مع الاستعصاء السابق، يكون البحث في أرشيفٍ مرعبٍ كأرشيف الحرب الأهلية اللبنانية بمثابة تصادم مع الواقع. ذلك ما لم يتوان الفنان اللبناني ربيع مروة عن فعله، خصوصاً في عرضه “أمتطي غيمةً”، الذي قدّمه أخيراً على مسرح “لا سيتيه” الباريسي، بالتوازي مع عروض لثلاثيته على مسرح “الباستيل” ضمن فعاليات “مهرجان خريف باريس المسرحي”.
يقدّم مروة في “أمتطي غيمة”، الذي كتبه مع الفنان سرمد لويس، حكاية أخيه ياسر. في القصة المُقدَّمة، تظهر الحقيقة بوصفها حقيقيةً فقط، والأداء بكونه بوحاً يبدو أن صاحبه يريد أن يكمل الذاتي بالموضوعي، أو العكس.
يتآلف ياسر مع ما يقدّمه، بل تخاله أحياناً المتلقي، متبادلاً دوره مع من في الصالة. هكذا، في تشابه قصص الحرب الأهلية وتداخلها، ليس غريباً أن تسمع بكاء امرأة في الصالة، كما حدث في أحد عروض ربيع التي قدّمها في بيروت العام الماضي. يحكي ياسر مأساته في “أمتطي غيمة”؛ يجلس وراء طاولته على يمين المسرح، ويضع أمامه أشرطة فيديو صوّرها بنفسه، ليعرضها على شاشة كبيرة وسط الخشبة.
نجا من بأعجوبة الموت عام 1987. كان ابن السابعة عشر عاماً قد سمع نبأ اغتيال جده المفكر حسين مروة، فركض باتجاه بيته، وإذ بقناص من “حركة أمل” يرديه أرضاً. هكذا، فقد الشاب، المنحدر من أسرةٍ شيوعيةٍ، القدرة على النطق، كما أصيب بشلل في الجزء الأيمن من جسده.
يسافر بعدها إلى الاتحاد السوفيتي وتُجرى له هناك عملية جراحية في رأسه. يعود بعدها إلى لبنان وقد نسي لغته. يبدأ تعلّم الكلمات والأرقام من جديد، ويحسّن نطقه بعد أن ثقل لسانه لفترة طويلة.
يتكلّم ياسر عن مأساته السابقة وكأنه يقدم شخصاً آخر يشبهه إلى درجة التطابق. لكنه لا يتحدّث بلسانه، بل يحاوره بوعي ما بعد الحادثة. تشكّل الإصابة فاصلاً نفسياً بينهما هما الاثنين، فالرصاصة شطرت حياته، بعد أن مزقت خلايا في دماغه، إلى حياتين: ما قبل الرصاصة وما بعدها. كل ذلك لم يمنع الشاب من السخرية من الرصاصة على خشبة المسرح.
كعادته، يسمّي ربيع الأشياء باسمها، ولا يستكين لقسوة مفردة أو حادثة، طالما أن ما يقوله يستمد مادته الأصلية مباشرة من الواقع. فهو المسرحي الذي لم يغرِهِ الإيهام المسرحي منذ تسعينيات القرن الماضي. في مسرحه لا مكان للاحتيال على الواقع.
وعلى الرغم من خصوصية القصة التي قدّمها في “أمتطي غيمة”، إلا أنه يرمي إلى راهنٍ لبنانيّ، تفترض معالجته جدية أكبر مما يُمارس على الساحة الثقافية. لذلك يضع حالة أخيه برمزيتها وبقدرتها على النفوذ إلى الواقع، أمام المشاهد، لتكون مدخلاً إلى فهم طبيعة العلاقة مع الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم يتردّد يوماً في الإشارة إلى وجود الكثير من فاعليها في صلب الحياة اللبنانية. ذلك ليس غريباً على مروة الذي سمّى المجرمين المسؤولين عن الحرب بأسمائهم في عرض “لكم تمنّت نانسي لو أنّ كل ما حدث لم يكن سوى كذبة نيسان” (2007).
وفي السياق نفسه، نستحضر الكلمات التي أطلقها مروة في عرضه “كيف بدي وقف التدخين” (2006)، التي وصفها بأنها مجرد كلمات فقط. ومنها: “أعتذر من جميع الأشخاص الذين كنت جلادهم أو كانوا ضحيتي. أعتذر لأنني كنت موافقاً على أن أكون مرافقاً مسلحاً لوفد ديبلوماسي سوفياتي قدم إلى بيروت لبضعة أيام ونزلت معهم في فندق البوريفاج. أعتذر لأنني وافقت على أن أتسلّم مدفع هاون من دون أن أتدرّب عليه أو أن أعرف كيفية استخدامه. أعتذر لأنني وافقت على الذهاب إلى كوبا لمدة شهر للمشاركة في دورة عسكرية لفصائل حرب الشوارع. أعتذر عن رضوخنا للضغوضات التي جعلت المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي حقاً حصرياً لحزب الله. أعتذر لأنني خلال الحرب لم أتعرّض لأية إصابة جسدية، ولم يخطفني أحد، لم أستشهد ولم أتعرض لأي محاولة اغتيال. أعتذر لأنني في بعض الأحيان أسرق قصص ونصوص الآخرين وأضعها على لساني. أعتذر لأنني أحب الكذب واللعب، من دون اعتبار لمشاعر الآخرين”.
في “أمتطي غيمة” يذهب مروة، الحاصل على جائزة “الأمير كلاوس” (2012)، في اشتغاله على الوثائق إلى الحدود القصوى، متعمداً صدمة أقوى من سابقاتها. وفي السبيل نفسه، جاء بأخيه ليقدّم حكايته على طريقته، فيعرض أشرطة فيديو ومقاطع صوتية سجّلها بنفسه، وأيضاً يغني ويعزف ويقرأ الشعر. كما أن اسم العرض، نفسه، يحمل عنوان إحدى مجموعتي أخيه الشعريتين (دار الفارابي، 2002).
تبدو الوثائق التي يعرضها مروة، كما في معظم أعماله، متوافقة مع فلسفته الإخراجية، وهي تنبع أساساً من تناسق الشكل الفني مع ما يبتغي أن يقوله. الوثيقة في عمل مروة ليست إلا مادة لاستفزاز المتلقي، تواجهه، تسعى إلى توريطه في صياغة السؤال لإزاحة صفة التلقي عنه، داخل الصالة وخارجها.