أشهر أوصافه لم تكن أشهر مواهبه

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

*عبد الغني طليس

يكاد لا يعرفه أحد. ولولا انه كان من وقت إلى آخر، يحضر في بعض المناسبات الثقافية أو الفنية لمرّ جورج جرداق في الحياة الصحافية والأدبية اللبنانية من دون أن «يتعذب» بمعرفة أحد أو «يعذّب» أحداً بمعرفته!

كان في متن الحياة الفنية ناقداً، وفي متن الحياة الثقافية والأدبية شاعراً وباحثاً ومفكراً، وفي متن الأغنية اللبنانية مؤلفاً، وفي متن المهرجانات المسرحية أيام عزّ البلد وفنانيه الكبار كاتباً أحياناً، وإذا أردت الآن أن يتذكّره بعض الذين كانوا مثله حاضرين وناشطين، وفي مستوى عمره وتجربته، لَحَكَم الجميع بأنه كان… ولم يكن. كان موجوداً وفاعلاً ولم يكن موجوداً ولا فاعلاً! كانت كلمته تهز الأرض ولم تكن كلمته تهز شعرة من مكانها. كانت له سطوة ولسان سليط ونكتة جاهزة في الوقت المناسب، لكنه كان كما يدخل ندوة أو مسرحية أو مناسبة معينة يخرج منها بأقل قدر من إثارة الأنظار. كان ضد أن تكون عليه الأنظار، وإذا حصل و«كَمَشْتَهُ» للسلام عليه، فقط للسلام عليه، كان يختفي فوراً وراء صوته المتهدِّج المجلجل، ووراء عينيه اللتين لا تخبران شيئاً عما في داخله، لا لأنه باطنيّ أو لا يُظهر ما يُضمر، بل لأنه يكون مشغولاً بشيء ما في رأسه، ويكون السلام عليك أعجز من أن ينتشله من حيث هو.

كان شاعراً، ولم يحدث أن انتبهنا إلى ان له أمسية شعرية في مكان. وكان ناقداً ولا نتذكر أنه «صعد» إلى شاشة تلفزيونية ليدلي بدلوه في أي موضوع فني. وكان مفكراً في «الإمام علي» و«الثورة الفرنسية» على الأقل، وأصدرهما في كتب عميقة شيّقة في أفكارها المختلفة التي لا تستوحي من أحد بل تطلع هي بالجديد، ولم نعرف يوماً أنه تصدّر ندوة أو ترأس مهرجاناً أو تبوّأ موقعه على منصة، وكان جرداق بحّاثة في شؤون البلدان وشجونها على طريقة ابن بطوطة، وأحياناً على طريقة ابن المقفّع (عندما يضجر من الإنسان!) وله جائزة مَن يضبطه بلقطة تذكارية جدية إلا ما كان من حيث لا يدري الرجل. وهكذا. كان جورج جرداق متعدداً متنوعاً، واحداً في اهتماماته وطاقاته وفنونه رغم التعدد والتنوّع.

يخجل بعض المتعددين المتنوعين (إذا وجدوا!) من أن يُحسبوا في صفوف الفنانين إذا كانوا، مثلاً، شعراء، أو أن يكونوا مفكرين في صفوف مؤلفي الأغاني، أو أن يكونوا نقاداً في صفوف الصحافيين، أي صحافيين، لكن جورج جرداق لم يخجل من أي مهنة أو موهبة أو تجربة خاضها بكل ما يملك. ولعل أفضل ما يميزه هو أنه كان يعطي أفضل ما يملك في كل موقع كان فيه، ولم يكن يهتم بالمواقع بقدر اهتمامه بالمادة التي يعطيها. كان «مسؤولاً» عن المادة الصحافية حتى آخر لحظة، وما كان يبدو لنا أحياناً أنه تكرار أو إعادة أو مراجعة لماضٍ وكلمات وأفكار في كتاباته، كان «زيادة» في التبليغ، و«زيادة» في جعل المعرفة عامة، و«زيادة» في إمتاع القارئ، وكان أجمل ما في هذه «الزيادات» أنها عن كبار في الحاضر وكبار في التاريخ العالمي، ويرى جرداق أنه مسؤول عن إيصال بعض ما وقعت عليه عينه من أفكارهم ومواقفهم إلى الأجيال.

ومن يظن أن قصيدته «هذه ليلتي» التي غنتها أم كلثوم قد غرّته أو جعلته ينسى أنه ناقد، مخطئ. فبعد «هذه ليلتي» بشهور عدة أنشدت أم كلثوم قصيدة «أغداً ألقاك؟» فَمَسَحَ جرداق بها الأرض ـ كما نقول بالمحكية ـ معتبراً كلامها (للهادي آدم) ولحنها (لمحمد عبد الوهاب) من أهبط ما غنت السيدة في حياتها. هذا هو جورج جرداق، لا قوة تستطيع إسكاته عن قول ما يراه حقاً، ولا صحبة تمنعه من العدل.

وكان جورج جرداق ساخراً: أشهر أوصافه لم تكن أشهر مواهبه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى