(التعديل الوراثي في شعر الحداثة): البحث عن النص المخصّب

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات – احمد الخطيب -تحتاج الحركة النقدية في أيامنا هذه إلى ناقد يخلخل السائد، ويطرح به جانباً، ويغامر في إقامة علاقة تشابكية تشاركية بين النص الإبداعي المنقود والنص النقدي، من حيث تشكيله للمصطلح النقدي الرؤيوي الجديد المستنبط من عملية الخلق الإبداعي الذي لا شبيه له إلا في سياق ما هو امتداد طبيعي لهذا الخلق، مصطلح تتقاطع فيه حيوية التكوين والابتكار درءاً للوقوع في براثن التكرار والاتكاء والإشادة والهجوم، من أجل تقديم نص نقدي يسبح في ملكوت النص كذات تتشكل ضمن معايير النص الإبداعي، لأن اللافت للنظر في الحركة النقدية العربية، باستثناء القليل من المحاولات الجادة، لم تتجاوز مرحلة تحليل النصوص، المرحلة التأسيسية التي يتعلّمها الطلاب على مقاعد الدرس.
من الكتب القليلة التي وقعتُ عليها في هذه الأيام، كتاب « التعديل الوراثي في شعر الحداثة» لمؤلفه الشاعر د. محمود الشلبي، الصادر مؤخراً عن دار اليازوري في عمان، والذي يساهم في زحزحة النمطية النقدية، ويخرجها عن درسها الأول، بحثاً عن آليات عمل نقدي جديدة تأخذ من حيوات متعددة ما يساعد في فهم العملية الإبداعية وبنيتها.
الكتاب الواقع في «159» صفحة من القطع الكبير، والذي ذهب فيه المؤلف إلى استقصاء العملية الإبداعية وتحوّلاتها في الشعر العربي، وجعل مادته التطبيقية تتجه إلى الشاعر الراحل محمود درويش، بصفته أكثر الشعراء تمحوراً حول مادة الكتاب ورؤيته، وباعتبار نصوص درويش نموذجاً تتوافر فيه عناصر التعديل والحداثة، التي أراد أن يقدمها المؤلف بصفتها التجديدية، كإيقاع نقدي يتعامل مع التحولات الجينية التي طرأت على النص الشعري العربي، بعيداً عن الدرس النقدي السائد، حمل في صفحاته ما يمكن أن نعتبره تجديداً في العملية النقدية ومساحات اتصاله مع النص الشعري العربي.
يرى د. الشلبي أن هذا الكتاب بدءا بالعنوان الموسوم ب» التعديل الوراثي في شعر الحداثة( محمود درويش نموذجا) حاول أن يطرح رؤية اجتهادية لمفهوم الشعر الحداثي وعلاقته بالبنية الوراثية للشعر العربي، ومدى الإضافة التي يمكن لشعر الحداثة أن يحققها حاضرا ومستقبلا مستفيدا من مفهوم الهندسة الوراثية.
ومن اللافت أيضا للنظر في هذا الكتاب أنه تتبع الحامل الوراثي الذي يعد العنصر الفاعل في التشكيل، واستنطقه، وتعامل معه بصفته القادر على التخصيب، حيث استطاع المؤلف وعبر تقنيات قرائية واعية أن يصل إلى الحدود العليا لعمل الجينات وأثرها في تشكيل النص المولَّد، وتحفيزه للثابت للخروج عن ماهيته إلى دوائر التحوّل، كون النص الشعري لا يقف على قدم واحدة، بل يمضي في ممايزة الأجنحة التي تحقق له العلوَّ والانقطاع عن الثبات.
من هنا تنبع أهمية الكتاب، من دورانه في ميكانيكية التخصيب وانشغاله بما وراء ما يقدمه الحامل الوراثي لتحفيز التعديل الذي ينتشل الصورة والحركة من تقوقعها الزمني، واللغة ومدلولات مفرداتها واتجاهاتها من تصورها القاموسي، ليتجه بها إلى تجديد محطات التجربة وإنباتها على مساحات التحوّل في رحلتها إلى تأسيس النص المخصّب.
كتاب « التعديل الوراثي في شعر الحداثة» للشلبي، الذي اشتمل على «آفاق نظرية، بدايات التحول ومظاهر التعديل، بيان شعري، قراءة تطبيقية في شعر محمود درويش والتي عاين فيها المؤلف التعالقات النصية، تحولات النص وتجلياته، أبنية القصيدة، الغنائية السردية، الغنائية الدرامية، الغنائية الملحمية، الغنائية التأملية، النص الموازي، شعرية اللغة وجماليات التعبير، الصورة والإيقاع، الثقافة والتكنولوجيا» عاين أثر الحامل الوراثي على هذه المفردات وتشكلاتها وتحولاتها وما يضيفه هذا الحامل من صفات جديدة متعالقة مع الموروث ومنفتحة على الحداثة، كما عاين مقدرة درويش ولعبته الفنية في تعشيب النص وتخصيبه.
بقي أن نقول أن هذا الكتاب يؤشّر بوضوح على أهمية أن ينأى النقد عن الاستطراد في تتبع آليات النقد الخامل، وأن يسعى إلى الإفادة من حقول المعرفة المتصلة بفعل الوجود وكينونته ومفرداته، ويواكب العملية الإبداعية كونها تقوم على الابتكار والتجديد، وهما عنصران أساسيان في عملية التحوّل الذي يحتاجه كلّ عصر، ويرفضان الثبات، لأنّ في الثبات موات الأشياء واندثارها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى