عبد السلام العجيلي .. مؤسس الرواية السورية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

*جهاد فاضل

لا تُذكر مدينة الرقة في تاريخ سوريا المعاصر إلا ويُذكر على الفور طبيبها وأديبها الكبير الدكتور عبدالسلام العجيلي. فالرقة في الوجدان السوري والعربي العام تعني عبدالسلام العجيلي الذي كان يأتي إلى البرلمان السوري نائبًا عنها.. وقد عُين العجيلي أكثر من مرة وزيرًا. كان مرة وزيرًا للخارجية وأخرى للثقافة، واسمه مرادف أيضًا للنبل والسماحة وسائر الكرامات المرتبطة بهما، دون أن ننسى الظُرف والمجلس الأنيق وسحر الكلمات والذكريات.

 

هذا ما كانت تُذكر به الرقة في السابق، أو زمن العجيلي. ولم يكن أحد يتصور أنه سيحلُ محل ذاك الزمن الغضّ زمن آخر هو زمن داعش التي تتخذ اليوم من الرقة عاصمة لها وقد نزعت عنها كل ما يتصل بتاريخها السابق. وهكذا أصبح العجيلي مجرد فعل ماضٍ، أو لنقل مجرد برهة عبرت، في حين ظل ذكره إلى الأمس القريب، وحتى بعد رحيله سنة ٢٠٠٦، ملء السمع والبصر. فما أن يلفظ المرء اسمه في مجلس، حتى يتداعى العطر والزهر إلى هذا المجلس. فهل سيعود العجيلي في يوم قريب إلى الرقة التي كان يفضّل الإقامة فيها على أي مكان آخر بما فيه الشام، أم أن داعش قد استولت على الرقة ولن تغادرها بعد اليوم؟.

 

للتدليل على نضارة عبدالسلام العجيلي في قلوب إخوانه ومحبيه نشير إلى ما كتبته كوليت خوري في كلمتها عنه في هذا الكتاب التذكاري الذي بين أيدينا.

 

تقول الأديبة السورية الكبيرة: «كنت لم أبلغ العشرين من عمري عندما خابرني ذات يوم في أواخر الخمسينيات نزار قباني. كانت المصادفة قد جمعتني بالشاعر الكبير قبل شهرين واستطاع على تموجات شعره أن يجعل المصادفة تستمرّ.

 

سألني:

 

-ماذا تفعلين؟هيّا هيّئي نفسك، سترافقينني إلى محاضرة.

 

وحين سألته عن سبب اهتمامه بتلك المحاضرة ومن هو المحاضر، أجابني معاتبًا:

 

– أراكِ تكتبين في الصحف وتنظمين الشعر وتؤلفين القصص، ومع ذلك تجهلين تمامًا الحركة الأدبية في البلد.. هيّا معي لتستمعي إلى أهمّ أديب وكاتب قصة في سوريا، هيّا لأعرّفك إلى «أروع بدوي عرفته المدينة وأروع حضري عرفته البادية»!.

 

وذهبت كلمة نزار قباني مثلًا «أروع بدوي عرفته المدينة وأروع حضري عرفته البادية».. والكلمة صحيحة بالفعل وأنا أحد الشهود على صحتها.

 

فقد عرفت عبدالسلام عن قرب ولقيته في دمشق وبيروت والرياض والقاهرة والكويت: فطرة نبيلة وحديث عذب وذكريات لا تنضب عن أساطين الأدب والشعر في لبنان وسوريا. عبدالسلام العجيلي لم يعرفه أحد إلا أحبه. كان نموذجًا لا يتكرر في مجلسه وحضوره، وكان رمزًا لسوريا السابقة على سوريا الحالية. سوريا السابقة كانت سوريا وطنية وعروبية وفلسطينية أيضًا. من الأدلة على ذلك أن الطبيب الشاب يومها عبدالسلام العجيلي يترك عيادته الطبية في الرقة ويلتحق بعشرات من أمثاله، ومن زعماء سوريا الآخرين ليلتحق «بجيش الإنقاذ» أو بفوج اليرموك الثاني تحت قيادة أديب الشيشكلي. من تلك التجربة يحمل عبدالسلام خيبة مريرة ودائمة، ويستلهم عددًا من قصصه ورواياته مثل قصة «كفن حمود» من مجموعته القصصية «الحب والنفس»، ومن تلك التجربة أيضًا أتت مجموعة «قناديل إشبيليا» وبخاصة قصة «بنادق في لواء الجليل»..

 

على إيقاع نكبة فلسطين وقيام إسرائيل عام ١٩٤٨ يتطوع الطبيب والنائب الشاب في البرلمان السوري في جيش الإنقاذ. وكان قد تخرج قبل ثلاث سنوات من كلية الطب بجامعة دمشق، كما كان نائبًا عن المدينة التي ينتمي إليها: الرقة!

 

كان نداء فلسطين يدوّي في دخيلة عبدالسلام العجيلي منذ تعالت أصداء ثورة ١٩٣٦ الفلسطينية. آنئذ سافر لأول مرة إلى دمشق دون علم أهله وهو الطالب الذي نال لتوّه الشهادة الثانوية معتقدًا أنه استوفى العلم.

 

وكانت غايته التطوع في صفوف الثوار. منذ ذلك الحين لم يغادر نداء فلسطين عبد السلام العجيلي. فعلى إيقاع هزيمة ١٩٦٧يكتب قصة «نبوءات الشيخ سلمان» من مجموعة «فارس مدينة القنطرة» (١٩٧١) عائدًا إلى تجربته في حرب ١٩٤٨، ليرسم وصول متطوعين في جيش الإنقاذ إلى قرية بيت جن، حيث تنثال نبوءات الشيخ وأولها موت الطيبين من المتطوعين. أما غير الطيبين فسيسكبون فشلهم في الحرب قوة، وسيكون لهم سلطان. ولأنهم غير طيبين ولا خبثاء في آن، فسيموتون في بلادهم في سبيل فلسطين. ثم «جماعات إثر جماعات تتعاقب ثم تنقرض على هذا السبيل. يجيء الطيبون في البدء ثم يذهبون، بعدهم الأقل طيبة، ثم يأتي الخبثاء. نعم. إن الخبثاء لا بدّ قادمون»..

 

بعد قليل من حرب ١٩٤٨ وبدء مسلسل الانقلابات العسكرية في سوريا، خرج عبدالسلام العجيلي من الحلبة السياسية، لكنه عاد إليها حين تولى لستة أشهر من عام ١٩٦٣ وزارة الثقافة، ثم جمع إليها وزارتي الإعلام والخارجية في عهد الانفصال الذي أعقب عهد الوحدة السورية المصرية ١٩٥٨/ ١٩٦١، ويبدو أن هذا العهد أضاف للسياسة في كتابة العجيلي عنوانًا جديدًا إلى جانب عنوان فلسطين، هو الاستبداد. وسيكون للسياسة عنوان آخر هو حرب تشرين الأول ١٩٧٣، فعنوان رابع هو الفساد. وبالطبع ستشتبك هذه العناوين، أو بعضها، في روايات العجيلي.

 

ولد العجيلي في الرقة عام ١٩١٨ على الأرجح، وتربّى على يد جدّه الصارم تربية إسبارطية كما ذكر هو. وقد تلقى تعليمه الابتدائي في الرقة وحمل الشهادة الابتدائية عام ١٩٣٩، بعدها مضى إلى تجهيز حلب. لكن المرض أعاده إلى الرقة ليقضي أربع سنوات في قراءة كتب التاريخ والدين والقصص الشعبي ودواوين التراث العربي. ثم تابع دراسته في حلب ودمشق ليعود إلى الرقة طبيبًا ويشرّع باب عيادته فيها منذ ذلك الحين حتى نيّف على الثمانين، إلا أن يكون في واحدة من رحلاته الكثيرة، من دون أن ننسى فترتي النيابة والوزارة، كان العجيلي يتحوط على حياته الشخصية، كما يتحوط على حياته السياسية، فلا يبقى للمرء إلا ما يقدر من انسراب السيرة في بعض كتاباته، ولا يخرج من ذلك إلا النزر الذي ضمّه كتابه «أشياء شخصية» (١٩٦٨).

 

ظلت الكتابة واحدة من أسرار العجيلي حتى حمل البكالوريا. فقد نشر عام ١٩٣٦ قصته الأولى «نومان» بتوقيع ع.ع. في مجلة «الرسالة» المصرية المرموقة. كما نشر بأسماء مستعارة قصصًا وقصائد وتعليقات في مجلة «المكشوف» اللبنانية وفي سواها من الدوريات الدمشقية إلى أن فضح السرّ سعيد الجزائري وهو من أدباء دمشق، ويبدو أن حياته الدمشقية، طالبًا ومن بعدُ نائبًا، كانت بالغة الثراء، ففي عام ١٩٤٣ فازت قصته «حفنة من دماء» بجائزة لمسابقة القصة.

 

ويتعرف في مصر سنة ١٩٤٨ إلى الشاعر أحمد رامي، وينجز في هذه السنة مجموعته القصصية الأولى «بنت الساحرة» كما يؤلف مع عدد من الكتاب السوريين الظرفاء «عصبة الساخرين» وهو الذي اقترح عليهم اسمها.

 

ردّد العجيلي كثيرًا أن الأدب بالنسبة إليه متعة وهواية ويكاد لا يبقى لهذه الهواية سوى وقت يسير يتبقى بعد موجباته في مهنة الطب، وكذلك بعد موجبات الأسرة وإدارة إرث أبيه الذي توفي سنة ١٩٦٣.

 

وكذلك بعد السياسة والشأن العام. وكان يقول: «إنني لا أنظر إلى الكتابة الأدبية كعمل بل كنوع من أنواع السلوك». لم يكن ينتقص من الاحتراف، غير أن العجيلي كتب بعد ذلك، وبغزارة، القصة القصيرة والمقالة والرواية، وكان في بداياته قد كتب الشعر والمسرحية. وكان لأدب الرحلات وللمحاضرات منه نصيب كبير.

 

من أعمال العجيلي، في القصة القصيرة، بعد «بنت الساحرة»، «ساعة الملازم» (١٩٥١) و «الخائن» (١٩٦٠) و«رصيف العذراء (السوداء) (١٩٦٠) و«الخيل والنساء» (١٩٦٥) و«حكاية مجانين» (١٩٧٢)، و«الحب الحزين» (١٩٧٩) و«فصول أبي البهاء» (١٩٨٦) و«موت الحبيبة»(١٩٨٧) و«مجهولة على الطريق» (١٩٩٧).

 

يكتب العجيلي الرواية لأول مرة منذ سنة ١٩٥٩ بروايته «باسمة بين الدموع» وتتوالى رواياته بعد ذلك: «قلوب على الأسلاك» (١٩٧٤) و«ألوان الحب الثلاثة» (١٩٧٥) و«أزاهير تشرين المدماة» (١٩٧٧) و«المغمورون» ١٩٧٩. وسيتعين علينا بعد ذلك أن ننتظر حتى عام ١٩٩٨ قبل أن ينشر روايته «أرض السّياد» ثم «أجملهن» عام ٢٠٠١ ذلك أن ألوانًا أخرى من الكتابة ستتقدم على الرواية، وفي رأسها المقالة التي تتلبس بها المحاضرة، وفيهما للعجيلي: «أحاديث العشيات» (١٩٦٥) و«السيف والتابوت» (١٩٧٤) و«عيادة في الريف» (١٩٧٨) و«سبعون دقيقة حكايات» (١٩٧٨) و«في كل وادٍ عصا» (١٩٨٤) و«حفنة من الذكريات» (١٩٨٧) و«فلسطينيات عبدالسلام العجيلي» (١٩٩٤) و «محطات من الحياة» (١٩٩٥) و«ادفع بالتي هي أحسن» (١٩٩٧) و«أحاديث الطبيب» و«خواطر مسافر» (١٩٩٧).

 

من تقنيات القص جرّب العجيلي الرسائل والمذكرات والأحلام والمونولوع والتفريع. ولئن كان ذلك يؤشر بخاصة إلى الكلاسيكية في القص، ومنه تقنيات السرد التراثي، العربي، فليس يخفى ما كان للعجيلي من تجديد في هذه الكلاسيكية. ومن هنا جاء وصف القصة التي كتبها العجيلي «بالكلاسيكية الجديدة». وتلك هي واحدة من بدائع ما كتب: إنها قصة «سالي» التي يرمح فيها الفضاء بين باريس وستوكهولم ومضرب العشيرة في البادية، فتشرّع بذلك الكوة على شاغل آخر يتعنون بـ(الشرق والغرب) ولسوف تشغل هذه الإشارة قصة «رصيف العذراء السوداء» أيضًا، وهي القصة التي تضاعِف في قصص العجيلي التباس التجنيس بين القصة والرواية، بين القصة الطويلة والرواية القصيرة. كما تتسرب الحكاية إلى ما كتب العجيلي من القصة وتتلبس بها، والأمر نفسه يبدو فيما كتب من أدب الرحلات ومن المقال، والأمر كذلك هو فيما كتب من الرواية والمقامة.

 

وكل ذلك يؤكد للعجيلي صفة «الحكواتي» إضافة إلى صفات «الروائي» و«القاص» و«المحاضر» و«الرحّالة» و«المثقف» من دون أن ننسى «الطبيب» و«السياسي» ومن دون أن ننسى «الشاعر» و«كاتب المقامة»، نذكر هنا نص «المقامة النهدية» التي أرسلها نزار قباني من أنقرة، حيث كان يعمل في السفارة السورية، إلى العجيلي الذي ردّ عليها «بالمقامة القنصلية» (١٩٤٩) وسمّى فيها نزار قباني «بصريع الغواني أبي النهد الأشقراني» ومنها ما نظمه العجيلي على لسان نزار معرِّضًا بديوانه الأول «قالت لي السمراء»:

 

قالت لي السمراء إنك باردُ

 

فأجبتها بل أنتِ مني أبردُ

 

ترمين بالنعل العتيقة عاشقًا

 

يروي حكايات الغرام وينشدُ

 

وقد جاءت «المقامة الباريسية» (١٩٥٢) أيضًا في هيئة رسالة أرسلها العجيلي من الرقة إلى صحبه في باريس ومنهم عبدالرحمن بدوي ويونس البحري وأديب مروة. وبهذه المقامة ودّع العجيلي هذا اللون من الكتابة من دون أن يتخلى عن السخرية والإخوانيات في كتابات تالية له.

 

لعبد السلام العجيلي مكانة أدبية عالية في أدب القصة والرواية العربية في القرن العشرين. هو إلى حد بعيد نجيب محفوظ سوريا. وكان جان غولميه أحد النقاد الفرنسيين يقول عنه: «غوته وستندال وفلوبير هم أسماء أعلام في الأدب. العجيلي يستحق أن يشبّه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكية هؤلاء».

 

«لنتصّور أنفسنا في بلدة صغيرة على تخوم البادية السورية ليس لنا ما نسلّي به أنفسنا غير أصائل وأمسيات رطبة الظل ندية النسمات نقضيها مجتمعين في مقهى صغير نتبادل أطراف الحديث ويقصّ كلّ منا على الباقين ذكريات حياته الماضية في مدن كبيرة يكُسبها بعدها عن البلدة الصغيرة التي نحن فيها سحرًا ليس لها وحنينًا لم يكن».

 

هكذا كتب جورج طرابيشي مرة عن عبدالسلام العجيلي وعن البيئة التي عاش فيها، أي في «الرقة» التي كان لها ولا شك دورها في إنجاب حكواتي بارع، الرقة مدينة مفتوحة لاحتمالات كثيرة أهمها السحر والميثولوجيا ومازالت قابعة في حضن البداوة. وقد طارد النقاد العجيلي حتى داخل جدران عيادته في الرقة، تفحصوا تجربته، مدحوه، واتهموه. ولكن في كل ما كتبوا عنه كانت قلادة الريادة على صدره، وكانت الرقة هي ملاذه ومكان إلهامه. هجر دمشق بكل مغرياتها واستقال من الوزارة ومن السفارة ليعود إليها، كان يقول: «إن لي سفارة تنتظرني في الرقة.. إنها عيادتي»!.

 

أما عن برجه العاجي الذي اتهموه به، فقد كان ردّه عليهم: «تعالوا انظروا في أي برج أعيش. أنا عائش في برج من الوحل. الرقة بلدتي وأنا أغوص في طينها»!.

 

خرج العجيلي من عمق الصحراء السورية نقيًا كذرات الرمل فيها وقد تحولت إلى تربة أزهرَ العلم في طياتها، ليصبح طبيبًا يداوي آلام الناس، وما لبثت مخيلته أن تفتقت عن حكواتي قدره أن يشهد على عصره. وقد تفجر اهتمامه بالقضايا العامة فمارس السياسة فترة من حياته فكان عينًا لها على الوطن وعينًا على ذاكرة زمن يلهث هربًا من ضياع. وكانت الرقة بلده على بساطة أرضها التي اكتوت برياح الغبار الموسمية قد حملت في عمقها الضمّخ بالتاريخ جنين كائن أطلّ على الحياة وقد كتب له أن يكون واحدًا من رموز عصرها الحديث.

 

كتب العجيلي عن المجتمع والفكر في رواية «باسمة بين الدموع» وكتب عن قضية فلسطين في قصة «كفن حمود» وفي قصص أخرى كثيرة. كما كتب عن الأساطير والتراث في «الخيل والنساء»، ورسم أسطورة مجنحة من أساطير البادية الساحرة، وصوّر أدبه البيئة الصحراوية التي عاش فيها.

 

وقصصه ورواياته زاخرة بالفرح.

 

في مقدمة أحد كتبه يقول العجيلي إنه بدأ الكتابة سنة ١٩٣٧. نحن إذن أمام شخص تورط بالكتابة لمدة تناهز السبعين عامًا. «ذهبت إلى الكتابة بدافع تقليدي» كان يقول. كتب الشعر في البداية وكان يقلّد في شعره شعراء التراث، ليغرف فيما بعد من الأقاصيص الشعبية والدينية. لكنه لم يتوقف عند هذه النقطة بل يبدأ منها أغلب كتاب العالم. لقد حاول بعد ذلك أن ينوّع في مناحي كتابته كي لا يكرر نفسه في أسلوب واحد. لقد أفسح في المجال لعدد من التجارب وكأنه يشعر بضرورة التجريب وضرورة أن يجدّد الكاتب نفسه.

 

كما أن مشاركته في جيش الإنقاذ الفلسطيني عرّفته على أمور كثيرة: «على أحوال قادتنا وحكامنا وشعبنا وأمتنا، على ما كنتُ أجهله أو ما كنتُ مخدوعًا به من أمور خطيرة. أحدثت هذه المعرفة في مشاعري إحباطًا كبيرًا جعلني أنفر من ممارسة السياسة لأني شعرت بأن العمل السياسي بالشكل المفروض علينا كان يدعو السياسيين إلى التنازل عن كثير من قناعاتهم ولم أجد في نفسي القدرة على التنازل عما كنت مقتنعًا به في سبيل الاحتفاظ بكرسي النيابة أو الوصول إلى كرسي الوزارة أو التمتع بالنفوذ الذي يتمتع به السياسيون عادة».

 

لا نعرف ما إذا كان الأدب هو خلاصة حياة العجيلي أو وجهًا من وجوهها الكثيرة. حياة العجيلي واحدة من رواياتنا النادرة، إذ الأرجح أن كثيرين من أهل الأدب وغيره يكادون يكونون بلا حياة، البدوي الذي طالما غشي مضارب أعمامه في ظاهر الرقة والذي أخّره المرض عن متابعة دراسته غدا في النهاية طبيبًا. الطبيب الشاب كان أصغر نائب في البرلمان السوري والنائب تطوّع ليحارب في فلسطين، والمناضل الشاب الذي بدأ شاعرًا كما يبدأ الجميع عادة وأصدر مجموعة أدلى ثم غدًا روائيًا.

 

حياة العجيلي طالت تسعة عقود تقريبًا شاهدة على قرن، وشاهدة أيضًا على جدل ثقافة وجدل مجتمع، بقدر ما هي مغامرة شخصية تكاد تكون بطولية وتكاد تستقبل حقلًا من الخيارات والتوجهات، وتكاد تستقيم نموذجًا قائمًا بذاته لتفاعل ثقافات ومجتمعات ومخارج تاريخية.

 

يمكن للعجيلي أن يكون بحق مؤسس الرواية السورية. سبقه بالطبع آخرون، لكن الرواية لم تبدأ من الخواطر الأدبية المفرطة والرسالية إلا على يديه. لم يكن العجيلي بالطبع راوي البداوة، بل إذا كان للبداوة لغة، فإن العجيلي أبعد ما يكون عن فحواها وحرفها. كان إنجاز العجيلي في الرواية إنجازًا لغويًا بدرجةٍ ما.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى