حصن الذاكرة والمقاومة .. بعض ملامح الحركة التشكيلية الفلسطينية
عانت هبة زقوت، كسائر أبناء غزة، أهوال الحروب لكن لوحاتها تخلو من أي أثر لمشاهد الرعب والدمار
الجيل الذي خرج للحياة على أرض فلسطين بعدما سقطت كاملة في قبضة الاحتلال تحتم عليه الصراع مع الاستيطان الصهيوني
حضور رنا بشارة ملحوظ ومؤثر في الحياة العامة، فهي نموذج للفنان المثقف العضوي وثيق الارتباط بمحيطه الاجتماعي
القضية الوطنية تشكل النسبة العظمى من مجمل أعمال كل فنان فلسطيني، هي الموضوع ورموزها عناصر التكوين
بين جيل الرواد تفرد (ناجي العلي) بأسلوبه الكاريكاتوري الساخر فكان هو أول رسام كاريكاتور فلسطيني
____________ أحمد عز العرب
استشهد الفنان الصغير (براء) أثناء قصف مدرسته ولم يكن مر أسبوع على تكريمه في المعرض العام للمدارس، فنعته أمه الفنانة التشكيلية (هبة زقوت) على صفحتها يوم 10 أكتوبر الماضي: (اللهم نستودعك قلوبًا مفجوعة بالفراق اللهم اجبر كسر قلوبنا واجعلنا لقضائك وقدرك صابرين، يا رب كن معنا) ولم تمض سوي أيام ثلاثة حتى لحقت الأم وكامل أسرتها بابنها في المحرقة التي نصبتها إسرائيل لسكان غزة.
تنتمي هبة إلى الجيل الثالث من الحركة التشكيلية الفلسطينية، فهي من مواليد غزة 1984 درست الفنون الجميلة في جامعة الأقصى، بدأت عملها 2007 بلوحات مشحونة بالعاطفة تعبيرًا عن عواطفها تجاه وطن أحبته دون أن تراه، وقالت: (ولدت وعشت كلاجئة في غزة لعائلة من المزارعين أجبرتها العصابات الصهيونية على مغادرة أراضيهم 1947 ففروا لاجئين إلى غزة وعشت في كنف عمتي حكت لي كثيرًا عن بيت جدي وبيارات البرتقال ومواسم قطاف الزيتون فأصبح وطني هو حكايات عمتي).
لعل هذا يفسر الغنائية التي تفيض بها أعمالها ونزوعها إلى الزخرفة لتجميل صورة ذهنية للوطن ورموزه، لوحاتها منيرة زاخرة الألوان باعثة البهجة كأنها ترسم بروح طفل يرى البيوت مكعبات متلاصقة حول قبة الأقصى، هي عانت -كسائر أبناء غزة- أهوال الحروب التي لم تتوقف في العقدين الأخيرين لكن لوحاتها تخلو من أي أثر لمشاهد الرعب والدمار التي صارت جزءًا من الحياة اليومية في غزة.
هل فرت من قسوة الواقع إلى أحلام الطفولة؟
يرى الناقد نوار جبور أن (هبة زقوت انتصرت على الحرب) لأنها لم تتعامل معها بوصفها قدرًا عليها محاكاته ورسم آلامه، بقدر ما حاولت الإبقاء على أملٍ عميق وروح إنكارية عظمى لآثار الحرب، مندفعة بالأمل والفن للتطهّر من الخوف. قضت هبة بلا شك أوقاتًا عصيبة، وهي تُبدل رغبة المحتلّ في إخافتها وإخافة سكان غزة، إلى فعل جمالي حيوي نهاري مفعم بالشروق، ملون وعميق البهجة.
تكمن أهمية أعمال (هبة) في كونها نموذجًا للتأثير الوجداني تبين كيفية توظيف الفن في توجيه المشاعر؛ حيث استعانت الفنانة بأدوات فن التصوير وعناصره في علاج الانفعالات السلبيّة التي تبعثها صور القتل والدمار في النفوس، فإذا كان العدو يريد أن تسود العتمة وينتشر الخوف والفزع فإن أعمال هبة زقوت تنشر النور وتبعث الأمل تعيد الطمأنينة والثقة إلى النفوس، خصوصًا تلاميذها الصغار في المدرسة، هكذا تصبح أعمالها ترياقًا مضادًا للخوف واليأس، تعيد للقلوب ثباتها، رسومها وسيلة من أساليب المقاومة السلمية لخطط الأعداء.
الخروج من المرسم
الجيل الذي خرج للحياة على أرض فلسطين بعدما سقطت كاملة في قبضة الاحتلال، صار غريبًا في وطنه، تحتم عليه الصراع مع الاستيطان الصهيوني وقد تحول نزاع الحدود إلى نزاع على الوجود، حرب متصلة كل ساعة تختلف عما واجهه جيل الفنانين الرواد مع النكبة الأولى، أو جيل الوسط الذي تفتح وعيه مع تنظيمات المقاومة المسلحة في الستينيات.
جرت تغيرات جذرية في العالم، سياسية واقتصادية مع تطور تكنولوجي هائل انعكس على أساليب الحياة وتيارات الفكر والفن. وعلى الأرض المحتلة آلت السلطة للتيارات والأحزاب الدينية الأكثر عنصرية وعدوانية فأضفت الحماية الرسمية لقطعان المستوطنين وسياسات الاستيلاء على الأرض وإزاحة الأهالي بالقوة والسطو على إرثهم المادي والثقافي.
صارت الهوية قضية وجودية وقومية، وتحديًا قائمًا كل لحظة بإلحاح أكبر من أي هموم شخصية لدى الفنان.
ورغم الحصار فإن أبناء هذا الجيل بفضل تطور وسائل الاتصال أتيح لهم متابعة ما يجري في العالم والاطلاع على الإنجازات التقنية والتطورات الفكرية والفنية التي طالت أشكال وأدوات التعبير الفني فتفاعلوا معها وأثروا معارفهم وأقبلوا على التجريب والتجديد لمواكبة روح العصر.
يبرز من هذا الجيل (رنا بشارة) أستاذة الفنون بجامعة القدس العربية، وُلدتْ في ترشيحا بالجليل الأعلى 1971. حصلتْ على البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة حيفا 1994 ثم نالت الماجستير من كليّة سافانا الأميركيّة ودرست الفنون المركبة الإنشائية في سويسرا والولايات المتحدة.
حضورها ملحوظ ومؤثر في الحياة العامة، فهي نموذج للفنان المثقف العضوي وثيق الارتباط بمحيطه الاجتماعي، تنخرط في الأحداث والمواجهات الجماعية لإشكاليات الحياة تحت قبضة سلطة عنصرية معادية. فتشارك دفاعًا عن وجودها الإنساني وهويتها القومية بما لديها من خبرات ومعارف بأساليب وأشكال التعبير الفني الجديدة.
أوضح معالم شخصيتها الفنية سمة الابتكار الخلاق فيتفرد كل عمل من أعمالها بصيغة تركيبية جديدة وتجمع بين أكثر من وسيلة كالرسم والنحت والسرد الأدبي والتصوير وشريط الصوت، ورغم ميلها لتيارات الحداثة الفنية وما بعدها فأعمالها قريبة من الحس الجمالي العام لا غرابة فيها ولا افتعال، هي السهل الممتنع. تتجاوز أعمالها إطار اللوحة وجدران المرسم إلى رحابة الشارع حيث تأبي الفنانة أن تبقى في انتظار الجمهور، بل تذهب إلى الناس حيث هم، تثير دهشتهم وفضولهم فينفتح الحوار معها، هي جزء من مكونات العمل تتواصل مباشرة مع الجمهور وتتبادل معهم الآراء والأفكار وطرح الأسئلة الجوهرية.
توضح النماذج التالية طريقة عملها:
– رداء الأسير: عمل مركب شكلته من 6 آلاف قيد بلاستيك يشبه ما تستخدمه قوات الاحتلال في القبض على الشباب الفلسطيني وارتدته تشارك به في التجمع الجماهيري أمام سجن الرملة في (يوم الأسير) وعندما بدأ الأسرى معركة الأمعاء الخاوية بالإضراب عن الطعام ساهمت الفنانة في الحشد بعمل مركب استخدمت فيه نبات الصبار فصنعت من أليافه خيوطًا رفيعة تربط قطعًا صغيرة من ألواح الصبار، ثم صورته وطبعته وقد أضافت إليه عنوان الحرية لأسرانا البواسل تحية إلى المناضل أبو سمرة (من أمعائك الخاوية من عطشك للحرية ترشح من زنزانتك كرامة).
وعندما أفرج عن بعضهم أهدت كلًا منهم رسمًا بصورته على لوحة من الصبار.
– إكليل شيرين: شاركت رنا بشارة في موكب عزاء الشهيدة شيرين أبو عاقلة بإكليل شكلته من أغصان الزيتون وأزهار الرمان ونبات الصبار، تختار دائمًا عناصر تشكيلها من خامات متوافرة طبيعيًّا يعرفها الجميع ويفهمون دلالاتها الرمزية مثل (الصبار) الذي يتكرر استخدامها له إذ تعتبره رمزًا لفلسطين الجنة التي قلبها لين حلو ومظهرها خشن شائك، تعيش على أقل الموارد، تصمد وتحتمل أقسى الأجواء.
الحاضر الغائب: عمل تركيبيّ أنشأته في بيتٍ قديمٍ في ترشيحا من ألياف صبّارٍ جافّةٍ كُتبت عليها أسماء العائلات الّتي هُجّرت من القرية عام 1948، وعلقتها بالحبال يطوحها الهواء، لا سند لها يبقيها إلا صبرها وصمودها الذي تمثّله ألياف نبتة الصّبار. وأضافت الفنانة شريطًا صوتيًّا لجدّ الكاتب سليم البيك، يرافق العمل، يروي فيه لحفيده قصّة لجوئه وأحداث النّكبة، ويسترجع من ذاكرته صور القرية القديمة وأهلها الغائبين الذين أعادت ذكراهم الفنانة وشريكها الكاتب سليم البيك.
“من يشتري خارطة الطّريق” استخدمت الفنانة نبات الصبار خامة أساسية في هذا العمل فعلقت في سقف قاعة العرض أليافًا جافة تتدلى منه وبخيط أسود وصلت قطع صغيرة من أوراق الصبار ترمز إلى القرى الفلسطينية التي دمرها الصهاينة وطاردوا سكانها خلال النكبة ـ وعلى جدران قاعة العرض ألصقت خرائط الأمم المتّحدة الّتي تبيّن الحواجز والنّقاط العسكريّة وخارطة جدار الفصل العنصريّ، آخر ما توصلت إليه محاولات تفتيت فلسطين وحصار أهلها. لكن الصبار رمز وطن يأبى التمزق والموت.
يتكرر استعمال الفنانة للصبار كأحد عناصر وخامات التشكيل وكرمز له دلالة واضحة كما تقول دكتورة مليحة مسلماني في دراستها (تمثلات الهوية في الفن الفلسطيني المعاصر) يحضر الصّبّار في أعمال رنا بشارة واضحًا في انتمائه لفلسطين وللفلسطينيّ، بشكلٍ لا يدع مجالًا للجدل والاختلاف على مالك الهويّة والأرض وصبّارها.
تتضافر أعمال رنا بشارة في الصّبّار مع بقيّة أعمالها الإنشائيّة الأخرى، مشكّلةً بذلك مسيرة فنّانةٍ ملتزمةٍ بقضيّتها، تضعها على المشرحة التّشكيليّة لتعرّي الحدث ومحاولات تصفية الهويّة، فيحمّل العمل برسائل سياسيّة ثقافيّة، نقطة انطلاقها دائمًا المأساة الفلسطينيّة الّتي تبقى دومًا بنطاق تأمّلاتها تشاغلها وتشغلها.
حنظلة يناديكم
بنظرة عابرة إلى مجمل إنتاج الحركة التشكيلية الفلسطينية من جيل الرواد إلى اليوم نلاحظ أن القضية الوطنية تشكل النسبة العظمى من مجمل أعمال كل فنان فلسطيني، هي الموضوع ورموزها عناصر التكوين: الصبار والزيتون والبرتقال وقبة الأقصى وزخارف الثوب الشعبي. كما نلاحظ ارتباط المنتج الفني بالأحداث الوطنية وانعكاس التطورات العامة والسياسية على الأساليب الفنية، فجيل الرواد الذي عاصر وقائع نكبة 48، سادت الرومانسية لوحاتهم الفياضة بعواطف الحزن والأسى لما آلت إليه الأحوال، فكان ظهور عناصر التراث الشعبي بكثافة يتكرر في اللوحات كأن الفنان الأعزل من السلاح يمسك به ليتشبث بالأرض ويقاوم انتزاعه بعيدًا عنها.
هكذا كانت أعمال إسماعيل شموط وتمام الأكحل ونهاد سيباس وإبراهيم غنام، وحرص شموط (1930- 2006) على دقة تصوير عناصر التراث بصورة واقعية كأنه يسجلها ويثبتها في الذاكرة حماية لها من الطمس والنسيان.
بين جيل الرواد تفرد (ناجي العلي) بأسلوبه الكاريكاتوري الساخر فكان هو أول رسام كاريكاتور فلسطيني. ولد ناجي عام 1936 بقرية قرب الناصرة وأجبر على الرحيل مع أهله إلى جنوب لبنان بعدما اعتقلته القوات الإسرائيلية صبيًّا لنشاطه المعادي للاحتلال، وتعرض للسجن أكثر من مرة في لبنان، فخبر شظف العيش وقسوة الحياة في المنافي والسجون وعبر عن حياته بتلقائية وموهبة فطرية، رسم سلاسل القيود والأسلاك الشائكة وبحس نقدي ساخر كان يهجو أعداءه وسجانيه ويفضح تآمرهم بتعليقاته البليغة اللاذعة. ظهرت في رسومه مجموعة عناصر شكلت أبجدية بصرية خاصة: أسلاك الحدود الشائكة وخيام اللاجئين وسلاسل القيود، كما رسم الصغار البائسين والآباء المنكسرين يستنهضهم ويثأر لهم بتعليقات لاذعة توخز الأعداء والمتواطئين معهم. إلى أن زار الكاتب الفنان غسان كنفاني مخيم عين الحلوة وشاهد رسوم ناجي وبعين وحدس الخبير أدرك أنه عثر على مشروع فنان قدير جدير بالرعاية، فنشر له رسمًا بمجلة الطليعة البيروتية ثم أتاح له فرصة العمل بجريدة السياسة الكويتية عام 1963؛ حيث بدأ ظهور مفرداته البصرية، الخيمة والأسلاك الشائكة وأطباق الطعام الخاوية والتباين بين مساحات الأسود والأبيض وشخصياته الفنية، خمس شخصيات أبدعها ناجي وتكرر ظهورها في أعماله هي:
الأب المتعب المنكسر تقابله الأم العفية القوية (فاطمة) بثوبها التقليدي الفلسطيني تشد من أزره وتحثه على المقاومة. ورمز ناجي إلى المتواطئين والمتخاذلين بشخص بليد الحس والذهن متورم مثل كرة لحم دست في ثياب عصرية يجاوره عسكري إسرائيلي ضئيل يحتمي بخوذته وسلاحه.
وأخيرًا (حنظلة) أحب شخصيات ناجي وأكثرها شعبية. فهو رمز جيل قادم ساخط، متمرد على التقليدي الراسخ والقائم من أوضاع ونظم، يرفض الخضوع للعدو مهما اشتد بطشه وعتاده ويرفض الاستجابة لنصائح المتواطئين والمتخاذلين، حنظلة الصغير هو توقيع ناجي على كل رسومه وهو الناطق بلسان المستقبل.
** المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد: 63