للنِّساء فقط .. كأنّني ذهبتُ بعيدا عَنْ بَيْتي (الجزء الأول) / لانا المجالي (الأردن)
الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
قد يبدأ الأمر بتلعثمكِ أمام سؤال عابر عن عدد سنوات عمرك، أو شعوركِ بالارتياح لأنّ موظف البنك أعاد إليكِ بطاقة الأحوال الشخصيّة، دون أن يلفت انتباهه، على ما يبدو، تاريخ ميلادكِ المُثبت عليها.
في مجتعاتنا الشرقيّة، قد يبدأ الأمر قبل هذا بكثير؛ عندما تحملين لقب (عانس) وأنتِ في نهاية العشرينات فقط، أو عندما تدخلين-أنتِ الأربعينيّة- متجرا للملابس النسائيّة الراقية بعد أن وقعتِ في غرام ـفستان يفيض بهجةً بلونه البرتقالي، وتعرضه (المانيكان) داخل الواجهة الزجاجيّة، فيرافقكِ البائع-دون أن يتخلى عن ابتسامته وتهذيبه- إلى زاوية تحتلّ مساحة ضيّقة من متجره مترامي الأطراف، تقتصر ألوان الثياب فيها على الأسود والكحلي والبني الغامق.
لن يتوقف الأمر هنا، فمساحة هذه الزاوية ستبدأ بالتناقص كلّما زاد الرقم الذي يحدد عمركِ بالسنوات، حتى تتلاشى تدريجيا، تماما كابتسامة البائع. كابتسامتكَ عزيزي القارئ، وأنت تردد في سرّك: “برتقالي!. المتصابية”، رغم إنني لا أفهم سرّ العلاقة التي تربط الألوان التي يرتديها الإنسان بعمره أو جنسه، أو حتى السبب وراء توجيه تهمه “الغواية” إلى ألوان بعينها مثل: الأحمر، والأصفر والبنفسجي.
هل يعني هذا أنّ مواجهة مشكلة التقدم في العمر مشكلة تتعلق بالنساء فقط؟ كلّ النساء على اختلاف خلفياتهن…الخ؟ هل (المجتمع/ الآخر) هو المسؤول عن “أزمتها” تلك/ وهل هي مجرد “أزمة”؟/الخوف من الموت أو الخوف من موت “الأنوثة”؟ هل المرأة (موجودة) دون أنوثتها/بأيّ صفة؟ هل عليها أن تقبل بالأمر الواقع/ ترفض/هل هناك خيار آخر؟.
الحقيقة، أنّ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والبيولوجيّة ..الخ، أجابت عن معظم الأسئلة، لكن مجال حديثنا هنا سيتخذ منحىً آخر، إذ نخوض –أولا-هذه المسألة بوصفها (جدار سارتر) المرأة، ونرصد-ثانيا- وجهة نظر المرأة نفسها من خلال نساء كاتبات تحدثن عن أنفسهن أو عن بطلات أعمالهن الأدبيّة، وقد نظفر-ثالثا- من داخل هذه النصوص بإجابات لم تكن تخطر لنا على بال.
أولا: (الجدار) /سارتر/ المرأة
بداية، دعونا نتفق أن المرأة والرجل يعبران هذ النفق الضيّق، بمخاطر متفاوتة، لا بل أنّ النفق نفسه الذي يضيّق الخناق على المرأة ينفتح ليأخذ الرجل إلى عوالم رحبةّ، لأسباب كثيرة لا يتسع المجال للخوض فيها، يعنيني منها، الطبيعة الهرمونيّة لجسد المرأة، أو-بتعبير أكثر دقة- الطبيعة الهرمونيّة لـلمرأة”!، دون أن نغفل حقيقة ازدواجيّة المجتمع في التعامل وإطلاق الأحكام (مع/على) الجنسين، مع التنويه –وحتى لا نظلم الرجل-على أن المرأة هي أكثر من تمارس أفعال الإقصاء والتقييد ضدّ المرأة الأخرى.
ومن الواضح، أيضا، أنّ المرأة لا تستطيع تفادي الوقوع تحت التأثير السلبي لمسألة التقدّم في العمر، لأنّ طبيعتها الهرمونيّة تتحكم في مشاعرها تجاه الأشياء، مع ضرورة الإشارة إلى التفاوت بين ردود الأفعال التي تبديها امرأة مقارنة بأخرى، حسب العوامل الثقافيّة أو البيئيّة أو الاجتماعيّة أو النفسيّة أو الصحيّة التي جعلت منها ما هي عليه.
الأمر يبدو كأنّه” الجدار”؛ و”الجدار” -لمن لا يعلم- هي إحدى القصص الخمس التي تضمّها مجموعة (1939م)، وتحمل الاسم نفسه للفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر.
والقصة تتعلق بثلاثة أشخاص (بابلو وتوم وجوان الفتى)، ينتظرون ساعة إعدامهم رميا بالرصاص صباح اليوم التالي، بعد أن أدخلوا إلى أحد السجون الإسبانية خلال الثورة التي أعلنها الجمهوريون ضدّ الحكم الفاشستي، بتهمة “الإرهاب” والمشاركة في الثورة.
وفيها يحلل الفيلسوف والأديب الفرنسي مشاعرهم، ومظاهر تلك المشاعر كما تتمثل في طبيعة سلوكهم المتباينة؛ إذ أن “المصير المشترك” لا يعني “انعدام ذاتيّة” كلّ منهم وتبنيه لردود أفعال خاصة في مواجهة الخطر، كلّ شخصية بحسب الخلفية التي بلورت كيانها.
أمّا “الجدار” نفسه؛ البطل الوحيد في هذه القصة- حيث سيسقطون عليه مضرّجين بدمائهم- فهو لم يرد بشكل صريح خلال السرد إلّا في مخيّلة شخصيات القصة، وفي هذه المقاطع فقط:
(يقول بابلو: “ربّما عشت عشرين مرّة متتالية مشهد إعدامي: كانوا يجرّونني نحو الجدار وأنا أتخبّط”/- يقول توم وهو يحاول أن يفهم / أو يهجس به: “البنادق مصوّبة نحوي. وأحسب أنّي سأودّ لو أدخل الجدار، سأدفع الجدار بظهري، بكلّ قوّتي، لكنّ الجدار سيصمد كما يحصل في الكوابيس”)، حيث يمثِّل الجدار مصيرهم المُنتظر/ الكابوس/ الخوف/ الألم/ الجسر الذي سيعبرون من خلال مواجهته إلى (لا وجودهم).
اللافت أيضا، أنّ الشخصيّات الثلاث لم تعبّر عن خوفها من “الموت” نفسه، واقتصر قلقها على لحظة مواجهة الجدار فقط!…
إذن؛
هل نخشى “الموت” أو أننا نخشى ” مجابهة/مواجهة الموت/الخوض فيه”؛ تلك اللحظة الفاصلة بين القلق واللا-قلق؟.
هل نخشى “الشيخوخة” أو نخشى “مواجهة الشيخوخة/الخوض فيها”؛ تلك الفترة الفاصلة بين المقاومة والاستسلام بكل ما تحمل من شحنات قلق واضطراب؟.
لكن، الواقع يكشف أنّ المرأة تشعر بالاتزان بمجرد دخولها فعليّا مرحلة “الشيخوخة/ التقدّم في العمر”، ما يضعنا أمام إشكاليّة كبرى تتعلق بطبيعة الأزمة التي خاضتها قبل أن تستسلم راضية إلى هذا (المُتكَأ/الشيخوخة)، هل كانت تُحارب في سبيل الحياة؟ أم في سبيل الأنوثة؟.
ورغم أنني أميل إلى التفسير الذي يتعلق بتعظيم قيمة الأنوثة في حياة المرأة، لأنّ حالة (الاتزان/القبول) التي تعيشها المرأة بعد دخولها-رسميّا- سنّ الشيخوخة تنفي قلقها من الموت، إلا أنّ الطبيعة البشريّة يصعب قياسها وإطلاق الأحكام العموميّة عليها، وهو ما ستظهره الأمثلة التي سنوردها فيما يلي.
ثانيا: أثقلُ مِنْ رضوى/ .. . في سبيل الحياة
” .. لن تنتبه أنني في السابعة والستين، لا لأن الشيخوخة لا تبدو بعد على ملامحي.. ولا لأنك لو طرقت بابي الآن ستفتح لك الباب امرأة صغيرة الحجم نسبيّا ترتدي ملابس بسيطة..، شعرها صبيانيّ قصير، وإن كان أبيضه يغلب أسوده، يكاد يُغيّبه.. ليس لهذه الأسباب فحسب، بل لأنَّ هذه المرأة وأعني رضوى، ما أن تجد الشارع خاليًا نسبيًا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة لتوصيله إلى أبعد نقطة ممكنة. تفعل كأي صبي بقَّال في العاشرة من عمره يُعَوِّضُهُ ركل الحجر الصغير عن ملل رحلاته التي لا تنتهي لتسليم الطلبات إلى المنازل، وعن رغبته في اللعب غير المتاح لأنه يعمل طول اليوم… تأخذها اللعبة، تستهويها فلا تتوقف إلا حين تنتبه إلى أن أحد المارة يُحدَّق فيها باندهاش”.
أن تختار الروائيّة والناقدة المصريّة رضوى عاشور، هذا المقطع لتزيين الغلاف الخلفي من كتاب لها، قد لا يثير دهشتك، لكن لو عرفت أن الكتاب هو مقاطع من سيرتها الذاتيّة (أثقلُ مِنْ رضوى /2013)- الذي تجمع فيه مشاهد من ثورة يناير المصريّة 2011، وتستعرض فيه بإسهاب، تجربتها المؤلمة مع سرطان الدماغ طوال السنوات الثلاث الأخيرة، وتضمّنه حكايات الطغيان والفساد والظلم والتحرير والشهداء -، فالأمر هنا يحتاج إلى وقفة تأمّل.
ماذا لو قرأت الكتاب(السِّيرة) وعلمت إنَّ الخوف من انسراب الزمن وانفلاته كان دافعًا محفزًا إلى الإسراع في إنجازه، بعد مرض أخيها طارق ورحيله ثم وفاة والدتها بعده بخمسة أسابيع فقط، ثمّ ظهور النتائج المخبريّة التي تثبت إصابتها بمرض السرطان؟
…… يُتبع في الجزء(2)