ذكاء أم جهل عاطفي؟
- وهم القراءة وقراءة الوهم! - 2024-09-23
- ذكاء أم جهل عاطفي؟ - 2024-08-19
أقف دائما أمام تعبير «الذكاء العاطفي»، محتارة ليس في تعريفه العلمي أو الاصطلاحي وحسب ولكن أيضا في قدرتنا نحن البشر على تكييف اللغة أحيانا لتكون في صالحنا إن عجزنا عن تفسير ظواهرنا النفسية والاجتماعية أيضا. بدأت الاهتمام بهذا المصطلح قبل فترة قصيرة، بتأثير من إحدى الصديقات المغرمات به حتى أنها تستعد لتأليف كتاب عنه. نقاشاتنا قادتني للقراءة والرصد والتطبيق على حالات أعرفها!
أعرف أن «الذكاء العاطفي» برز في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا والتفاعلات السريعة بشكل متزايد، كمهارة أساسية للتنقل بين تعقيدات الحياة. وهو يُعرَّف، علميا، بأنه القدرة على تمييز المشاعر وفهمها وإدارتها والتأثير عليها سلبا أو إيجابا، بحيث يشكل الطريقة التي نتواصل بها مع أنفسنا ومع الآخرين حولنا. ومع ذلك، عندما نتعمق في محاولة فهم تفاعلاتنا اليومية، يظهر نمط مزعج: شكل شامل من أشكال عدم الكفاية العاطفية، ما قد يسميه البعض بالغباء العاطفي، (وأنا أفضل مصطلح الجهل العاطفي)!
وغالبًا ما تبدأ الرحلة إلى الذكاء العاطفي بالوعي الذاتي. لنأخذ هذا المثال: سيدة أعرفها تعمل مديرة في بيئة مؤسسية مزدحمة. وهي على الرغم من كفايتها العالية في مجالها، تكافح لفهم مشاعرها وكيف تؤثر على عملها وعلاقاتها. عندما تواجه انتقادات، تتفاعل مع المنتقدين دفاعياً، مما يؤدي إلى تنفير الزملاء منها بدلاً من تعزيز التعاون معها. هذا السيناريو شائع جدًا؛ حيث يجد العديد من الأشخاص أنفسهم عالقين في حلقة من ردود الفعل العاطفية، غير مدركين أن عدم قدرتهم على إدارة المشاعر أو الجهل العاطفي يمكن أن يقوض حياتهم المهنية والشخصي، وهو ما حدث بالفعل لهذه السيدة للأسف لاحقا.
وعلى الرغم من أن الوعي الذاتي ليس سوى جانب واحد من جوانب الذكاء العاطفي، إلا أنه الجانب الأهم والذي تبنى عليه بقية الجوانب الأخرى!
وفي عصرنا الرقمي، حيث تحدث التفاعلات والتواصل بين الناس، في العمل وفي الحياة أيضا، غالبًا خلف الشاشات، يمكن أن تضيع دقائق الاتصال العاطفي. فيمكن على سبيل المثال تفسير الرسائل النصية، المجردة من النبرة الصوتية أو الهالة العاطفية، بشكل خاطئ، مما يؤدي إلى سوء الفهم الذي كان من الممكن تجنبه من خلال المحادثات وجهاً لوجه. وفي الوقت الذي تعمل فيه وسائل التواصل الاجتماعي على تعزيز الروابط، فإنها قد تخلق أيضا ما يمكن أن نسميه باللامبالاة العاطفية. فكثيرون منا يعطون الأولوية لشخصياتهم على الإنترنت، مما يفقدهم قدرتهم على معرفة ذواتهم الحقيقية بعيدا عن صورة الذات المشتهاة والمرسومة رسما في ما يقولونه ويكتبونه بمنصاتهم الاجتماعية بعيدا عن الحقيقة. وهو ما يسهم بخلق فجوة حقيقية بينهم وبين أنفسهم أولا ثم بينهم وبين الآخرين حولهم ثانيا ويمكن لهذه الفجوة أن تحدث آثارا سلبية عميقة وطويلة المدى على الصحة العقلية لهم..
إن آثار الغباء العاطفي تمتد إلى ما هو أبعد من التجارب الفردية؛ فهي تشكل نسيج مجتمعاتنا. فعندما يفتقر القادة إلى التعاطف والوعي العاطفي، يمكن أن يصبح اتخاذ القرار غير متماسك ويخدم مصالحهم الذاتية. تخيل حكومة ما تفشل في مراعاة الاحتياجات العاطفية والاجتماعية لمواطنيها. والسياسات المبنية على الجهل العاطفي يمكن أن تؤدي إلى خيبة الأمل والانفصال عن العملية الديمقراطية، مما يؤدي إلى تآكل الروابط التي تربط المجتمعات معا.
إذن، كيف نكافح ظاهرة الجهل العاطفي؟ الحمد لله أننا يمكننا دائما، أفرادا وجماعات ومؤسسات وحكومات أيضا، تنمية ذكائنا العاطفي، والبداية دائما من نقطة الاعتراف بأهمية هذا الذكاء والالتزام بتطويره، عبر تعزيز العلاقات والأماكن والبيئات والأنظمة الصحية،. قد يكون المسار معقدًا إلى حد ما، لكن مكافآت الوعي العاطفي تستحق!
** المصدر: جريدة “الشرق”