العودة إلي أدونيس
الجسرة الثقافية الالكترونية
*جرجس شكري
حتى أكتب عن أدونيس أحتاج أن أعود إلى الوراء ربع قرن من السنوات، لا أعود فقط بالذاكرة، بل أذهب بكامل مشاعري، بوعي هذا العمر إلى طالب في الجامعة ينفق الليل والنهار في قراءة الثابت المتحول، ويسافر معه عبر الزمن ويتجول في التراث العربي قديمه وحديثه، كان أدونيس بالنسبة لي في تلك الأيام درعاً واقياً أرتديه للدفاع عن الخيال والتمرد ضد الرجعية والتقليد، ضد النمطية في الشعر، هذا أدونيس بالنسبة لي حين قرأته لأول مرة في نهاية الثمانينيات، تخيلته يقود جيشاً جراراً من الكلمات يهدم بها قلاعاً وحصوناً ويقيم أخرى، قلاع الشعر وحصون النثر عبر العصور، اختار أن يسلك طريقاً لم يسلكه أحد من قبل في الشعر، طريق الأسئلة، ولا يقود هذا الجيش من الكلمات والأفكار ليهاجم أو يعتدي، بل لكي يناقش ويسأل، وغالباً ما كان يعود بمجموعة من رفاق الماضي البعيد، لم يكن كما ظن البعض يهدم التراث العربي، بل كان يبحث عن أسلافه العظماء ويحاورهم ويهتدي بهم ويبعثهم من خلال كلماتهم المستنيرة وأفكارهم الحديثة، يرفض الأفكار البالية، ويرى أن لهاجس الحداثة جذوراً في نتاج ابي نواس وابي تمام، وعند ابن الرازي وابن الراوندي وابن رشد وغيرهم، وكنت أتخيله في تلك الفترة واحداً من هؤلاء يعيش معهم ويعيشون معه، وكنت آراه يحمل مصباحاً ويتجول في الماضي يضيء ظلماته ويبعثه من جديد متسلحاً بأفكاره المستنيرة والثائرة، فالتراث كما يراه هو “ما يولد بين شفتيك، ويتحرك بين يديك، التراث لا ينقل بل يخلق، وليس الماضي كل ما مضى، الماضي نقطة مضيئة في مساحة معتمة شاسعة، فإن ترتبط كمبدع بالماضي هو أن تبحث عن هذه النقطة المضيئة” ولا أفهم كيف يتهمه البعض بالشعوبية وأنه ضد التراث العربي!
وبالتوازي كنت أقرأ شعر أدونيس وأجدني أحفظ بعضه وما زال في ذاكرتي حتى الآن، ولم يختلف الأمر كثيراً فكانت شخصيات التراث العربي أبطال شعره “مهيار، علي، الحسين، عمر بن الخطاب، أبو تمام، ابو نواس، ملوك الطوائف، أبو ذر، الحلاج، النفّري” والقائمة طويلة لا تنتهي، فهو في حالة حوار دائم وسيرورة لا تنتهي مع هذا التاريخ في الشعر والنقد والنثر، وفي نهاية صدمة الحداثة يستعين بعبد القاهر الجرجاني حول رأيه في الشعر.
حين كنت أجد هذا الزحام من الأسماء والأحداث والأفكار كنت أسأل نفسي ماذا يريد من هذا الصراع العنيف مع الماضي، وبعد سنوات كنت أطرح السؤال بصيغة أخرى، ماذا لو لم يعلن أدونيس هذه الحرب ويخوض مغامرة لم يسبقه إليها أحد، ماذا لو اكتفى بكتابة الشعر، ولم يكتب هذه الكتب النظرية حول الشعر، ماذا لو لم يضع إطاراً نظريا للشعر أو للشعر عامة، هل كان يمكن أن يكتب الشعر فقط؟ والإجابة “لا” كبيرة جداً فهو لا يعرف الشعر إلا بهذا الشكل “الشعر ليس قريحة وحسب، إنما هو فن كيف يعبّر الشاعر، فالطبع وحده غير كافٍ”. حتى الألم والعذاب ومشاعر الفرح والحزن والحنين لا تكفي، فلكي تكتب يخبرك أدونيس “يجب أن تعلم كل شيء، تحس به وتدركه وتحيط به، وفي هذا يكمن جانب من جوانب المعنى الحديث للكتابة”.
ففي شعره قيس يترصد ليلى، وليلى صور تتفتح في أشكال مخروطية، وابن عباد يشحذ السيف بين الرأس والرأس وابن جهور ميت، أحوال ثمود تتأسس في دكان، وبابل قفر مجرورات ومفاعيل، ومات الكوفيون ومات البصريون وفي أنفسهم شيء من حتى، والتاريخ امرأة صلعاء بعين واحدة وبرأس مفتوق”، فأين يذهب أدونيس من كل هذا الإرث؟ أكتب هذه الكلمات من الذاكرة فما زلت أحتفظ بها منذ سنوات طويلة، كنت أحفظ قصائد أدونيس الموزونة وأكتب قصيدة النثر. كنت أحب قصيدة البهلول، وأهمس بملوك الطوائف التى سمعتها منه في معرض الكتاب في القاهرة، وما زلت أذكر تلك الأمسية حين وقف يؤدي ملوك الطوائف وكأنه يقف على مسرح التاريخ وهو يهمس بصوت جهوري حزين: وجه يافا طفل / هل الشجر الذابل يزهو /هل تدخل الأرض في صورة عذراء، ثم يتساءل كممثلٍ حائر وحزين: من هناك يرج الشرق، يومها شاهدت الأندلس تسقط بين كلماته ونحن نصفق.
لم يكتب أدونيس الرواية أو المسرح، لم يكتب سوى الشعر وعن الشعر وحول الشعر وترجمة الشعر، ومقالاته في الصحف “مدارات” نثر بلغة الشعر، حتى المسرح الذي ترجمه يحتفي بالشعر “جورج شحادة وراسين” وحين كتب ديوانه المسرح والمرايا وهو حواريات تستعير الشكل المسرحي بين عدد من الشخصيات، لا تجد صراعاً درامياً أو أحداثاً يمكن أن تتبعها، فقط هناك جدل عنيف بين الكلمات، وكان قد بدأ هذه الحواريات في ديوان “أوراق في الريح” حيث كتب “مجنون بين الموتى، مأساة في أربعة مشاهد” ثم السديم وهي مأساة في ثلاثة أدوار كما يسميها ويهديها إلى مجانين العالم، وتناثر هذا الشكل المسرحي في بعض الدواوين، وفيها جميعاً الصراع لغوي من الدرجة الأولى، والكلمات تحاور الكلمات، فهو يحتفل باللغة حين يكتب ويمنحها أبعاداً مجازية وتصويرية غير مألوفة سواء في الشعر أو النثر، وهي مشاهد غير قابلة للتحقق أي تجسيدها على خشبة المسرح، فقد كتبها من أجل الجدل! كما فعل نجيب محفوظ في نصوصه الدرامية التى كتبها في ستينيات القرن الماضي، من خلال منهج جدلي لا يخلو من فلسفة عميقة تعكس حالة فقدان اليقين.
قراءة أدونيس
اختار أدونيس أن يترجم “فيدر” لراسين بمقدمة رولان بارت التي يحتفي فيها باللغة أيضاً، حيث يصفها بارت “أعمق تراجيديات راسين وأكثرها شكلية، ذلك أن المجازفة التراجيدية هنا في تجلي الكلام أكثر مما هي في معناه وفي اعتراف فيدر أكثر مما في حبها، فيدر على جميع الأصعدة تراجيديا الكلام السجين، والحياة المحجوزة، ذلك أن الكلام بديل من الحياة: فإن نتكلم هو أن نفقد الحياة.. ما الذي يجعل الكلام رهيباً إلى هذا الحد؟ يعود السبب إلى أن الكلام فعل. “وظني أن أدونيس ترجم هذا النص لاحتفائه باللغة، أما جورج شحادة فقد اختار أدونيس مسرحاً شعرياً، أو قل اختار الشاعر جورج شحادة.
ما زلت أعتبر نفسي محظوظاً لأنني قرأت أدونيس في سن مبكرة، وأذكر اليوم الذي حملت فيه الأعمال الشعرية الكاملة ومعها الثابت والمتحول من دار العودة، وعدت كمن حصل على كنز تمناه كثيراً، وجدت فيها ما يدهشني في تلك الفترة، وجدته يكتب ما أحب أن أقرأ، وتعرفت من خلال مصادره في الثابت والمتحول على عشرات الكتب التى سعيت للحصول عليها في ما بعد ومعظمها من التراث العربي، مثل تاريخ الطبري، والشعر والشعراء وكتاب المعارف لابن قتيبة وغيرها العشرات من كتب التراث العربي والأهم هو كيف أقيم معها حواراً، وكنت قبل أدونيس قرأت طه حسين الذي تعلمت منه كيف أقرأ الأدب العربي، وظل عندي سؤال يؤرقني حتى الآن، لماذا لم يذكر أدونيس طه حسين في الثابت والمتحول، وكلاهما يسير في الاتجاه نفسه، وكنت أسأل نفسي: أليس كتاب الشعر الجاهلي وقراءة طه حسين للأدب العربي في أعماله الأخرى تسلك الطريق نفسه؟ وخاصة أنني عرفت أن أدونيس التقى طه حسين في القاهرة عام 1966 وأجرى معه حواراً نشره في كتاب النظام والكلام تحت عنوان “تمثال يوناني في منمنمة عربية” وسؤال آخر حول أحمد شوقي الذي لم يرد ذكره في “صدمة الحداثة” واكتفى أدونيس بتناول محمود سامي البارودي نموذجاً لشعر النهضة تحت عنوان “البارودي أو النهضة / الحداثة” ثم تناول الآخرين في مصر والعالم العربي وورد ذكر شوقي فقط في سطر واحد في نهاية الكتاب، حيث يصف شعر أحمد شوقي وما سمي بشعر النهضة بأنه يدخل في باب المعاني العقلية كما حددها الجرجاني! وذلك على الرغم من أنه في ما بعد خصص له فصلاً عنوانه “شعرية الكلام القديم” في كتابه سياسة الشعر، طرحت هذين السؤالين حول طه حسين وشوقي وأنا أحتفي بأدونيس وأتذكر أياماً كان لها التأثير العميق في حياتي الشعرية حين قرأت أعماله في سن مبكرة، كمن يعاتب عزيزاً ولا يرغب أن يكون في نفسه شيء من ناحيته.
ــــــــــــــــــــــ
السفير