أسطورة “ابن خلدون” لم تهتز والمراجعة مستمرة لأفكاره

الجسرة الثقافية الالكترونية
*جهاد فاضل
سبق للباحث الأكاديمي المصري الدكتور محمود إسماعيل أن اتهم ابن خلدون بسرقة أفكاره الفلسفية الواردة في «مقدمته» من رسائل «إخوان الصفاء» المعروفة. وهي تهمة لا شك في تهافتها وبطلانها، ولكنها أدّت إلى سجال وجدل بل وصراع بين الأكاديميين العرب لم يستطع فيه هؤلاء إخفاء أخلاقهم في التعامل الجامعي والأكاديمي وأسلوبهم في النقد ومنهجهم في البحث، فبلغ الخطاب حدود السباب والقذف والتراشق بأبشع التهم ليس أقلها الجهل والانتحال والافتراء.
وقد أصدر تفاصيل هذه اللوحة بما فيها من لمحات مضيئة ونبرات جارحة محمود إسماعيل نفسه في كتاب عنوانه: «هل انتهت أسطورة ابن خلدون/ جدل ساخن بين الأكاديميين والمفكّرين العرب».
والواقع أن أسطورة ابن خلدون – إن صّح أن تُدعى أسطورة- لم تهتّز أو تتداعى، وإن كان هناك مراجعة مستمرة، من قبل الباحثين العرب وكذلك الأجانب، لجوانب إبداع ابن خلدون في «مقدمته». فمن يراجع سيرة ابن خلدون عند هؤلاء الباحثين منذ مائة سنة إلى اليوم، يجد أن هذه السيرة جرى مراجعتها مرارًا، وأُعيد النظر بأحكام كثيرة تناولتها. ويبدو أن مردّ ذلك هو أن نصوص «المقدمة» لم تُقرأ وتدرس بما فيه الكفاية، لذلك اعتمدت قراءات سابقة مبتسرة لها لم يتبين أنها كانت قراءات دقيقة. ولأن الأمر تمّ على هذه الصورة، فإن الأحكام التي تأسست على مثل هذه القراءات لم تكن صحيحة. واستنادًا إلى ذلك يقول الدكتور عبدالحميد الفهري في «الندوة الدولية» التي عُقدت في صفاقس بتونس، إنه رغم مكانة ابن خلدون، إلا أنه لا يجوز منحه رتبة السمو على منزلة النقد والحفر في أفكاره وتشريحها لتجاوز القراءات المستعجلة والسطحية والمبنية على ثقافة شفوية ومرجعيات لا ترتقي إلى المفترض الأدنى أكاديميًا. بل الأدهى أن ابن خلدون أضحى بضاعة يروجها أكثر من يجهله لمجرد اعتماد اسمه للدعاية ولجلب الانتباه.
ولكن أبحاثًا جادّة قُدّمت في الندوة بيّنت أن ابن خلدون كان أول من نظر في الاجتماع الإنساني نظرة علمية شاملة على أساس منهج دقيق تجاوز أخطاء المؤرخين وأوهامهم ليقيم قواعد للبحث العلمي الموضوعي في التاريخ والاجتماع. وإذا كان من بين نتائج النظر الخلدوني أن للظواهر الإنسانية والاجتماعية قوانين تسيّرها كما في مثال قوله إن للدول أعمارًا وإن لنشوئها ونموّها ونضجها وفنائها أسبابًا يمكن أن تكُشف، فإن الندوة التونسية وضعت من بين أهدافها أن تفحص ما يمكن أن يستخلص من ذلك درسًا منهجيًا للباحثين المعاصرين. وكما كان من بين نتائج ذلك النظر أن الدراسة العلمية ملزمة بالأخذ بكل وجوه الظاهرة كما في قوله بأن إخضاع المجتمع للتمحيص يستوجب تقديم الحجج والأسانيد ذات الصلة باقتصاده وسياسته وعصبياته وسيرة رؤسائه وحال الصنائع فيه، فإن الندوة اجتهدت في أن تنوّع من المقاربات وتعدّد من وجهات النظر بحيث تقف على ما يمكن أن يكون من كل ذلك محل استثمار راهن في الفكر الخلدوني، لا على أساس الاستنساخ بل من منظور يسائل التراث انطلاقًا من اهتمامات الحاضر. ولم يكن للندوة أن تُغفل المرتكزات النقدية للأثر الخلدوني بحيث استلهمتها في نقده هو ذاته فسلطت الأضواء على ما في راهنية ابن خلدون من محدودية موضوعية، نظرًا لتباعد الأزمنة وتغير الأحوال وتمايز شروط الإنتاج العلمي، ساعية بذلك إلى المساهمة في تحقيق ما يضمن معاصرة علمية وبحثية راسخة في جذورها واعية بحاضرها ومتطلعة إلى أفق رحب.
وقد وُجد في الندوة من احتفى بابن خلدون ووهبه الكثير من الاهتمام والتعظيم، كما وجد من أخذ عليه الكثير من السلبيات واعتبر أنه نال في الفكر العربي والعالمي المعاصر اهتمامًا مبالغًا فيه.
فالدكتور محمد نجيب بوطالب، وهو مدير المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، قد ذكر «أن ابن خلدون اسم ليس ككل الأسماء لتضمنه فكرة الخلود، ولا ككل العلماء لأنه علاّمة والوزن في العربية معروف الدلالة.
يلتصق العلماء والمبدعون بعصورهم ويلتزمون بسياقاتهم وحدود أزمنتهم، أما ابن خلدون فإن زمنه ممتدّ إلى ما بعد عصره. إلا أن هذا الامتداد إن لم تكن جدارته معرفية فهي على الأقل حضارية وثقافية».
وعلى ذلك، فأفكار ابن خلدون واكتشافاته العلمية، وخصوصًا في مجال الإنسانيات فكرًا وفلسفةً، تاريخًا وعمرانًا واجتماعًا، نقدًا وسياسةً، استطاعت أن تؤثر في لاحقيه أكثر من تأثيرها في معاصريه.
بل إن المذاهب ذهبت في هذا الشأن إلى حدّ اعتباره الأب الروحي للعلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة. ونبّه آخرون إلى اعتبار ابن خلدون سابقًا لنظريات كل من كارل ماركس وأوجست كونت وجان جاك روسو وميكيافيلي وسواهم.
فما الذي ذهب بهؤلاء وأولئك إلى اتخاذ هذه الأحكام ووضع تلك الافتراضات؟ وما بال ابن خلدون مستمرًا بيننا رغم ما يفصلنا عنه من قرون؟.
ألأن قوة الاكتشاف، وفرادة الإضافة العلمية عنده مكّنتاه من فرض نفسه علينا؟، أم هل أن إضافته لا تعدو أن تكون مراكمة للمعرفة وإضافة نوعية للعلم تاريخية، وهو أكثر الآراء معقولية؟. أم لأن ما يعرفُه وضع العرب والمسلمين اليوم من فقر نظري ومعرفي وعلمي يجعل بعضهم يتشبث بمعالم أولى لنهضة وحلم لم يتحقق بعد؟.
إن قراءات ابن خلدون وتوظيفاته في الفكر العربي المعاصر عديدة. وتبدو العودة من حين لآخر إليه ذات دلالة مليئة بالرموز والإيماءات.
فهذا التونسي العربي، ذو الأصول الحضرمية ثم الأندلسية، مكّنته حركية الجذور وتعدّدها وتنوّعها من ثراء الفكر وانفتاح الثقافة وغنى التجربة.
وهذا ما يجعلنا نعتبره أحد أهّم علامات ومفاتيح تماسك الحضارة العربية والإسلامية واستمراريتهما.
وإذا كان لزامًا علينا اليوم أن نجعل فكر ابن خلدون بدايةً معاصرًا لنفسه، وذلك من خلال ترابط الذاتي والموضوعي في إشكالياته أولاً، ثم من خلال إبراز عوائقه ثانيًا، وأن نؤكّد على أن طموحنا يجب أن يكون مقيدًا بالمرحلة العلمية المعرفية الوسطية، وهذا ما يجعلنا نعتبر مع إيف لاكوست أن سرّ الانبهار الذي مازال يتملكنا كلما دار بيننا حوار حول مقدمة ابن خلدون، رغم الفارق التاريخي، طرح عددًا من المسائل التي يطرحها المؤرخون وعلماء الاجتماع والاقتصاد اليوم. ومع ذلك فقد ساهمت تجربة ابن خلدون السياسية بقسط كبير في تشكيل رؤاه وفي تحديد إشكالياته في مجتمع كانت فيه القبيلة بنيته الأساسية والعصبية محركه الفاعل والمنظم من خلال ذلك كان التعبير عن التناقضات الاجتماعية والطموحات السياسية.
مثّلت العصبية عند ابن خلدون، كما يرى المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي، بالنسبة للمجتمع المغربي الوسيط محرِّكًا للتاريخ السياسي والاجتماعي داخل التمركز القبلي الذي كان يحكم بنية الدولة.
ثم إن حصول الاجتماع والحاجة إلى السلطة باعتبارها ضرورة إنسانية، مثّل فكرة خلدونية أساسية بني عليها نظرية في قوانين العمران.
وهكذا فقد أكسبنا القرن الرابع عشر، رغم قلة أعلامه ومفكريه، باحثًا حصيفًا ورجل ميدان ممحصًا يعرض الأخبار على شواهد التجربة وحكم العادة، ويردّ الظواهر الاجتماعية ودراسة الأخبار التاريخية إلى معايير العقل والبرهان، محاولاً تحليلها وتفسيرها دارسًا ما يلحق بها من عوارض التبدّل والتغيّر.
وذكر بعض الباحثين في الندوة أن ابن خلدون لم يكن مقلدًا، ولئن كان يؤمن بالتراكم المعرفي ويجسّده من خلال استفادته ممن سبقه من العلماء، فقد كان واعيًا بأنه يكتشف علمًا جديدًا، «وسلكتُ فيه مسلكًا غريبًا»، وقوله: «وكأني به علم مستحدث، جديد النزعة، غريب الصنعة». وما كان له أن يتوصل إلى هذه النتيجة النوعية في مسار تراكم المعرفة البشرية لولا التزامه المنهج العلمي الموضوعي.
وهكذا أسّس ابن خلدون للمنهج العلمي في الإنسانيات. ولئن كان اكتمال التأسيس وتحوّله العلمي نوعيًا قد تأخر عدة قرون، فإن بناء القواعد الصحيحة للمعرفة في العلوم الإنسانية ما كان له أن يتّم من قبل اللاحقين لولا مساهمة ابن خلدون في وضع المعالم الأولى لموضوعية الظاهرة الاجتماعية واستقلاليتها النسبية. كما لم يكن بالإمكان اكتشاف قوانين البناء الاجتماعي لولا اكتشافه القواعد العلمية المستنبطة من الدراسة الميدانية والمعايشة اليومية والاطلاع الواسع. لقد كان واعيًا باكتشافه وبضرورة قيام نقلة نوعية في منهج تناول الظواهر الإنسانية بما فيها المجتمع والدولة والعمران والعصبية وغيرها. لذلك قال: «وكأني به علم مستحدث». فالاستحداث العلمي عنده هو مصدر تفرده واكتشافه ذلك. لقد كان واعيًا لهذا الاستحداث لنسق معرفي لم يكن قائمًا من قبل ولم يسبقه إليه أحد من علماء عصره أو من سبقوه. وهو يقول حرفيًا في «مقدمته»: «وكأنه علم مستحدث النشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة».
ويرى باحث تونسي آخر هو الدكتور سهيل الحبيب، وهو يعمل بمركز الدراسات الإسلامية بالقيروان. إن ابن خلدون حينما حوّل وجهة العقل من النظر في «المعقول المطلق كما كان الأمر عند المتكلمين والحكماء » إلى «العمران والعمران وحده» كان أرسطيًا من حيث إنه واقعي، ولم يكن أرسطيًا بالمعنى المدرسي، إذ نقد صراحةً ما آلت إليه دراسة المستند الأرسطي في البلاد الإسلامية، على حدّ ما ذكره عبدالله العروي في كتابه «مفهوم العقل».. ذلك أن أرسطو كان حقيقة المفتاح إلى ذلك الميدان الجديد، لكن لا عن طريق أفكاره الأخلاقية والسياسية، بل عن طريق المنطق». وهذا لا يعني أن صاحب «المقدمة» تصوّر مشروعًا أرسطيًا قبل البداية، بل هو انتهى إليه بعد تحقيقه. المشروع هو بالأساس البحث في عوامل الاستقرار المجتمعي الذي يمكّن الإنسان من الاكتمال وبلوغ الغاية بالانتقال من البداوة إلى الحضارة!.
ويبدو أن هناك خلافًا جوهريًا في هذا المستوى بين قراءتَي العروي ومحمد عابد الجابري. إذ في حين يرى العروي أن الخط الأرسطي مثل خلفية الفكر الواقعي الخلدوني، اعتبر الجابري المقولات الأرسطية إحدى أهم المعوقات الإبيستيمولوجية للفكر الخلدوني.
والواقع أن تأمل أبعاد المشروع الخلدوني يدفع إلى الجزم بأنه قبل أن نحكم بأرسطية ابن خلدون لا مناص من الإقرار بوضعانيته، والجوانب الوضعنية في فكره واضحة ومتعددة، ذلك أن الرجل إذا ما انتهى في حقل المعرفة إلى موقف حسّي أمبيريقي (تجريبي) فما ذاك إلا نتيجة لما سبق من اختيار وضعاني.
وعلم العمران الخلدوني كان قيامه ممكنًا لأنه تميز عن التناول الديني للعمران، أي عن كل كتابات الفقهاء التي نظرت إليه بحسب ما ينبغي أن يكون عليه دينيًا، أو التي تحدثت عنه من منظور السياسة الشرعية. وكذا تميز هذا العلم عما ذهب إليه الفلاسفة الذين قاسوا الاجتماع البشري بمقياس الأخلاق الفلسفية.
هكذا كشفت لنا الدراسات الإبيستمولوجية المقارنة معالم هذا النزوع الوضعاني في الفكر الخلدوني، رغم اعترافها بأن وضعانيته كانت محدودة بحدود المعقول العمراني الذي تعامل معه، ومن ثم فإن القول بهذه الوضعانية لا يعني الذهاب إلى حد القول أن لا فرق بين ابن خلدون وأوجست كونت.
إن هذا النزوع الوضعاني هو الذي شكل الأرضية التي أمكن لابن خلدون استنادًا إليها أن يستوعب مشغل الحراك الاجتماعي والحضاري عبر التاريخ ويفكر فيه من منطق البحث عن تفسير لمآل الحضارة العربية الإسلامية في عصره. وبصرف النظر عن أي المواقع المعرفية التي انتهى إليها صاحب «المقدمة» (علم تاريخ، علم اجتماع، أنثروبولوجيا..)، فإنه خلص إلى ما يفيد «أن العمران هو بمثابة طبيعة ثانية من إنجاز البشر، وفيه تتحقق كامل إنسانية الإنسان.
فهو ثمرة العقل التجريبي، ويجب أن يدُرس بنفس العقل» على حّد تعبير عبدالله العروي. ومثل هذه الخلاصة تمثل بلا شك قاعدة من قواعد الفكر البشري الحديث والعلوم الإنسانية الحديثة.
إن لمثل هذه النتائج التي أفرزتها بعض الدراسات الإبيستولوجية المعاصرة الفضل الأكبر في الكشف عن تلك المنطقة الخفية التي التقى فيها الفكر العربي الحديث مع الفكر الخلدوني، وهي «الذهنية الوضعانية». وبغضّ النظر كذلك عما إذا كان المشغل الحضاري هو الذي دفع بابن خلدون إلى مواقع هذه الذهنية الوضعانية في فهم الاجتماع البشري أو العكس، فإن المؤكد أن الأمرين متلازمان، وأن طرح سؤال حراك المجتمعات والحضارات لا يكون إلا في حقل تفكير يقوم على مرتكزات وضعانية. وهذه حقيقة فرضت نفسها على الفكر العربي الحديث منذ جيل المصلحين الأوائل. لهذا كان تأثرهم بابن خلدون كما لم يكن تأثرهم بغيره من مفكري التراث العربي الإسلامي، وكان تأثيره فيهم كما لم يكن تأثيره فيمن سبقهم.
إن مفترضات السؤال النهضوي الذي طرحه شكيب أرسلان: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدّم غيرهم من مجتمعات الغرب الحديث، تحيل بالضرورة على هذه الذهنية الوضعانية في تدبر حرك المجتمعات والحضارات في التاريخ. ذلك أن الاعتراف بحقيقة أن هذا الغرب الحديث متقدم ومتطور قياسًا لا إلى الماضي الإنساني عامة فقط، بل قياسًا إلى حاضر المجتمعات البشرية الأخرى ومن ضمنها المجتمع العربي الإسلامي، لا يمكن أن تنبع من غير فكر يتعامل، كما ابن خلدون، مع المعقول العمراني معتبرًا أياه نتاجًا للعقل البشري التجريبي ومجالاً مخصوصًا له بامتياز.
والواقع أن الفكر العربي الحديث – وهو يطرح السؤال النهضوي ويحاول معالجته – في حاجة إلى استثمار القطيعة الإبيستمولوجية التي أحدثها الفكر الخلدوني – من هذه الزاوية على الأقل، إذ سنرى فيما بعد حدود هذه القطيعة، مع أنماط الوعي التاريخي والاجتماعي التي سادت قبله. ذلك أن هذا الفكر الحديث وجد نفسه تجاه حقيقة لا يستطيع إهمالها، وهي أن البلدان الغربية شهدت تطورات ذات مضمون إيجابي خلال حركة الزمن الفاصلة بين ماضيها وحاضرها دون أن تعرف تدخلاً إلهيًا مباشرًا أو اتصالاً ما بوحي منه.
وكان لا بد أن يتقمص رواد الفكر العربي بدءًا برجال الإصلاح في القرن التاسع عشر الذهنية الوضعانية الخلدونية حتى يستطيعوا استيعاب معطيات الواقع الفاجع الذي صحوا على وقعه المؤلم (تخلف المسلمين وتقدم الغربيين). ولكن كان عليهم في الوقت ذاته أن يقطعوا مع النظرية الخلدونية في تفسير حركة العمران، لأن هذه النظرية القائمة على مركزية فعل العامل العصبي في انتقال المجتمعات بين طوري البداوة والحضارة، إنما كانت نتاج تسليط الذهنية الوضعانية (العقل التجريبي) على المعقول العمراني العربي الإسلامي الذي عاش في نطاق ابن خلدون. أما الفكر العربي الإسلامي الحديث فقد انفتح على عناصر مستحدثة تتجاوز نطاق ذلك المعقول الذي بقي الفكر الخلدوني أسيرًا له.
إن قارئ محتويات هذا الكتاب، وهي حصيلة ندوة أكاديمية حول فكر ابن خلدون، يستنتج أن نتائج التفكيك الإبيستمولوجي لنص «المقدمة» الذي أنجزته الدراسات المعاصرة، قد مكنتنا من اكتشاف ذلك المجال الخفي الذي وصل خطابات المصلحين الأوائل بالفكر الخلدوني. ذلك المجال هو الذهنية الوضعانية في تعقل حراك المجتمعات البشرية في التاريخ، هذه الذهنية التي قدّمت مشاريع التغيير الحضاري التي نادت بها (الإصلاح السياسي، التقدم المعرفي، الإصلاح الديني…) باعتبارها من «طبائع العمران» وسننه الجبرية التي لا رادّ لها. بيد أن قسمًا من الدراسات المعاصرة التي أبانت عن هذا المنحى الوضعاني في الفكر الخلدوني قد ذهب باتجاه المقاربة إلى أفق آخر، مبينًا أن المنزع الإصلاحي لا يمكن أن يكون ذا فاعلية في سياق وعي وضعاني جبري لا يبوّئ الإرادة والاختيار الإنسانيين أية مكانة في صنع مسار التاريخ البشري. ذاك جوهر مقاربة خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر لعلاقة التراث الخلدوني بمشروع التغيير الحضاري في الوطن العربي.
______________
الراية