ناصر الدين الأسد وتحرير المصطلح السياسي والاقتصادي (2) / د. غسان إسماعيل عبد الخالق / الأردن
![](/wp-content/uploads/cropped-google3-512x470.png)
الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
مراجعة في كتاب (نحن والآخر: صراع وحوار)
*المصطلح السياسي والاقتصادي عند الأسد
سوف نقتصر على تحديد أبرز المصطلحات التي عرض لها الأسد، وحاكمها من منظور سياسي-اقتصادي / لغوي، أو لغوي / سياسي-اقتصادي. وأول ما يستوقفنا من هذه المصطلحات العنوان الرئيس والفرعي (نحن والآخر: صراع وحوار)! فهذا التعبير الذي كاد يملأ دنيا المثقفين العرب ويشغل قرّاءهم في أواخر الثمانينات وطيلة التسعينات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، يبدو مسلَّمًا به في جزئه الأول الرئيس (نحن والآخر) نظرًا لقناعة الأسد الأكيدة بأن العرب (نحن) ذات تاريخية وحضارية وثقافية قارّة، لا تحتمل اللبس أو التشكيك. وأن (الآخر) هو الغرب المكوّن من ذوات تاريخية وحضارية وثقافية قارّة لا تحتمل اللبس أو التشكيك أيضًا. ولكن الجزء الثاني الفرعي منه (صراع وحوار) هو الحدّ الذي اشتمل على إزاحة لافتة مؤداها الجمع بين التناقض والتفاهم في آن، وليس التساؤل عما إذا كان أحدهما هو الغالب أو المقدَّم. فالعلاقة بين العرب والغرب، وفي حال السلم أو في حال الحرب، لا تخلو من الاثنين، لأن الصراع لا ينفي وجود ضروب من التلاقي، ولأن الحوار لا ينفي وجود ضروب من التدافع المستتر أيضًا. ومن الملاحظ أن هذا التوجيه اللافت لمضمون العلاقة بين العرب والغرب ينطوي على فهم عميق لديالكتيك التاريخ والجغرافيا والمصالح والثقافات؛ فوقائع التاريخ بوجه عام وتاريخ العرب مع الغرب بوجه خاص، يسندان هذا “الديالكتيك” ويُعزّزانه على نحو فريد، فقد أكد ابن جبير في رحلته المشهورة إلى الشرق حقيقة تواصل العلاقات التجارية بين العرب والفرنجة في ذروة حروب صلاح الدين الأيوبي مع الفرنجة لتحرير القدس.
ولا ينبغي أن نفاجأ إذا تصدى الأسد بعد ذلك لمصطلح (الشرق الأوسط) واستدرك قائلاً: (هذه تسمية مستحدثة، ينكرها كثير من المفكرين والمثقفين والعرب، ويرون أن استعمال هذا “المصطلح” هو من أجل تجنب استعمال مصطلح “الوطن العربي” أو “البلاد العربية” لإدخال إسرائيل فيه. وهو مصطلح يضم بعض البلاد العربية، وبعضَ البلاد الإسلامية، وإسرائيل، وبذلك أصبح يُطلق على منطقة لا كيان لها في الحقيقة، وكان أصلاً مصطلحًا حربيًا استعمله الحلفاء في الحرب العالمية. وقد صار من الشائع أن تسمى قضية فلسطين بقضية الشرق الأوسط، فضاع اسم فلسطين، وأصبحت القضية ليست فلسطينية، ولا عربية، ولا إسلامية، وإنما هي قضية الشرق الأوسط!).
إن تحفظ الأسد الضمني على مصطلح (الشرق الأوسط) يمتد ليشمل مصطلح (المنطقة) التي يؤكد صراحة حقها في أن تسمّى الوطن العربي الذي طالما مثَّل جزءًا من (دار الإسلام)، وامتد من المغرب الأقصى إلى العراق وساحل الخليج حتى عُمان. بل إنه يلح على استخدام مسمّى (النظام العربي) وليس (النظام الشرق أوسطي) الذي من شأنه أن يميّع وحدة الوطن الكبير العتيد، ويفصل مشرقه عن مغربه، ويقحم فيه إسرائيل إقحامًا، بغية ضمان تحقّق التطبيع الديبلوماسي والاقتصادي والثقافي معها حتى تغدو جزءًا طبيعيًا من “المنطقة” التي تجُبُّ تلقائيًا مفهوم ودلالة الوطن بما له من حمى وحرمة، تمامًا كما واظبت إسرائيل على تسمية أجزاء من فلسطين ب(المناطق) وراح بعضنا يكررها دون وعي.
وبعض ما ينتح عن استخدام مصطلح (منطقة الشرق الأوسط)يمكن أن ينتح أيضًا عن استخدام مصطلحات شبيهة مثل (منطقة الخليج العربي) و(منطقة شمال أفريقيا)؛ فكلها مصطلحات تضعنا أمام السؤال المؤلم والقاسي الذي يصوغه الأسد على هذا النحو: (هل نحن أمة واحدة حقًا، أم أصبحنا أممًا، منها: الخليجيون، والشرق أوسطيون، والشمال إفريقيون؟)!
وكم كان سيبدو مستغربًا، لو أن الأسد قد أغفل الكلام على (العولمة) لغة واصطلاحًا، وهي الظاهرة التي كادت تغطي كل ما عداها من ظواهر، من حيث البحث في تاريخها ومفهومها وحسناتها وسيئاتها. ويعنينا من كلامه عليها مبادرتُه إلى القطع بصحة المصطلح لغويًا، فنراه يستطرد في تأكيد ذلك قائلاً: (لا أشعر بالحرج من استعمال مصطلح “العولمة” ومن تأصيله في اللغة العربية. إذ إن الوزن الصرفي “فَوْعَلَ” -فعلا واسمًا– هو من أبنية الموازين الصرفية. ومن الشواهد على ذلك: حَوْقَلَ الرجلُ: ضَعُف، ومصدره السماعي حيقال، أما مصدره القياسي ف”حوقلة”. وقالوا: كوكبة، في الاسم. ومما جاء على وزن فوعل: الفَوْلَف: كل شيء يغطي شيئًا، وفوقل: الحَجَل، وشَوْشَب: اسم للعقرب، ولَوْلَب: لولب الماء. والنَّورج والنَّورجة. ومن كلام المحدثين: قَوْلَبة، وبلْوَرة، وحوسبة. وما جرى على كلام العرب فهو من كلام العرب).
ما يسترعي انتباهَنا ها هنا، مسارعة الأسد إلى حسم المصطلح لغويًا إدراكًا منه لحقيقة أن العولمة -مفهومًا ونتائج- هي أخطر من أن يختزل البحث فيها بالجدل حول مدى صحة استعمال المصطلح ومدى انسجام هذا الاستعمال مع أقيسة العرب الصرفية. وكما أن الأسد لا يماري في أن الاقتصاد هو لحمة العولمة وسداتها، فإنه معني في المقام الأول بما يصاحبها، ويترتب عليها، من مؤثرات أو نتائج ثقافية؛ ها هو يعرّفها برشاقة على هذا النحو: (العولمة في أصلها اقتصادية، قائمة على إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة، لإتاحة حرية تنقل السّلع ورأس المال. ومع أن الاقتصاد والتجارة مقصودان لذاتهما في العولمة إلا أنها لا تقتصر عليهما وحدهما وإنما تتجاوزهما إلى الحياة الثقافية والحياة الاجتماعية بما تتضمنانه من أنماط سلوكية ومذاهب فكرية ومواقف نفسية، وكل ذلك هو الذي يصوغ هُوية الشعوب والأمم والأفراد). وها هو ذا بعد ذلك لا يدخر وسعًا للتنبيه على مخاطر العولمة بوصفها مرادفة للأمركة، فيذكّر بتنديد وزير الثقافة الفرنسي ووزيرة الثقافة اليونانية- أثناء المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية الذي نظمته اليونسكو في المكسيك عام 1982- بالنزوع الأمريكي إلى الهيمنة الثقافية على العالم، واتجاهها لاستخدام كل إمكانياتها لترسيخ هذه الهيمنة، ويمكننا أن نستنتج ضمنًا إعجابه بالمصطلح الذي استعمله كل من الوزيرين لوصف هذا الاستنفار الأميركي … (الغزو الثقافي)!!
بوجه عام، يمكننا القول بأن الأسد لا يتنكّر لعِظَم ظاهرة العولمة، ولا يحاول الالتفاف على خطورتها عبر الاستطراد في مساجلات لغوية، بل هو يؤكد وجودها، وضرورة الانخراط الإيجابي فيها بقرار ذاتي، نأيًا بأنفسنا عن مساوئ العزلة الكونية، وتأكيدًا لأهمية المشاركة في صياغة المشهد الثقافي العالمي، لكنه يحذر في الوقت نفسه من آثارها الثقافية التي قد تصل حد الاختراق الثقافي، ويطالب باستحداث وسائل وآليات وسياسات لحماية خصوصيات الثقافة العربية وسط هذا الخضم من الثقافات العالمية المتصارعة على السيطرة والزعامة. ويستدل على لزوم ذلك بالمخاوف التي أبدتها دول عظمى مثل فرنسا تجاه النوايا الأمريكية الصريحة. ولا يفوته التعريض باستنكاف بعض الباحثين عن استخدام مصطلح (الغزو الثقافي) واتجاههم لتلطيفه من خلال بعض المصطلحات الخجولة مثل (التواصل الثقافي) و(التبادل الحضاري)، فيذكّر بأن التواصل والتبادل يكونان عادة في أحوال الصعود الحضاري، وليس في أحوال الأفول، لأن الصعود يسمح بالاختيار أما الأفولُ فيفضي إلى التبعية، وإذا كان العرب قد جرّبوا الاختيار في حال صعودهم من موقع القوي المقتدر، فلا يجوز إشراع أبواب الاختيار على مصاريعها كلّها في حال أفولهم، ومن موقع الضعيف المسلوب، لأن في ذلك قياسًا فاسدًا، وكما يقول المناطقة والفقهاء: (فالقياس دائمًا … مع الفارق، والأحكام تختلف باختلاف الأحوال)!.
على أن ما لا يسع القارئ المحقق أن يغفله في كتاب الأسد، ذلك الإصرار على اعتماد مسمّى الدولة الغاصبة … إسرائيل! هكذا… دون هلالين أو علامات تنصيص، ودون صفات شارحة سابقة أو لاحقة مثل (الكيان الصهيوني)، وحيثما وردت في الكتاب! فهل نفهم من ذلك، أن الأسد الذي لم يبق سهمًا نافذًا إلا وأطلقه باتجاه قلب إسرائيل، يعترف بإسرائيل؟! أم هو الإثبات الذي يقصد به النفي؟ أم هو التجاهل لمسألة رآها الأسد أبسط من أن يُبْسط فيها الكلام؟
ها هنا يتبدّى لنا منهج الأسد، من حيث التفريق الضروري اللازم بين الإنكار والاستنكار، فالعالم البحاثة المحقق يفرّق تفريقًا لا مدخل للشك فيه بين خطورة إنكار الواقع المضاد الملموس المعاين المعيش مهما كان مؤلمًا أو مزعجًا وبين ضرورة استنكار ودحض وتفنيد مزاعم هذا الواقع المضاد. إن إسرائيل ومهما عنّ لنا أن نصفها به من صفات وأن ننعتها به من نعوت، هي حقيقة واقعة شاخصة وقائمة على الأرض، ومعرفتنا الواسعة بكيفية قيامها والوسائل التي اتبعت لفرضها، لا تلغي حقيقة أنها الآن، وفي عيون المحافل الدولية ومعظم أقطار العالم، دولة لها حكومتها وعلمها وجيشها ورعاياها، وبالتالي، فإن وصفها بدولة الاحتلال، أو بالكيان الصهيوني، أو وضع اسمها بين هلالين، لا يقدم ولا يؤخر على أرض الواقع شيئًا، بل قد يكون ضربًا من ضروب إنكار الواقع المضاد جرّاء الإصابة بصدمة نفسية أو ذهنية شديدة كما يؤكد علماء النفس. والأجدر بنا –كما يمكننا أن نستنتج- تسمية الأشياء بمسمّياتها، والعمل على تغيير الحقائق فوق الأرض ماديًا ومعرفيًا، بدلاً من انفاق الوقت في مماحكات وكنايات وتوريات لفظية تشغلنا بالشكل على حساب المضمون، وتقرّبنا من التشدّق، لكنها تبعدنا عن الدلالات والمعاني والمرامي البعيدة. ربما كان هذا بعض ما أراد أن يقوله الأسد، وربما كل ما أراد أن يقوله، دون أن يقوله صراحة، عبر إصراره على استعمال كلمة (إسرائيل). لقد أراد أن يلقن قارئه درسًا في التفريق بين الإقرار بالواقع المضاد، وضرورة رفض أطروحات هذا الواقع عبر التصدي لها وفق المنهج الواقعي العقلاني. ويبدو أن الأسد قد أضرب عن هذا الاستخدام (إسرائيل) بعد ذلك، وراح يطالب تلاميذه بأن يقولوا (فلسطين) ولا يقولوا (إسرائيل)؛ “فهذه أرضنا، وهذا مصطلح زائف، علينا ألاّ نخضع لتغريب أفكارنا، فالمصطلح أمرٌ في الغاية من الخطورة، لأن أعداءنا يسكّون المصطلحات كما يحلو لهم ليغرّبوا أفكارنا، ويضلّلونا، ويبعدونا عن قضايانا، فننسى فلسطين ونقول إسرائيل”!
*المضمون يستدعي الأسلوب
ويظل من الضروري أيضًا، التنويه بأسلوب الأسد في هذا الكتاب، فقد لازم الوضوح في اللفظ والمعنى، وأعني بذلك أنه توجّه بهذا الكتاب إلى السياسي والاقتصادي والمثقف والقارئ الجاد، وليس إلى الأديب أو اللغوي المتخصِّص، فجاء معجم خطابه منسجمًا مع موضوع الكتاب، من حيث الميل إلى الإيجاز والتقرير غير الجاف والمباشرة الحاسمة الحازمة، وهو –لعمري- معجمُ الخطاب الذي يفضله السياسي والاقتصادي والمثقف العام على غيره من معاجم الخطابات الإنشائية الحافلة بالمحسنات البديعية والتوريات والكنايات. ولولا أنني أخشى أن يساء فهمي لأضفت: أسلوبه في هذا الكتاب أقرب ما يكون إلى أسلوب التقارير والمقالات الصحفية المرموقة الرصينة! ومع ذلك فإن الكتاب لم يخل من لمحات الأسد وخطفاته التي اعتادها تلاميذه وقرّاؤه في مباحثه الأدبية واللغوية المتخصصة، ومنها على سبيل المثال قوله: (فالحوار لم يكن قط مجديًا بين الذئب الذي كان في أعلى النهر عند منابعه والحَمَل الذي كان في أسفله عند مصبه)! ومنها أيضًا قوله: (أليست مصلحتنا المشتركة التي تفرض علينا ذلك، فكيف لا نعمل على تحقيقها لنقوى بها من ضعف، وننهض بها بعد طول عِثار؟)! ومنها إصراره على جمع شِعار على شُعُر وليس على شعارات! ومنها كذلك قوله: (فإن آفة الحديث أن تُقطّع أوصالهُ، وأن يؤخذ منه جزءٌ دون جزء، فيحكمُ عليه من خلال ذلك الجزء. وإني لأرجو أن يؤخذ هذا الحديثُ متكاملاً، وأن يردَّ آخرُه على أوِّله فيجمعا معًا، فالحديث أحيانًا ينسي بعضُه بعضًا)!
ولعل من حسن الختام، التنويه أيضًا بجرأة الأسد بخصوص عدم التحرّج من استعمال الألفاظ الأجنبية على سبيل المقابلة مثل (الانتقال= Transfer) و(الطرد= Expulsion) أو ترجمة العناوين مثل: (صراع الحضارات= Conflict of Civilizations) أو شرح المصطلحات مثل: (الثقافة أو الحضارة اليهودية المسيحية=Judeo-Christian Culture or Civilizations )، فضلاً عن الإحالة إلى العديد من المراجع الإنجليزية. وهي جرأة تحسب لسادن العربية وحارسها الأعزّ، في زمن توهم معه بعض دعاة التعريب أن الجرأة تتمثل في استبعاد اللفظ الأجنبي من المكتوب العربي مهما كانت الأسباب، ولكن … أين هؤلاء الدعاة من الأسد حين يزأر قائلا: (وينبني على ذلك أن نسمّي الأشياء بأسمائها بصدق وإخلاص، دون زيف ولا مجاملة)!!!