السينما المصرية وثورة 25 يناير… المزيد من السُمعة السيئة!
الجسرة الثقافية الالكترونية
#محمد عبد الرحيم
مرّت السينما المصرية بالعديد من المشكلات طوال تاريخها، الذي تعدى المئة عام، وسيطرت عليها طوال هذا التاريخ فكرة السينما التجارية، في ما عدا أعمالا قليلة استطاعت كسر النمط السينمائي القائم على الشكل التجاري وحواديت ربات البيوت.
من جهة أخرى لطالما دارت السينما في فلك السلطة الحاكمة، بخلاف قِلة من الأعمال أيضاً حاولت نقد الواقع بشكل متزن. فالسينما التي هللت لانقلاب يوليو 1952، هي نفسها التي انقلبت على العهد الناصري في ظل حكم السادات، ونددت بدولة عبد الناصر البوليسية لصالح بطل الحرب والسلام، ولكن بموت السادات انصبّت الأعمال على النقد الصارخ لعهد الانفتاح الاقتصادي، ثم ابتعدت عن المشكلات التي يمر بها المجتمع المصري، وأصبحت تقدم أعمالاً أقل ما يُطلق عليها أنها نوع من الإسفاف، إضافة إلى سرقة الأعمال الأجنبية وتمصيرها، من دون وعي وبشكل أكثر فجاجة، لتأتي ثورة 25 يناير/كانون الثاني ــ التي لم تكتمل ــ وتضع صناع السينما وفنانيها في مأزق لم يخطر لهم على بال.
المتاجرة بالثورة
بمجرد اندلاع الثورة، وأصبح لقب «مبارك» هو الرئيس المخلوع، استغل العديد من السينمائيين الثورة ورجالها، لنجد أن البعض من مروجي الدعاية للنظام المقضي عليه، يقومون بتقديم أفلام عن الثورة المصرية (المخرج مروان حامد وأستاذه شريف عرفه مثلاً، ذلك من خلال فيلمين ضمن عشرة أفلام قصيرة جمعها عنوان 18 يوما).
ولم ترق هذه الأعمال التي روّجت لها الميديا، والعلاقات الوطيدة ببعض المهرجانات الدولية إلى العمل السينمائي، فالأحداث المتلاحقة جعلت هذه الأعمال تلهث وراءها، حتى أنها أصبحت الآن، تتناقض مع الواقع وتثير السخرية، وهذا هو الفخ الذي وقع فيه هؤلاء، فهم لم يدّعو أنهم يقدمون سينما توثيقية تتابع الحدث وتواكبه، مع افتراض أننا نتحدث عن السينما الوثائقية السطحية، ولكنهم ناقشوا الثورة من منظور السينما الروائية، وهذه مشكلة كبرى.
النضال على الطريقة الحديثة
وحتى لا يبتعد بعض السينمائيين عن المشهد، ويفقدوا بريقهم الزائف، وقد اعتادوا إثارة الجدل الفارغ بأعمال سابقة، وربما يكون أشهرهم المخرج خالد يوسف، نجده يحاول تمثل النضال من خلال استغلال الموقف أيضاً، كورقة رابحة في ظل رؤية غائمة، لا تتضح معالمها بعد، ولم يمر الوقت، حتى يتم تحليل العلاقات والظروف الاجتماعية التي أدت وتفاعلت حتى حدثت الثورة. فصعود التيار الديني في مصر، وتحالفه مع سلطة العسكر ــ قبل انقلاب 30 يونيو/حزيران ــ جعلت أكثر من سينمائي يصرخ ويتصارخ حول مستقبل السينما في ظل الرقابة والفكر الديني، الذي سوف يفرضه هؤلاء ــ السينما الإيرانية الرفيعة لا أحد من سينمائيي مصر يريد ذكرها ــ لم يجد خالد يوسف إلا عمل ما يسمى بالـ»شو الإعلامي» فيصرّح بأنه من منطلق الدفاع عن حرية الفكر والإبداع، سيقوم بتحويل رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ إلى فيلم سينمائي. وهو يعرف جيداً مدى حساسية هذه الرواية بالنسبة للمتأسلمين، رغم أن معظمهم لم يقرأ منها حرفاً! فهو ببساطة يستغل نجيب محفوظ، رغم وجود أكثر من رواية لمحفوظ أشد قسوة من أولاد حارتنا، ولكنه أيضاً، خالد يوسف، يلعب على عصب التيارات الدينية العاري، وإن كنا نعذرهم لجهلهم، فهل سنعذر المخرج الثوري للسبب نفسه؟
محاولات فاشلة في الانتساب للثورة
في تلك الفترة حاولت السينما اللحاق بالتغيرات التي شهدتها مصر والعالم العربي، في ظل ما تم الاستقرار على تسميته بـ»الربيع العربي». ومن سمات هذه المرحلة أن جميع الأفلام، حتى التي قاربت على الانتهاء من إنجازها قبل الثورة، أصبحت تتحدث عن هذه الثورة، والكثير من الأفلام الهابطة السابقة، التي أنتجت منذ سنوات يتحدث صانعوها بأنهم تنبأوا ولمّحوا لعصر الثورات هذا.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل بلغت الجرأة ببعض السينمائيين الذين شاركوا في التأييد والعمل من أجل الرئيس المخلوع ــ ينطبق الأمر على مصر وتونس ــ أن يروّجوا لمفاهيمهم الثورية، ويستغلوا الثورة ومَن قام بها، ويسرقونها للحديث بلسانها، والأمثلة كثيرة، كالمنتج طارق بن عمار في تونس، الذي كان من مؤيدي بن علي، ثم انقلب بعد نجاح الثورة وأعلن عن إنتاجه لفيلم يتحدث عن حياة محمد البوعزيزي، وكل من المخرجين شريف عرفة ومروان حامد، اللذين شاركا في الحملة الإعلامية لمبارك والحزب الحاكم، ثم قاما بالاشتراك في فيلم 18 يوما، كما أسلفنا! لكننا سنستعرض فيلمين من الأفلام التجارية التي عُرضت بعد وقت قليل من الثورة، وهما فيلما «الفاجومي» و»صرخة نملة» لاشتراكهما في العديد من السمات، أولها أنهما شارفا على الانتهاء من التنفيذ قبل الثورة بأيام، وبالتالي فالسيناريو المُعتمَد رقابياً تمت الموافقة عليه في ظِل النظام البائد، إلا أن كل منهما تضمن في ختامه لقطات من ثورة يناير، وكأنها جزء من أحداث الفيلم الذي تنبأ بها!
أن تكون حشاشاً.. فأنت مثقف ثوري
يبدأ الفيلم وأحمد فؤاد نسر ــ قام بالدور خالد الصاوي ــ مجرد شاعر يغويه صديقه لتزوير استمارة يحصلان بموجبها على أقمشة يقومان ببيعها، يقبض عليهما ويسجنان، ويصبح السجن وسيلة تعرّف «نسر» على بعض الشيوعيين والاشتراكيين، ويصبح أيضاً طريقه لطبع ديوانه الأول بتشجيع من ضابط لديه حس فني يشبه جمال عبد الناصر. تتوإلى الأحداث مصحوبة ببعض التواريخ على خلفية سوداء..
عمل «نسر» في منظمة التضامن بوساطة يوسف السباعي، تعرّفه على حجازي فنان الكاريكاتور الذي يصقل ثقافته ووعيه، لقاؤه مع الشيخ «همّام» ــ قام بالدور صلاح عبد الله ــ وتكوين الثنائي الشهير، مغامرة عاطفية بين «نسر» وجارته التي تركها طليقها، هزيمة 67 وأغنيات ثورية تؤدي للاعتقال بعد محاولات فاشلة للترويض، مشاركة «نسر» في مظاهرات الطلبة والقبض عليه، زواجه من الصحافية والناقدة الشهيرة «ماهيتاب قدري» وإنجاب طفلتهما «نوّارة»، سفر الزوجة والابنة وتعرّف «نسر» على الشابة «منّة» وزواجه منها، عودة للسجن في عصر السادات بعد انتفاضة يناير 1977، ثم قفزة واسعة إلى ميدان التحرير في يناير 2011. «راجع أمير العمري موقع عين على السينما». هذه هي أحداث الفيلم الثوري، الذي لم يتعرض لعصر مبارك، الذي فاق زمنه، زمن كل من عبد الناصر والسادات فساداً وقهراً، ومسخ الشخصية المصرية لدرجة لم تصل إليها أبداً عبر تاريخها.
وإن كنا نبحث عن بطل حقيقي لهذا العمل فهو «الحشيش» بلا منازع، هذا الذي يلتف حوله الجميع، وتخرج أفكارهم الثورية والعبقرية حول سُحب دخانه، مُعبّرة عن طموحات وآمال الشعب المصري والشعوب العربية، ثم العديد من الأخطاء والمغالطات على مستوى الشخصيات والأحداث، فالفيلم وإن كان مأخوذاً عن مذكرات أحمد فؤاد نجم، المعنونة بـ»الفاجومي» ــ تعني الكلمة الشخص المتهور والمشاغب بالسليقة الذي لا يهتم إلا بقوانينه وعالمه الخاص ــ فالسيناريو يجب ألا يلتزم حرفياً بهذه المذكرات، التي تعبّر في انحياز واضح لشخص كاتبها ووجهة نظره، الذي سرد العديد من المواقف السلبية للشيخ إمام بعد وفاته، «الشيخ إمام» الذي لولا ألحانه وصوته لفقدت كلمات نجم الكثير من رصيدها لدى الناس.
كذلك عدم التوفيق في اختيار الشخصيات، كخالد الصاوي بجسده الضخم مقارنة بنجم صاحب الجسد النحيل جداً، إضافة إلى الأداء المبالغ فيه، والانفعالات الزائدة التي جعلت منه مُقلّدا فاشلا، أكثر منه ممثلاً.
وتأتي في النهاية فِعلة صناع الفيلم الرخيصة، المتمثلة في الضحك على الجمهور، والاستجداء الأرخص، واستغلال الثورة المصرية التي لم تتضح معالمها وقتها، فيأتي الختام ببعض اللقطات الأرشيفية للثورة، مع بعض اللقطات المصنوعة بحضور أبطال الفيلم.
فيلم ثوري يستنجد بالرئيس المخلوع
كان صناع فيلم «الفاجومي» أكثر ذكاءً في استغفال الجماهير، مقارنة بالثوريين المناضلين أصحاب فيلم «صرخة نملة»، الذين لم يفلتوا من سيناريو لا يرى الأمل أو الحل إلا من خلال رئيس الدولة نفسه!(تمت كتابة السيناريو والموافقة عليه، وتنفيذ أكثر من 95% منه في عهد مبارك).
يتناول الفيلم حكاية شاب ــ قام بالدور عمرو عبد الجليل ــ ذهب إلى العراق منذ عشر سنوات، قضى ستاً منها في أحد السجون أثناء الحرب على العراق، حتى فقد أهله الأمل واعتبروه ضمن الكثيرين من الأموات هناك.
إلا أنه يعود ليجد زوجته سافرت إلى لبنان وأصبحت من فتيات الليل، بينما ابنهما يعيش مع أخت البطل، المتزوجة من مسطول على الدوام ومن تجار المخدرات الصغار جداً، بينما أخت الزوجة مدمنة زواج مؤقت من الخليجيين، حيث يفضلونها عذراء، فتقوم بعمليات معتادة تجعلها كذلك ــ ربما لو انتمى الفيلم لميلودراما حسن الإمام لكان بالتأكيد سيتخلص من هذا الثقل المزمن ــ يعود البطل، ولا يجد عملاً إلا بمقهى لرجل قعيد وابنه الأبله الذي يجلس بجواره، إنه الترميز السياسي حاد الذكاء من صُناع الفيلم للرئيس السابق وابنه ــ لن نعلق على فجاجة الرمز ــ ويضطر البطل المنهزم على جميع المستويات إلى العمل للدعاية لعضو مجلس شعب من الحزب الحاكم في الانتخابات، فهو بذلك مشارك بقدر طاقته في منظومة الفساد هذه، وبعد رحلة بحث خائبة عن زوجته وتداخل أحداث مهلهلة لا تمت للدراما، تقوم الثورة فجأة، لا ندري كيف وأين، إلا أن تورط البطل بالعمل مع عضو مجلس الشعب، يجعل الأخير بدوره يريد القضاء عليه، وبينما الرئيس السابق المخلوع يلقي خطابه عن الوعد بتطهير الفساد، والعمل من أجل الشعب، يقرر البطل الاستنجاد به، وأن الأمل معقود عليه لحل كل المشكلات التي يعاني منها الشعب، وأثناء الثورة يرى البطل الموكب الرئاسي يمر، فيهرول ليشرح للرئيس الأمر، ويقترب من السيارة ويفتح بابها، فلا يجد بداخلها أحدا، ويسقط صريع رصاص الحرس الجمهوري! عن أي ثورة يتحدث الفيلم؟ وأي رئيس سيسير أو سار بكل هدوء في الشارع وسط ثورة مُقامة ضده، وكأنه هو قائدها! إن الفانتازيا والخيال العلمي لهما منطقهما الخاص أيضاً، وليسا عبارة عن مثل هذه التخاريف.
الفيلم في أصله مكتوب للرئيس، ككل الأعمال الرخيصة والمنافقة، ويجسد العيب في المحيطين بالرئيس، لذلك فالوصول إليه وإطلاعه على الحقيقة هو الحل، فمشهد اللجوء إلى الرئيس المخلوع هو المشهد الأساسي في الفيلم، وهذه النهاية ليست غريبة على بطل جعله المؤلف من البداية مُنهزما في ذاته، ولا يمثل أبداً الجيل الذي قام بالثورة، والذي يعلم أن القرار بيده هو، من دون الانتظار لمنحة من أحد أو هبة رئاسية من عصابة رأسها فاسد. ولكن حتى بعدما قامت الثورة، لم يرتدع أو يتعظ صُناع الفيلم، بل تمادوا في الاستخفاف بالناس، وتناسوا ما كانوا يفعلونه، كما تناسوا الاسم الحقيقي للفيلم، الذي كان سيظهر به قبل قيام الثورة، وهو «إلحقنا يا ريس».
السيد نصر الله وفيلمه السياحي
كان العرض الأول لفيلم «بعد الموقعة» بمهرجان كان السينمائي الـ65، داخل إطار المسابقة الرسمية للمهرجان. ووسط تهليل الصحف والميديا المصرية لهذا الحدث الجلل، وبعض مدّعي النقد السينمائي العربي، خاصة وصول الفيلم إلى المسابقة الرسمية بعد غيبة مصر 15 عاما منذ عرض فيلم «المصير» ليوسف شاهين، هذا في وقت استنكرت فيه معظم الصحف السينمائية العالمية وصول مثل هذا الفيلم الركيك ــ الذي يعتلي أحداث ثورة 25 يناير/كانون الثاني ــ إلى المسابقة الرسمية لمهرجان كبير مثل مهرجان كان.
موقعة الجمل بشخصيات كارتونية
يبدأ الفيلم بمشهد دخول الخيول والجمال يوم 2 فبراير/شباط إلى ميدان التحرير في ما عُرف بموقعة الجمل، ثم مشهد على اجتماع نسائي تتكلم فيه بطلة الفيلم «ريم»/منة شلبي كلاماً ثورياً فارغ المضمون، لنعرف بعد ذلك أنها تعمل في مكتب دعاية وإعلانات، وهي على وشك الطلاق، لعدم التوافق الفكري مع زوجها المنتمي للفئة المُترفة ــ صورة كارتونية لنموذج الناشطة السياسية ــ تذهب ريم إلى منطقة «نزلة السمان» بجوار الهرم التي اشتهر سكانها بالعمل بالسياحة، حيث يقومون بتأجير الخيول والجمال للسياح، وتتعرف ريم على «محمود»/باسم سمرة، وتعجب به ــ تحالف الطبقات بين رجل من عامة الشعب وامرأة من الفئة العليا، كهاجس جنسي يحقق هذه المعادلة الموهومة ــ وبعد أن تمتطي صهوة جواده، يأخذها إلى ركن مظلم، يقبّلها في مشهد غرامي بارد، فتستسلم له. وتدور أحداث الفيلم المملة بعد ذلك حول محاولة ريم تغيير فكرة محمود عن الثورة والثوار، وتأسيس جمعية في نهاية الفيلم لمساعدتهم على الخروج من أزماتهم، من جهل وتعليم وفقر وبطالة، ومحاولة تصحيح صورتهم لدى الشعب المصري بعد إدانتهم لفعلتهم النكراء في موقعة الجمل! لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتمادى الفيلم في فجاجته حتى مشهد النهاية، الذي ينتهي بمشاركة محمود في مظاهرة لكي يحافظ على ريم ويحميها من عربات الشرطة التي تدهس البشر ــ أحداث ماسبيرو ــ ويصاب برصاصة طائشة، فيوصيها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بزوجته، ثم نراه لاحقاً في عربة الإسعاف يتخيّل أنه يصعد الهرم الأكبر، ويموت وهو يحلم أن يصل إلى قمته كما كان يفعل في طفولته.
الدعاية وتعليقات الصحف العالمية
تم الترويج للفيلم بمهرجان كان على أنه (أول فيلم «كبير» عن ثورة 25 يناير المصرية الكبيرة)، ووسط اندهاش الكثير من وصول فيلم بهذا المستوى الرديء للمسابقة الرسمية، توالت الحقائق التي أبطلت مفعول الدهشة. فأحد المشاركين في الإنتاج هو مارك بنامو، وهو ينتمي إلى الحركة الصهيونية العالمية، وناشط في اللوبي الصهيوني الفرنسي، وله تأثير كبير على المهرجان وإدارته، ويبدو أنه المنتج الرئيس للفيلم، فبينما ينفي نصرالله موافقته على عرض الفيلم في إسرائيل ــ حتى تعامل الفلسطينيين كويس على حسب قوله ــ أكدت بعض الصحف العبرية على لسان أحد المنتجين والموزعين السينمائيين الإسرائيليين، أنه تم بالفعل شراء حق عرض الفيلم، وأنه سيُعرض قريباً داخل إسرائيل. من ناحية أخرى جاءت تعليقات الصحف الغربية حول الفيلم لتكشف تدني مستواه، ومراهقته الفكرية، فصحيفة «الغارديان» البريطانية رأت أن الفيلم يتعلق فقط بالعناوين العريضة للثورة المصرية بدون التعمق في أي من تلك العناوين. أما صحيفة «الإكسبرس» الفرنسية فاعتبرت الفيلم عبارة عن قصص غير متصلة ويفتقد للوحدة، فيما المجلات اليومية التي تصدر بالمهرجان مثل «سكرين» و»الفيلم الفرنسي» التي تقدم تقييماً يومياً لأهم 20 ناقداً من فرنسا والعالم، فقد صنفت «بعد الموقعة» ما بين رديء وضعيف.
جريمة باسم الثورة
طبيعة أعمال يسري نصرالله تعكس دوماً وجهة نظره القاصرة عن معرفة وتحليل طبيعة الشعب المصري، فهو دوماً يجعل من شخوص أفلامه عبارة عن نماذج تحمل أفكاراً نظرية، تأتي في أغلبها مُفككة لا ترقى لمستوى الدراما. ليأتي نصرالله ليُسوّق ويستغل أحداث يناير ليقوم بعمل فيلم ــ وسط الدعاية المأجورة ــ أقل ما يوصف به أنه من صنع سائح قام بالتقاط بعض الصور لمكان لا يعرفه، ولأشخاص لا يفقه ماذا يفعلون.
السينما المستقلة وأحداث يناير
من سمات السينما المستقلة أنها قريبة جداً من حياة الناس، وتنقل لهم تجارب حياتية وتناقش مشكلاتهم في بساطة، وفي لغة سينمائية غير متكلفة، فحركة الكاميرا المتحركة على الدوام والمحمولة، التي تسير في الأزقة والشوارع الضيقة، تكسر الإيهام السينمائي قدر الإمكان، فهي سينما لا تصدّر الأوهام للمشاهد، وتعمل على إعمال عقله وصقل رؤيته لما يحدث حوله. فالممثلون على سبيل المثال معظمهم من الهواة، وحوارهم يأتي في لغة دارجة يستخدمها رجل الشارع، ولهذه اللغة جمالياتها لما تحمله من صدق. فهي سينما نقدية في المقام الأول، ولا تخضع لسيطرة أصحاب رؤوس الأموال من المنتجين، الذين يريدون الحال كما هو عليه، ويبذلون أقصى جهودهم لتخدير الشعوب بأعمال كوميدية أو اجتماعية رخيصة.
ولكن … كيف تعاملت السينما المستقلة مع الحدث ــ نقصد ثورة يناير ــ معظم الأفلام دارت في مدار التجارب ليس أكثر ــ بغض النظر عن تقييم المهرجانات والنقاد الذين يلتقطون التصاوير في ميدان التحرير ــ فيلم مثل «ميكريفون» مثلاً، الذي ذاع صيته وحصد العديد من الجوائز، وكان مقرراً له عرض جماهيري يوم 25 يناير 2011، يدّعي أنه من الأعمال التي تنبأت بالثورة! ويحكي عن المهمشين من فناني الفرق الموسيقية، الذين لا يجدون مَن يعطي لهم «الميكريفون»/الفرصة حتى يصل صوتهم، في عصر كممت فيه الأفواه، وعانى الجميع من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية. فهل لنا أن نهمس بمشاهدة فيلم الإيراني بهمن غوبادي «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية»، لنلحظ مدى التشابه بين الفيلمين؟
تجارب إبراهيم البطوط
يعتبر المخرج إبراهيم البطوط من أوائل المخرجين الذين لم يلتفتوا سوى للسينما المستقلة، محاولاً خلق لغة سينمائية جديدة بالنسبة لتاريخ السينما المصرية الطويل. ومن خلال عدة أفلام مثل، «إيثاكي/عين شمس/حاوي»، حاول رصد ظواهر المجتمع الجديدة، وإن شابت حالة الرصد هذه درجة من التعالي في الرؤية والتعامل مع هذا الواقع. فبعض المظاهرات التي أنهى بها فيلمه «عين شمس» على سبيل المثال، لن تحوّل الفيلم في لحظة إلى متنبئ بالثورة، كما يحاول النقاد والأصدقاء التهليل في كل مناسبة. ولكن سنلقي نظرة على فيلمه الأخير «الشتا اللي فات»، الذي وجد سيلا من التقدير، وقد اعتمده رعاة الفن الثوري كأفضل الأفلام التي تناولت ثورة يناير.
الحكاية
تدور حكاية الفيلم من خلال شخصيات ثلاث أولاها مراسل صحافي اعتقل في أمن الدولة وتم تعذيبه (عمرو واكد) والثانية مذيعة (فرح يوسف) تردد كالببغاء ما تمليه عليها سياسة الدولة، والأخير ضابط أمن الدولة (صلاح الحنفي) الذي يتعامل مع الطرفين كحلقة وصل مؤثرة بينهما في حياتهما وعلاقتهما. فعمرو متردد وخائف ولا يريد مغادرة منزله، ليرى ما يحدث في يوم 25 يناير، رغم ما يسمعه بالخارج من هتافات ومطاردات، نتيجة لتجربته وتعذيبه من قِبل أمن الدولة. فرح المذيعة التي تشكك في نوايا الثوار، وتصفهم بالعملاء، فهي تنويعة لمذيعات النظام وموقفهن من الأحداث، إلا أنها تتفاعل في النهاية مع الحدث وتسجل اعترافاتها بما يشبه جلسات التطهير، وتتحول إلى ناشطة سياسية، وتوصي عمرو بأن يبث هذا الشريط، وهو المتخصص في علم الاتصالات، ويتحمل هو الموقف من جديد، ليقابل ضابط أمن الدولة مرّة أخرى، ورغم التعذيب الشديد، إلا أنه يقف صامداً أمامه، على العكس من تجربته المؤلمة عام 2009، أما الضابط فيمارس مهمته بكل قسوة، وما فترة الثورة إلا هدنة ليس إلا، يقضيها في عطلة مع أسرته بأحد المنتجعات، أملاً في مواصلة عمله من جديد. فالثورة لم تكتمل، والسلطة تحاول الالتفاف على ما حدث، وكأنه استثناء، لا بد وأن تعود بعده الحياة إلى طبيعتها!
البحث عن الأسباب
لم يستعرض الفيلم يوم 25 يناير بعينه، أو باقي أيام الثورة حتى يوم تنحي المخلوع، لكنه يعود لعمليات القمع والتعذيب منذ 2009، خاصة أن جهاز أمن الدولة كان وقتها هو الحاكم الفعلي في مصر ــ وقد حل محله الآن جهاز الأمن الوطني ــ كمحاولة للبحث عن الأسباب المباشرة لقيام الثورة، ووصول الحال بالجميع إلى طريق مسدود، فكان حتمياً أن تصل الأحداث إلى ذروتها في يناير. أكد ذلك أيضاً من خلال الشخصيات، التي لا تنتمي للطبقة الدنيا، فالثورة كانت ثورة كرامة وليس الخبز، فجّرها حادث مقتل خالد سعيد على أيدى رجال الشرطة بالإسكندرية، واختار الناشطون لتظاهراتهم يوم عيد الشرطة المصرية بالذات فى 25 يناير2011. فالفيلم عالج أنماطاً من الشخصيات، رغم أنه لم يكن مباشراً في تناول أحداث يناير، إلا أن مباشرة النمط تجعله يسقط في الفخ نفسه ــ المباشرة ــ واللهاث وراء ما حدث، بمعنى تفصيل حكاية يتم من خلالها سرد الحدث ولو عن طريق الإشارة إليه، من دون تحليل الحدث والفعل الثوري، وهل يستطيع أحد أن «يُعقلن» ثورة! ناهيك عن أنها لم تكتمل نتائجها على أرض الواقع بعد.
الموضة لا تصنع سينما راقية
كعادته وهو الأكثر اتساقاً مع عالمه السينمائي، يعبّر المخرج داوود عبد السيد عن الموقف السينمائي الراهن، بأنه موقف لم تتضح ملامحه بعد، في ما يخص صناعة السينما في ظل أحداث وتطورات جديدة يمر بها المجتمع المصري والعربي. أما من ناحية عمل فيلم يتناول الثورة المصرية، فيرى الرجل أن هذا الحدث الكبير يُحتم الانتظار، حتى لا يتحول الفن إلى عمل لا يرقى حتى إلى مستوى الإعلانات التجارية الرخيصة، فالموضة لا تصنع سوى الإسفاف، والمتابعات الفضائية للثورة جعلت الجميع يتابعها لحظة بلحظة، وكسرت بذلك فكرة الإدهاش الوقتي والسريع، لذا فالسينما تواجه تحديا كبيرا على مستوى الفكر والقيمة، والتحليل الدقيق، الذي يستطيع الفن السينمائي محاولة احتوائه، وتقديمه لمُشاهد لابد من احترام وعيه أولاً وأخيراً.