Labor day .. عندما يخذلنا الحب

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات -الفيلم القائم على رواية أدبية، لابد وأن يتمتع بقدر أدنى من الدهاء الذى يمكنه من التفوق على النص الأدبى المقتبس منه، إنه حق مشروع يجوز له أن يتطلع إليه، بعكس الإعتقاد الشائع الذى ينسب السبق دوما ودائما للأدب حالما تتناوله الصورة السينمائية، ويُرجىء إخفاقها إلى ذات المعتقد، جانحا إلى التعميم واللاتروى فى الحكم، متغافلا عن عدد من الأفلام التى تفوقت على نصها الأدبى، ومُسهبا فى تجاهل الأسباب الحقيقية لفشل هذه المادة الفيلمية عن مجاراة سطور كاتب الرواية.
وفيلم labor day من الأفلام التى لم أزعم بتفوقها على نصها الأدبى، وإنما أغالى فى الإشادة بدهائها الملحوظ فى خلق عالم موازى، من الواضح أنه يطوى داخل جعبته كافة المشاعر التى تبوتقت فى سطور الرواية، وبالوقت ذاته يتروى فى استغلال سلاحه المرئى، فيقفز متفوقا على التوصيفات الأدبية مهما نبغت. فالمخرج “جيسون ريتمان” يتعامل هنا بنضج، وبمنتهى الوعى فى توظيف لقطاته ويجيد استخدام حدسه صوب الرواية التى تحمل نفس الإسم للكاتب ” جويس ماينارد” .
أزمة أنثوية خاصة
يقبض سيناريو الفيلم ببصيرة على الحالة التى تطرحها الرواية، يُجسدها فى تورية قوية الأثر، يحاكيها فى هدوء فلا يفتعل صداها. إنها معاناة هذه المرأة التى فقدت أكثر من جنين لها بعد مولودها الأول، فى نذير لحتمية إكتفاءها به أبدا، عن كل شىء من ضمنه زوجها الذى هجرها هلعا من سوء الأوضاع التى آلت إليها مرارة فقدها.
تكمن براعة السيناريو، فى كونه هضم حالة هذه المرأة جيدا، ووعى لكون مشكلتها الحقيقية تكمن فى طبيعتها الإنسانية الشغوفة، والتى بدورها هشة تجاه أهون المحن أو أكبرها، مما يعرقلها عن تجاوزها، ويتوقف بها حبيسة عتباتها. لم تقوى أديل “كيت ونسلت” على هزيمة ظروفها نتيجة لتركيبتها، استسملت للسيىء فأتى الأسوأ، فقدت أجنّتها ومن ثم هجرها زوجها، ومن بعدها لازمت المنزل، واعتزلت العالم.
القوة الكامنة بداخل هذه السيدة، تسلتلزم شخص آخر إلى جانبها، يحثها على المضى قدما، وبالتأكيد هذا الشخص لم يكن زوجها، الذى أعترف لإبنه فى نهاية الفيلم بأنه لم يتقن مجاراة أمه الحالمة التى تنتمى لحالات الحب وعالمه الرهيف، فهو ببساطة على حد قوله لم يكن ليرغب سوى فى حياة طبيعية. وعلى الصعيد الآخر لم يتم خزل أديل فى ملاقاة رغبتها الدفينة فى العيش بحب وكفى، وإنما بقيت وحيدة تحيا مع ابن لا حيلة له، وجسد مُثقل كهيل شاخت روحه .
علاقة الإبن بأمه
الصغير هنا لا يعى كل هذه التعقيدات، ولكنه ينتبه لوحدة أمه ويشعر بعذابتها الداخلية، يحاول بكل جهده أن ينفى عنها كل هذه العزلة، ولكن محاولاته جميعها تبوء بالفشل. وحينما يأتى هذا الغريب إلى المنزل (السجين الهارب الذى يطلب مساعدتهما فى التستر عليه) يجد أمه تتبدل فى سلاسة، وبقدر ملحوظ من الإنسيابية تخرج من الشرنقة المقيتة التى التزمتها. فنجده مرتبكا، محملا بنظرة مزدوجة من التربص والفرحة، الأمان والذعر، الإستقرار والتيه. وقد أجاد الولد التعبير عما يجيش فى صدره، وأفلح فى أن يحتوى داخل عينيه كل هذه الأحساسيس الفوضوية.
ثمة صراع آخر يخوضه الإبن فى معايشته لأمه، فهو يشعر طوال الوقت بمسئوليته المفرطة عنها، لدرجة تدفعه أحيانا لمواعدتها كرجل كبير ومنحها بعض سعادة الرفقة. كل هذا ينفى عنه طور مراهقته التى بدت وأنها على أبوابها، فبات يغلق عليها صدره، وكأنها عالما سريا لابد وأن يتنحى عنه، وحينما يقربه يقبل عليه إقبال اللصوص. يتضح هذا فى المشهد الذى يحاول فيه الإطلاع على مجلات الكبار أثناء تسوقه فى السوبر ماركت مع والدته. وفى مشهدا آخر يتذكر فيه حديث والدته معه عن الجنس، فنراه يهلع من الإستغراق فى تفصيل الموضوع، ويهرب من إقتحام والدته لأسراره. بينما بعد مجىء الغريب، تنفرط حبات العقد التى شدها الصبى حول عنقه، وكاد يخنق بها فطرته، فنراه يتسع بمخيلاته الجنسية التى تبات أنضج وأكثر جموحا.
علاقة الأم بالغريب
سر هذا التآلف السريع بين الإثنين، أن كل منهما يشبه الآخر، كل منهما يعتمل بين ضلوعه نفس الشغف صوب الحياة، ونحو الشريك الآخر. فهذا الهارب سبق وأن عاش حياة تعيسة، لأنه اقتسمها مع الشخص الخطأ، تعرض للخيانة بمعناها المادى والمعنوى. خزلته رغبته فى العيش تحت ظل الحب، وخانته زوجته بالفعل. إذا فهو الآن فى مكانه الصحيح أمام أديل، وقد نفذ إليه عبقها الدفين فى وقت هيّن لا يتعدى يوم، إضطراب الوضع فيه كان أقوى من القدرة على التعارف أو التدقيق.
من بعد مشهد غاية فى العذوبة، تمتد فيه كفوف فرانك “جوش برولين” لتغمر أديل فى رغبة وحميمية وحنو، كـ دلالة على مصارحة ما تتم بينهما بما يبادله كل منهما للآخر. يختفى أى مشهد يرصد هذه العلاقة بشكل صريح، تتبدى فيه المحادثات التى تجمعهما واضحة، ويظهر التلامس أو الفعل الجسدى بينهما بيّن . وإنما إختار السيناريو أن يبعد التفاصيل عن مرمى النظر، ويتناولها بعيون الصغير وإدراكه، فنستمع إلى جمل مقتطعة يسترق إليها السمع، ونرى نصف صورة لخلوتهما يرمقها على عجل، وإلى تقارب موحى يقومان به أمامه. هذا كله أثرى من وقع هذه العلاقة، عمّق من قدر التفاهم الذى يجمعهما، وأبرزهما وكأنهما عالم منفصل مستقل بذاته له سحره وغموضه. وعلى الجانب الآخر، ساهم فى تجسيد ما يجيش فى نفس الصبى، وفخم من شعور الغُربة الذى يواتيه حينها.
علاقة الصغير بالغريب
لم يكن ثمة العديد من التفاصيل التى تخص هذه العلاقة، وهنا تكمن المفارقة، فبرغم ندرة ما إختص فرانك به هذا الصغير، إلا أنه كان سببا فى قلب مستقبله رأسا على عقب، وقيادة شخصيته ومصير حياته بأكملها فيما بعد، فبفضل الشطيرة التى علمه صنعها هو ووالدته، أصبح يمتلك مطعما كاملا يشتهر بإعدادها، وبدا متحملا المسئولية فى علاقاته العاطفية على مستواها الشكلى والمضمونى. فوجود فرانك فى المنزل لمدة أيام عطلة عيد العمال، كان يدلل على وجود الكثير من القوة البدنية والمعنوية، وقد ركز السيناريو على العديد من الأعمال البدنية التى قام بها فرانك، والتى علمها للصبى وعلى ما يبدو أنها علقت فى تكوينه وتعاملاته مع الحياة، إلى جانب إحساس الدعة والمرح الذى وفره لهم سواء فى لعب البوسيبول، أو صنع الشطائر. وعلى الرغم من أن كل ذلك شاطره الغريب بين الأم وابنها، إلا أن الإبن هو من انتفع به وطوعه لخدمة حياته بوجه أكبر، بينما اختفت الأم من نفسها وتقوقعت داخل ذاتها، حتى عودة فرانك من السجن، فهى كما أوضحنا من قبل .. لا تملك زمام قوتها إلا بوجود شخص يقوى على مشاركتها شغفها.
مناطق تميز الفيلم
الفيلم هنا ينقلنا إلى أدق تعقيد فى الرواية على الرغم من عدم قراءتنا لها، فحرص فى سرده على التنميق الذى أودى إلى إكتمال المعانى على إستحياء، لم يهدر كل طاقته فى فضح كل شىء، وإنما تعامل فى خبث مع الصراعات، كشف منها الضرورى والذى ينحو إلى توضيح الصورة دون إبتذاله.
هذا إلى جانب طريقته المحكمة فى السرد، والتى إختارت بحذق مواضع الفلاش بلاك، توظيف الموسيقى، اقتحام بعض اللقطات المعبرة عن المعنى الذى يقال (اللقطات التى تجسد يد أديل وهى ترتعش أثناء ممارسة أبسط الأشياء) . هذا كله يجعل الفيلم فى مكان جيد جدا من نصه الأدبى، حتى وإن لم يتفوق عليه، فهو نجح فى خلق حالة خاصه به. أتقنت استخدام عناصرها المرئية، وتمكينها من القبض على عنق المعنى وتطويعها فى تلقائية.
آخر كلمتين: