الوشّاح منذ ألحانه الأولى

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمد قدري دلال

 

منذ أن قدّم موشّحاته الأولى، أدرك كبار المنشدين في مدينة حلب قيمة الموهبة التي يحملها عمر البطش، فأخذوها وأنشدوها، مأخوذين بقوامِها الطربيّ، لتعمّ موشحاته أرجاء زوايا الذكر في المدينة وخارجها.

لم يتوقف الأمر على المنشدين فحسب، إذ تسابقت إليها أصوات المغنّين والمغنيات الذين قدّموها على مسارح حلب وفي بيوتها أيضاً. لم تكن موشحاته دينية فقط، بل تداخلت فيها معاني الفرح والغزل، ما جعلها تحقق انتشاراً كبيراً آنذاك. ويرجع هذا إلى الاهتمام الكبير الذي كان يوليه البطش لألحانه، إذ يصعب على المستمع أو الدارس أن يجد في أحد موشحاته سرداً لحنياً ركيكاً، أو جملةً لا تتناسب مع قريناتها، أو انتقالاً غير مُطرِب من مقام إلى آخر في السياق اللحني.

عرف البطش مبكّراً التنوعَ الذي تنطوي عليه أذواق سمّيعته؛ لذا، حرص في معظم موشحاته على تلحينها بأكمل وجه. فـ”الموشح الكامل”، كما كان يرى، هو الذي يحتوى على دورَين وخانة وغطاء. الخانة، هنا، تمثّل اللحن الثاني في قالب الموشح. ولهذا، لن نلاحظ في ألحانه غياباً لهذه الخانة التي تكتمل بها جماليات الموشح.

كما اشتغل صاحب “عذبوني ما استطعتم” في موشحات غيره من التي لا “تتمتع بالكمال”، أي ليس لها خانة، فأضافها إليها بما يتناسب مع لحن الدور، وأشهرها موشح “يا شادي الألحان” لسيد درويش. مع ذلك، لم يصبّ البطش جلّ اهتمامه على موشح فريدٍ يلحنه، بل تعدّى ذلك إلى أن الموشحات في اعتقاده يجب أن تنتظم في وصلة، بمعنى أن تُبنى على إيقاعات متفاوتة في عدد الوحدات، لذا عمل على صياغة عدد من هذه الوصلات، أهمّها “وصلة مقام اليكاه”.

وفي ظل غياب إحصائيات دقيقة لكل ما شهدته الحياة الموسيقية في حلب تلك الآونة، فمن المرجح أن ما وضعه البطش من موشحات يقارب نحو 150 موشحاً، نعرف منها مئة تقريباً. ويعد التوشيح من أهم ما ورَّثَهُ البطش للموسيقى الدينية السورية عامة، والحلبية على وجه الخصوص. ويختلف هذا القالب الغنائي، في إطاره اللحني وجزئياته، عن أي من القوالب الدينية والغزلية المعروفة. وأفضل مثال لهذا القالب ما أَورده في موشحَيه “يا مادحاً خير الأنام” و”يا رسول الله يا من فضله السامي سما”، فكلا القطعتين توضحان مراحل التوشيح وخطوات سير مقاطعه وأجزائه.

لم تقتصر خصوصية تجربة البطش في الفكر الجديد والشامل في ما يخص تلحين الموشحات، بل ابتكر طريقة حتى في تعليم تلاميذه، وتلقينهم قواعد الموسيقى العربية ومقاماتها وإيقاعاتها، مبتكراً وسيلة إيضاحية لافتة، نظّم لها شعراً ولحّنه مضمناً إياه أسماء مقامات معروفة أو نادرة الاستخدام. ومن أبرز الأمثلة على هذه الطريقة موشحه “غنت سليمى في الحجاز”، فقد أتى على ذكر اسم المقام مُلَحِّناً جمله على درجات سلم كل مقام ضمّنه في كلمات الموشح:

“غنّتْ سُلَيمَى في الحِجازْ، فأطْرَبَتْ أَهْلَ العِراقْ/ حيثُ وافَى العِيسُ بِنَجْـدِ، في مقاماتِ الصَبا/ مُحيَّرٌ في مَسْمَعي، عُدْتُ إلى الشَّهِنازْ/ يا ليتَ ما كانَ النَّـوَى، ما حُوَيْدُ الرَّكْبِ ساقْ/ قِفْ رُوَيْداً واطْرِبِ العُشَّاقْ، والْحُسَيْنِي فـي اشْتِياقْ/ في حاليَ الأوجُ راقْ، وفي الْحِجازْ يَحْلُو التَّلاقْ”.

في الأبيات السابقة، يُلحظ أن البطش ابتدأ بـ”الحجاز”؛ فغنّى جملة لحنية في هذا المقام، منتقلاً إلى “النوى” الذي وضع عليه جملة أخرى… وهكذا، حتى استوفى جميع المقامات التي أوردها في الأبيات التي نظمها لهذه الغاية التعليمية، وهي على التوالي مقامات “الحجاز” “نوى” و”نجد” و”عراق” و”عشاق” و”صبا” و”حسيني” و”محير” و”أوج” و”شاهيناز”، قبل أن يعود ليختم بـ”الحجاز”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى