القراءة في دمشق… حاجة وضرورة وليست هواية
الجسرة الثقافية الالكترونية
يارا بدر #
منذ القدم، يذهب المشاهدون إلى المسارح الحجرية الضخمة، في زمن الحقبتين اليونانية والرومانية، لمشاهدة العروض المسرحيّة، وهم مدركون تماماً للّعبة التي اختاروا المشاركة فيها، عبر تسليم أنفسهم للشرط المسرحي ولزمنه، فما يحدث على الخشبة يغدو حدثاً بوصفه «الآن.. وهنا».
ويخرجون وقد عاشوا حالة من التطهّر عبر تخيّل أنفسهم بديلاً للبطل وفي مكانه.
البطل الذي يخوض صراعه التراجيدي ويسقط في النهاية، على الرغم من كلّ نبله. يخرجون مرتاحين لكونهم لم يخوضوا الصراع الذي خاضه البطل نيابة عنهم، وهم يتمنون ما يتمنى ويحلمون بما يحلم من تحدّ للقدر والسلطات في مجمّع الآلهة، أو على الأرض، ولكنهم في المقابل لم يسقطوا بل وحده البطل من فعل.
في سوريا، وعلى الرغم من اكتشاف اللعبة المسرحية في زمنٍ متقدّم نسبياً، إلاّ أنّ السورييّن بحثوا عن إمكانيات خلق زمنٍ بديلٍ، موازٍ وأفضل. فمنذ التسعينيات تقريباً، والسوريون يغرقون أنفسهم أكثر فأكثر في لعبة الدراما التلفزيونية، التي تقدّمت كصناعة بفضل نسب المتابعة العالية، حتى شكّلت السلطات المعنية مديرية خاصة ومستقلة للإنتاج الدرامي، خاصة مع تشدّد قوانين الرقابة الفكرية على الكتب المعروضة في الأسواق السورية، وعلى النصوص المسرحية أو السينمائية المُقدّمة كمشاريع إنتاج، تحتاج كذلك إلى موافقة الرقابة قبل عرضها على الجمهور.
لكن زمن الحرب فرض شروطه القاسية، كما طبيعة الصراع نفسها التي قسّمت جمهور الدراما قبل أي شيء آخر، فتضاءل الإنتاج الدرامي حتى كاد يشح، ندرت العروض المسرحيّة والغنائية، توقفت فعاليّات المؤسسة العامة للسينما طوال عامين تقريباً، ازداد الخطر الأمني وقلّ تجوال المدنيين في الشوارع بعد هبوط الظلام. والأهم، الارتفاع الهستيري في عدد ساعات انقطاع الكهرباء، التي لم تزل تتراوح في بعض مناطق دمشق ما بين اثنتي عشرة ساعة وست عشرة ساعة.
كل هذا وسواه، دفع بالكثير من السوريين إلى العزوف عن متابعة هذه النشاطات، خاصّة أنّ الشريحة المتابعة للنشاطات الثقافية في سوريا بشكلٍ عام لم تكن أساساً تلك الشريحة الواسعة- علماً بأننا لا نملك أرقاما إحصائية دقيقة لكلا المرحلتين الزمنيتين- وفي المقابل وجد السوريون في القراءة سبيلاً آخر للعيش في زمنٍ آخر، يُنسيهم هموم الحرب وأوجاعها وألم الفقدِ مُتعدّد الأشكال الساكن في كلّ منزل.
تكرار العناوين اللا مُنتهي وبعض المُنكهات
مؤلفات غابرييل غارسيا ماركيز، وإيزابيل الليندي، أحلام مستغانمي، الأعمال الكاملة لكل من الكاتبين مكسيم غورغي وأنطون تشيخوف، ومنشورات دار «التقدّم» الروسية هي من أبرز العناوين التي تجدها حيثما اتجهت، في المكتبات العامة التي لا تزال تناضل من أجل إبقاء أبوابها مُشرّعة حتى ولو للغبار، أو على بسطات الكتب المتوزّعة في بعض الشوارع وقرب الجامعات.
ويُلحظ مؤخراً انتشار مؤلفات الكاتب اللبناني أمين معلوف، وحديث عنها وتبادل لها، بالإضافة إلى رواية «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية إليف شافاق، إلاّ أنّ هذه العناوين الجديدة لا تشكّل إضافة كبيرة إلى القائمة الأساسيّة للمنشورات الموافق عليها رقابياً للطباعة والنشر والتوزيع.
هذا من حيث الكتب الفكرية، إذ تتسع القائمة عند مُختارات كتب الطبخ والأبراج التي تفتح على أحد أبرز ازدواج الشارع السوري الثقافي. فعلى ذات المسطبة التي تعرض الكتب الرخيصة الثمن يجد الباحث كتب النصائح الخاصة بالحياة الزوجية السعيدة، والحياة الجنسية السعيدة، جنباً إلى جنب مع اصطفافات من الكتب الدينية الخاصة بالفقه والشروح، وحسب مذاهب متعدّدة، وسواها!
الحديث عن البلاد البعيدة، عن الحكايات التي لا تمسّ الحرّيات بالدرجة الأولى، الحديث الديني ونشره هو من المواضيع المسموح بها رقابياً بسعة صدر ملحوظة دوماً. أمّا بالنسبة للقرّاء فلطالما حقق ماركيز بسحريته الأدبيّة وأليندي بغزارة إنتاجها الأدبي قبولاً واسعاً.
لا إسفاف وسعة خيال بالإضافة إلى قوّة وتنوّع الحبكات مزيج أحبّه القارئ السوري، وكان أن اكتسحت مستغانمي برومانسيتها الساذجة وجملها الأدبية التصويريّة قلوب القرّاء من الشريحة المتوسطة في الغالب.
القصص العاطفية وتطهيرٌ يقوم على تمنّى إحقاق النهاية السعيدة
قليلون، ربما، من هم على اطلاع على القصص العاطفية الصغيرة الحجم «قصص الجيب» المُترجمة في لبنان عن اللغة الإنكليزية، التي تحمل عناوين عدّة لكنها دوماً أسماء خاصة بالمرأة، مثل «عبير» أو «غادة»، وهي قصص تتناول موضوع الحب وما يواجه الحبيبين من صعوبات، حيث تُبنى بالاستناد إلى العقد الدراميّة الكلاسيكية من غيرة أو حسد أو كبرياء، وتنتهي القصة دوماً بالنهاية السعيدة.
ولطالما قيّم المثقفون هذه القصص باعتبارها سخيفة وغير جديرة بالقراءة، واعتبرها كثيرون غير مُحبّذة، لكونها تخاطب العواطف والرغبات قبل أيّ شيء، إلاّ أنّ هذا اللا تحبيذ يتخذ شكلاً من تفضيل عدم توزيعها والتعامل بها حتى، على الرغم من التعديلات التي طرأت على ترجمتها وراعت المزاج المُتشدّد المُحافظ الآخذ في التمدّد، حتى أننا وفي سؤالنا عن هذه القصص لغالبية مكتبات شارع «الحلبوني»، وهو الشارع السُفلي المُوازي لشارع جامعة دمشق، لم نعثر سوى على بائعين يعرضان هذه القصص بين رفوف أو مسطبات كتبهم، وإن أجاب كلّ من سُئل بمعرفتهم لها.
إلاّ أنها في الواقع تبدو أكثر طلباً هذه الأيام، حيث لم تعد قارئاتها من المراهقات فقط، بل إنّ كثيرات يقرأنها اليوم ليعشنّ تطهّراً معكوساً، حيث يحلمنّ بأن يكنّ البطلات، أيّ بطلات ولكن المهم أن يصلنّ إلى النهاية السعيدة، وهذا ما ليس مضموناً دوماً في الروايات العالمية، أو التي حققت اعترافاً أدبياً وانتشاراً واسعاً.
في قصص الجيب العاطفية تغيب الكلمات الكبيرة والتعابير والتشبيهات المُركبّة، ويتلاشى السرد الروائي، وتتسطّح شخصيات الأبطال إلى مستوى الصفة الواحدة البارزة التي تقود الشخصية وتتحكم بأفعالها.
لكن الأهم أنّ هذه القصص العاطفية تتميّز بالبساطة القاتلة، والتكرار في حبكاتها يُحيلها إلى حدثٍ مكرورٍ بلا توقعات، بلا تشويق، كمن يُعيد مشاهدة فيلم سينمائي قديم، إنمّا بمتعة أقلّ بكثير، بالإضافة إلى صِغَرِ حجمها الذي يتناسب وساعات الكهرباء المقطوعة، فعلى ضوء الشاحن الكهربائي أو البطارية الصغيرة يُمكن للقارئة – وهي النسبة الأكثر إقبالاً على تناول هذه القصص- أن تنتهي من القصة مع عودة الكهرباء، ممّا يوفّر مزيداً من الإطالة والتشويق الذي تفرضه الروايات الكبيرة.
لا حاجة للتفكير في ما تقرأ، تقرأ لتشغل عيناك برسم الكلمات، ويداك بتقليب الصفحات الصغيرة، وتدع أفكارك الخاصة تأخذك بعيداً وراء أحلامك أنت، وراء أمنياتك وخلف أحزانك. تبتعد عن الحديث مع من حولك والضجيج، وترفع جداراً يحميك من ضرورات التواصل الحزين غالباً، حول همومك أو هموم من حولك، وكلاكما عاجزٌ عن إحداث فرق بشأنها. يكفي القارئة أنها انشغلت وتناست الحرب وصوت القنابل وآثار الدمار بقليل من المتعة، قليلٍ جداً.
….
القدس العربي