“افرح يا قلبي”.. رواية البيت المسكون
تضع الرواية بطلها غسان في مواجهة عميقة بين كينونته الشرقية، وواقعه الغربي في نيويورك، بين تكوينه كرجل شرقي؛ مثقف وعاشق للموسيقى، وبين حياته الداخلية المشطورة بين هويتين؛ العربية والأميركية
يشغل صراع الأنوثة والذكورة أكثر من موضع داخل بنية الرواية التحتية، إذ بالتوازي مع وجود قطبي الشرق والغرب، نجد ثنائية المرأة والرجل
تشكل بلدة “دار العز”، القرية الواقعة في الشمال، مجسمًا عن لبنان كله؛ إنها البلدة التي تجمع الطوائف المختلفة، في ودٍّ ووئام، لكن هذا لن يدوم طويلًا
تميز هذا العمل عن سائر روايات صبح في انفتاحه على الآخر، وفي تقديم أسئلة لاتزال تشغل المجتمع العربي وتكبله: الهوية، الانتماء، العلاقة بين الشرق والغرب
__________ لنا عبد الرحمن
تتخذ رواية علوية صبح “افرح يا قلبي” القائمة االقصيرة لجائزة الشيخ زايد 2023، من حالة استدعاء الفرح عتبة نصية للدخول إلى أفق السرد.. تلك العتبة المراوغة تأخذ القارئ إلى عالم واسع تتشعب مراماته في اتجاهات شتى، بين أكثر من زمان ومكان وقضية محورية يعالجها النص عبر تعدد شخوصه. ومنذ الصفحات الأولى حين تستدعي المؤلفة فقرات من كتابة إدوارد سعيد يمكن اعتبار أن قضية الاغتراب المكاني والنفسي، والعلاقة الذاتية مع الفن، قضيتان محوريتان تنضوي تحت مظلتهما قضايا اجتماعية أخرى تتشابك لتصير بؤرة “الذات”، في مواجهة العالم الخارجي، هذا يمكن أن ينطبق على المسار الحياتي والتراجيدي لأبطال الرواية جميعًا.
المكان في الرواية هو “دار العز”، بلدة تقع في شمال لبنان، تضم طوائفَ مختلفة، وفي هذه البلدة يتشكل وعي البطل غسان داخل “البيت الذي سكنه الحزن والقهر والموسيقى والصراخ والعتمة والكراهية”، ضمن هذه الحدود وهذا المزيج الشعوري المتشابك يعيش غسان مع أبيه الرجل العسكري العنيف، وأمه المرأة المستلبة، وأخوته الأربعة: “جمال، عفيف، طارق، سليم”، الذين يُمثل كل واحد منهم نموذجًا شخصيًّا قائمًا بذاته، لديه حمولته الفكرية والاجتماعية. جمال الأخ الأكبر الحنون الذي يُقتل على يد أخيه عفيف المتطرف فكريًّا، طارق الموهوب في التقاط الصور، يرحل من البلدة إلى بيروت، وسليم المشتبه بميوله المثلية يتعرض لنقمة العائلة والمجتمع، فيمضي بعيدًا في طريقه.
يتشكل وعي غسان وسط هذه البيئة المضطربة، ويحضر التسامح من جانب جدِّه عازف العود وعاشق الموسيقى الذي يُعلمه الشغف بالفن. هكذا يتشكل في داخله عالمان يختلف كل منهما عن الآخر؛ فيؤديان به إلى نزاع يحسم أمره نحو قرار الرحيل عن لبنان بعد اندلاع الحرب وبدايات الدمار، يقول: “لم يكن هذا مأزقه الوجودي الكبير يوم غادر، واعدًا نفسه بعدم العودة إلى لبنان أبدًا. حتى لو مات في الغربة، فسيوصي بأن يُدفن هناك وألا يُعاد جثمانه إلى مقبرة بلدته”.
صراع الأنوثة والذكورة:
بعد الهجرة، تضع الرواية بطلها غسان في مواجهة عميقة بين كينونته الشرقية، وواقعه الغربي في نيويورك، بين تكوينه كرجل شرقي؛ مثقف وعاشق للموسيقى، وبين حياته الداخلية المشطورة بين هويتين؛ العربية والأميركية، وبين زوجتين: كرستين الأميركية العاشقة للشرق وموسيقاه، والتي تقوم بتدريس مادة صوفية في الجامعة، والمرأة الأخرى في حياته رولا، زوجته العربية وابنة عمه، تلك المرأة التقليدية التي تقدم له وجهًا آخر من الحياة، ومن العلاقة مع المرأة: “قالت له -وهما جالسان أمام الطاولة: إنه كان بودها لو طبخت أكثر، فهو بالتأكيد مشتاق لطعام يدها، وإن هذه المأكولات اللبنانية الدسمة محروم منها في أميركا. لم يبدُ عليها التعب أو التأفف، إنما سعيدة لأن غسان أكل بنهم وشهية” ص312.
يشغل صراع الأنوثة والذكورة أكثر من موضع داخل بنية الرواية التحتية، إذ بالتوازي مع وجود قطبي الشرق والغرب، نجد ثنائية المرأة والرجل، متمثلة في شغلها حيزًا من الصراع الوجودي القائم بين جميع الأطراف، بداية مع شخصية الأب، الرجل العسكري الصارم، الذي يقوم بضرب زوجته بلا سبب، سوى خوفه من خيانتها، يعاني هذا الأب ندبة داخلية غائرة، بسبب أمه التي يعتبر أنها خانت والده، لذا هو لا يريد أن يتعرض للخيانة، فيقوم بالانتقام من الطرف الأضعف (زوجته)، ظنًّا منه أنه بهذا التصرف سوف يجعلها تهابه ولن تُقدم على خيانته، يقول لها: “عم أضربك حتى تخافي وما تفكري تخونيني، وشايفك قدامي هلق أمي اللي عم أضربها لأنها خانت أبوي”، وللمفارقة الطريفة، تمنح الكاتبة في حيلة ذكية بُعدًا نفسيًّا واجتماعيًّا لهذا الحدث، إذ تُلقي بالظلال على خيانة الزوجة المضروبة، التي تتجرأ بالدخول إلى بيت جارهم سمير الرجل الأعزب، بحجة أنها تقدم له وجبة من الطعام وتحكي لجارتها أنها تتذكر أنها امرأة حين تتحدث مع سمير، لأنه مُحرم عليها الدخول لبيته. بينما يتواطأ غسان مع هذا الحدث حين يشاهد أمه وهي تخرج من بيت الجار. لنقرأ: “الشك بأمه لم يساور غسان إلا مرة واحدة وهو صغير، لمحها تخرج من بيت العم سمير، بعدما أخذت له صحن مغُربية بنفسها. ارتبكت لما رأته. عبق وجهها بالاحمرار، وتصبب العرق منها وهي تقول له: يا ماما أنا أخذت صحن الأكل لعمو سمير لأنه أنت ما كنت بالبيت…. ومرة قالت لأم جورج: يا أختي أنا ببيتي بنسى إني امرأة، وسمير عايش لوحده وما يجوز تدخل امرأة لحالها على بيته، منشان هيك بروح لعنده لأتذكر وأحس إني امرأة، بعطي صحن الأكل، وبضهر بسرعة. هيدي القصة كلها”.
لكن في مقابل صورة الأب العسكري العنيف، هناك صورة الجد، الذي يقف على النقيض من ابنه، إنه النموذج الوديع من الذكورة، رجل محب للفن والطرب، يدرك في أعماقه أن زوجته لم تحبه كما تمنى، لكنه لا يبخل عليها بالعاطفة والرعاية والاهتمام، ويعطي حفيده غسان كل ما يرجوه من معارف وثقافات وخبرات، حرصت صاحبة “اسمه الغرام”، وهي الكاتبة الحساسة في معالجة قضايا المرأة في المجتمع اللبناني على التبئير عميقًا في الكينونة الداخلية للمرأة والرجل، نبش الطبقات المغمورة وإماطة اللثام عنها في جرأة متناهية، فالأم التي يخيل للقارئ أنها شخصية مستضعفة مسلوبة خائفة، خاضعة تمامًا لإرادة زوجها، ترضى بخيانته لها مع جارتها جيهان التي تصغرها سنًّا، يتضح أن لها كيانًا حيًّا بعيدًا في أعماقها، هي تتطلع لطبقة الأنوثة المغمورة بعيدًا في أعماقها، والتي هشمها زوجها في داخلها، لكن سرعان ما يتكشف أنها تغامر في لحظة جنون للحصول على نظرة ودٍّ، أو كلمة، أو ابتسامة من الجار.
الأخوة الأعداء:
تشكل بلدة “دار العز”، القرية الواقعة في الشمال، مجسمًا عن لبنان كله؛ إنها البلدة التي تجمع الطوائف المختلفة، في ودٍّ ووئام، لكن هذا لن يدوم طويلًا، وسينتهي مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي، لتبزغ حقبة جديدة، سوف تنقسم البلدة، ويتفرق أبناؤها، ويحملون السلاح ليوجهوا الرصاص إلى قلوب بعضهم البعض؛ بل إن شهوة القتل سوف تؤدي إلى أن يقتل الأخ أخاه. يتسلل هذا النزاع إلى أسرة غسان أيضًا، حين ينتمي أخوه عفيف إلى حركة متطرفة، يحمل السلاح ويوجهه لأقرب الناس إليه. لنقرأ: “كانت البلدة آنذاك مع بداية الثمانينيات مثل الوطن كله في حالة فوضى واهتراء؛ أحزاب تنهض من رحم أحزاب أخرى، ومنظمات متصارعة يقاتل بعضها بعضًا… أمعقول أن يقتل الأخ أخاه.. لا يعرف غسان حتى الآن بماذا شعر عفيف لحظة رأى جمال مقتولًا، هل أحس بالندم، أم برغبة بقطع يديه اللتين أطلقتا النار؟ هل بكى، هل فكر في قتل نفسه، أم عانده الدمع؟”.
اختارت الكاتبة وضع أحجار الرواية الأساسية ضمن خمسة إخوة، لكل واحد منهم اتجاه فكري مختلف، أن تقدم من خلالهم مجسمًا عائليًّا مصغرًا للبنان، في تعدده الطائفي والفكري والاجتماعي، وما يعانيه أبناؤه جراء هذه الانقسامات والتشرذمات الداخلية، التي تنعكس مآلاتها على حياتهم، مثل ثقوب سوداء تتسع فوهتها لتبتلعهم جميعًا.
الموسيقى والوعي:
تُشكل الموسيقى حالة داخلية، تشتبك مع البناء الروائي والدرامي للنص، بداية من اختيار جملة العنوان، اسم أغنية لسيدة الغناء العربي “أم كلثوم”، ثم العلاقة مع آلة العود. وعند تحليل شخصية البطل غسان لا يمكن إغفال مقولة إدوارد سعيد الواردة في مقدمة الكتاب: “الموسيقى تعطيك الجمال لتهرب من الحياة من ناحية، وأن تفهم الحياة بشكل أعمق”.
تتجلى علاقة غسان بالموسيقى منذ الصفحة الأولى في الرواية حتى الصفحة الأخيرة، فالجملة الافتتاحية في النص هي بيت الشعر القائل: “يا عازف العود رفقًا منك بالوتر… وابكِ على فتيةٍ شابوا من الصغر”. يمكن اعتبار رواية “افرح يا قلبي”، مسربلة بهاجس اللحن الذي ظل غسان طوال عمره يشقى في بحثه عنه، مرتحلًا من الشرق للغرب، مرورًا بكل ما خاضه من غمار الحب والفقد والمنفى والحنين، يحفر عميقًا في داخله مصغيًا إلى موسيقى الكون، وعزف العود، يبحث في صوت فيروز، وفي الغناء الشرقي القديم، لعله يجد ضالته. بيد أن التشظي الداخلي الذي يحياه غسان، بين الشرق والغرب، وبين صراع الهوية، يجعله بعيدًا عن إدراك لحنه، الذي أمضى حياته يبحث عنه؛ ثم لا يحصل ذاك اللقاء إلا بعد أن يحسم صراعه الداخلي الكبير، بين “كرستين” و “رولا”، بين “نيويورك” و”دار العز”. هذه الكيانات المتناقضة والقائمة في أعماقه تحول بين وعيه وإدراك اللحن المراد؛ ثم يحصل الوصول للضفة الأخيرة، حين يتدخل القدر مُنهيًا حياة زوجته رولا، ويضعه في مواجهة مصيرية مع الغد، لا مناص من أن يقوم بالاختيار من أجل ابنته الصغيرة، التي أصبح لزامًا عليه أن يعتني بها بعد رحيل أمها. لنقرأ هذا المقطع المعبِّر: “شعر بأن جسده يهتز ويتمايل وانتابه هلع شديد. وفي لحظة ضاع، لم يعرف إذا ما تهيأ له أن ما حدث للطائرة حقيقي أم تخيلات، أم أن جسده وحده من يتمايل، أم أن شعورًا بالسقوط تملكه ونهاية حياته اقتربت، فوجد نفسه يقول بصوتٍ عال: “أيها الطائر الخفي أخبرني عن نهاية قصتي قبل النقطة الأخيرة، فصوتك كان معلومًا لديَّ وسمعت منك كل حكايتي، وربما امتلأ صندوق عودي بها. أنا عاجز في هذه اللحظة عن الوصول إليها وخائف منها، هل سأصل إلى مطار نيويورك وأدون النوتات فجأة؟ وهل ستقبل كرستين أن تتبنى ابنتي آية؟ سأجرؤ على مفاتحتها بالأمر؟ أم سأموت هنا وتتيتم ابنتي نهائيًّا، وتحزن كرستين عليَّ بما تبقى لها من العمر؟”.
تشكل هذه التساؤلات، لحظة وعي فارقة، مع اختيار الكاتبة أن تظل النهاية مفتوحة على المجهول، لقد توصل غسان إلى لحنه المنشود، لكنه لم يتمكن من تدوينه بعد، كما لم يتمكن من حسم مصير حياته مع كرستين، أم مع ابنته آية، في نيويورك أم في لبنان. الأمور حُسمت في داخله من جانب وعيه هو بها، وإدراكه لما يريد، لكن تفاصيل العالم من حوله مازالت غامضة، مثل سائر المصائر الأخرى التي تحيط به، مصير بلده وابنته والمرأة التي أحبها وعلمته الكثير. تتقاطع داخل غسان المصائر التراجيدية للأشخاص والأوطان إذ ظل يحمل كل شيء في داخله، وربما هذا ما أدى في نهاية المطاف إلى عثوره على اللحن الذي يرجوه، بعد أن تجرد قليلًا من بعض حمولته.
البنية اللغوية للنص:
اختارت الكاتبة بناء الرواية على شكل فصول بلغ عددها ثمانية عشر فصلًا، مروية عبر راوٍ عليم، يتقاطع سرده مع مونولوجات داخلية للبطل غسان، يتبنى الراوي العليم رؤية غسان للعالم، ولا يحيد عنه، بل إنه يقدم رؤى متنوعة للأبطال الآخرين، من خلال عيني غسان وما يراه ويسمعه، هذا يتضح في أكثر من موضع، مثل حوارات العائلة والجيران، واللقاءات الاجتماعية. استعانت الرواية لغويًّا باللهجة العامية اللبنانية، مثل سائر روايات علوية صبح الأخرى التي تتكل فيها على المحكي العامي كي يدعم من البناء الاجتماعي والنفسي للأبطال، مما يجعل الحدث مرئيًّا وقريبًا من القارئ.
تميز هذا العمل الصادر عن دار الآداب ببيروت، عن سائر روايات صبح في انفتاحه على الآخر، وفي تقديم أسئلة ماتزال تشغل المجتمع العربي وتكبله: الهوية، الانتماء، العلاقة بين الشرق والغرب، صراع الأنوثة والذكورة، انشطار الأخوة. إن هذه القضايا التي تضمنتها الرواية، لا تمثل الواقع اللبناني وحسب، بل إنها في رؤية شمولية تعكس علاقة الفرد العربي مع الكيانات الأخرى. قدمت الرواية أيضًا نماذجَ بشرية مختلفة، بالغة التنوع، والثراء الإنساني، تخوض غمار الآلام بغية المحافظة على كيانها الداخلي من التشوه، وكأن المأزق الوجودي للأبطال الراغبين في تحقيق توازنهم هو حمل صخرة سيزيف إلى ما لانهاية.
** المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد: 63