الحولة «المذبحة» … صرخة بصرية – راشد عيسى

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي
اختير أحد ملصقات الفنان والسينمائي السوري فارس خاشوق لإدراجه في أحد كتب المناهج الدراسية الفرنسية، ويصور فيه الرئيس السوري بشار الأسد واقفاً أمام عدد من الأطفال يخفي وراء ظهره ساطوراً.
العمل يحمل عنوان «الحولة، المذبحة»، وقد استحق صفحتين من كتاب الصف العاشر، في درس يدور حول اللغة البصرية واستخدامها في التعبير عن الأحداث السياسية المعاصرة، ويتناول التركيب البصري للملصق بعناصره المختلفة، كما يتضمن لمحة عن سيرة حياة الفنان المولود في حمص.
الفنان قال لـ «القدس العربي» «الخبر لم يكن مفاجئاً لي، لأن دار النشر الفرنسية «هاشيت» تواصلت معي منذ عدة أشهر، وأبدت رغبتها باستخدام البوستر في الكتاب المدرسي. سألوني حينها إن كنت أقبل، وما قد أطلبه بالمقابل لحقوق النشر، طبعا أجبت بالإيجاب، وقلت إنني لا أريد مقابلاً مادياً. بعد ذلك بأسبوع عادوا للتواصل معي وطلبوا مني صورة شخصية لوضعها ضمن الكتاب. أرسلت الصورة فعلاً، وأنا ابتسم في كل مرة أفكر فيها أن صورتي ستظهر في كتاب مدرسي، وأتخيل فيها الطلاب الفرنسيين يتسلّون برسم شاربين وأنف أحمر على وجهي خلال الدرس لطرد الملل. في النهاية كنت سعيداً جداً وراضياً عمّا وصلت إليه».
ويعتقد خاشوق أن ما رشّح هذا العمل بالذات للاختيار هو أنه «كان الأول ضمن مجموعة ملصقات مؤلفة من عشرة أعمال، ونشر مباشرة في موقع «الهفنتغتون بوست». الفكرة فيه شديدة الوضوح والبساطة والمباشرة، سهلة القراءة والفهم من المشاهد أياً كانت ثقافته ودرجة اطّلاعه على المسألة السورية. المشهد لا يحتمل التأويل؛ الجاني واضح والضحية واضحة. وضعية المواجهة الغريبة بين سفّاح يحمل أداة الجريمة من جهة، والأطفال من جهة أخرى.
مجزرة الحولة، التي أخذ الملصق اسمها، حدثت بتاريخ 25 أيار 2012 في قرية الحولة في ريف حمص، وكانت هي الشرارة وراء إنجاز العمل «كانت تلك المجزرة نقطة فارقة في مجرى الثورة السورية، انتقل العنف فيها الى مستوى آخر جديد، شبيه بأسوأ الكوابيس؛ أطفال مذبوحون، سكاكين وسواطير، غرباء يأتون في الليل، وما إلى ذلك من صور تشبه قصص الرعب الخيالية أكثر من الواقع. هذه الصور شكلت صدمة للجميع، وكانت كافية لتحريك ردّ فعل لدي، جاء على شكل عمل فني، تلتْه مجموعة كاملة».
ولدى سؤاله عن تفاصيل عمله على الملصق عموماً، بمن يفكّر أثناء التصميم، ولمن يتوجه، ما آلية عمله، قال خاشوق « أتعامل مع الملصق كما أتعامل مع أحجية تحتاج حلّ. الوقائع تطرح معطيات، أو حدثاً معيناً، وعليك اختصاره برسم بسيط دون أن يفقد معناه. على المشهد أن يكون واضحاً وصارخاً كأحداث الثورة السورية. هنا تكمن الأحجية؛ إيجاد التركيب الغرافيكي المناسب، بأقل عدد من العناصر، وتطويعه ليروي الفكرة، دائماً بنفس الأسلوب، ببساطة ووضوح».
وتابع الفنان يتحدث عن دور واضح للملصق يتوخى التأثير المباشر «من الضروري هنا استخدام لغة غرافيكية مقروءة من قبل جميع الجنسيات والثقافات، لأن الملصق هنا ليس عملاً فنياً بحتاً، أي لسنا في مجال الفن من أجل الفن، هو هنا أداة تواصل بصري، صرخة بصرية، مطلوب منها أن تصل لأكبر عدد من الناس، وأن تستمر عبر الزمن كأداة توثيق لمرحلة أو لحدث بعينه».
وتحدث الفنان عن الكيفية التي غيّرت الثورة فيها أسلوب عمله وموضوعاتك وتوجهاته، قال «الثورة لم تغيّر في أسلوب عملي فحسب، بل غيرت كل مفهومي للحياة؛ علاقتي بالناس، بالطبيعة، مفهوم السعادة والحياة المترفة، الطموح المهني. أستطيع القول إن الثورة السورية، إن لم تعط ثمارها على مستوى الوطن بعد، فهي منحتني الكثير على المستوى الشخصي».
لكن كيف يتصرف مصمم الملصق السياسي حيال تقلبات السياسة اليومية في البلاد، وهل يجد نفسه معنياً، كمصمم وفنان، بمتابعة هذه التطورات والبناء على أساسها، يقول خاشوق «بلغ العنف في سوريا وما حولها مرحلة سريالية، الصور المسجلة خلال الصراع في المنطقة، خصوصاً مع دخول داعش في مزاد الفظائع، تعد نقطة تحول في تاريخ توثيق الصراعات، لا أعلم مدى الجدوى المباشرة لعمل فني هنا أو هناك، لكن ما هو متأكد منه أنه علينا ألا نتوقف عن تسجيل ما يحدث بكل الوسائل فنية كانت أو توثيقية بحتة، فالتاريخ وأولادنا سيحاسبوننا إن لم نفعل».
ملصقات ما قبل الثورة
هذا التكريم الرفيع لملصق سياسي سوري يدفع للبحث والسؤال حول تجربة الملصق السياسي السوري عموماَ، وفيما إن كان هناك تجربة واضحة المعالم. الفنان التشكيلي تمام عزام قال لـ «القدس العربي» «لا شك أن الملصق السياسي قد احتل حيزاً واسعاً ضمن فضاءات التواصل الاجتماعي خلال السنوات الثلاث الماضية، وذلك لم يكن موجوداً حتماً في المشهد السوري قبل ذلك، باستثناءات قليلة لملصقات منير الشعراني ويوسف عبدلكي في الثمانينيات من القرن الماضي. لكن الكثافة التي ظهر فيها البوستر السياسي في وقتنا هذا، كانت شكلاً جديداً ومختلفاً للتعبير والإدانة».
يؤمن عزام أن الملصق السياسي تجربة مستقلة، ويشير إلى أنها موجودة في قلب أعمال تشكيلية عديدة «لا شك أن البوستر السياسي فن مستقل يمتلك أدواته المباشرة للدلالة على الحدث تماماً، ولكن بالمقابل ظهرت شريحة واسعة من الأعمال الفنية التي تمتلك في بواطنها كل الدلالات السياسية دون الإشارة المباشرة، ولعل ذلك يبدو بشكله الأميز في أعمال عمران يونس، ياسر صافي، عبد الكريم مجدل البيك، قيس سلمان، فادي الحموي، علاء حمامة، إيمان حاصباني، وأسماء كثيرة جداً، إذا أردنا أن نتحدث عن التأثير السياسي على شخصية الفنان ضمن إطار فني خالص».
ويضيف عزام «في المقابل اشتغل عمران فاعور، فارس خاشوق، وسام الجزائرلي، مصطفى يعقوب، وأيضاً أسماء أخرى كثيرة على فكرة البوستر السياسي المرتبط مباشرة بالحدث». ويختم بالقول «التأثير السياسي الاجتماعي لا شك يلقي بظلّه على الفن، وخاصة إذا ما كان شكل هذا الحال السياسي قد وصل الى هذا المستوى من السفالة. لابدّ من فنون كثيرة ومختلفة في شكلها لمقاومة عصر الانحطاط هذا».
يبقى أن نقول إن الرأي العام المتردد في أوروبا والعالم تجاه النظام السوري، لأسباب عديدة، من بينها فوبيا الإسلاميين، يمكن أن يتغير مع الأيام بفعل الفن. لا شك أن أوروبا تبني أجيالاً ستكون الصورة لديها أوضح وأصفى لما يجري. مع ملصق سياسي بهذا الوضوح يمكن أن نتخيل ما سيكون عليه طلبة الصف العاشر بعد سنوات، هذا وحده سيحدد أي مستقبل ينتظر النظام.