بعدَ أن يشتدَ البردُ في باريس وبغداد وإسبانيا

الجسرة الثقافية الالكترونية

قيس مجيد المولى 

 

لم يشفع الشاي لأفكارها المشتتة وسوحها في الماضي العقيم رغم أنها وضعت إسطوانة فرانك سيناترا على الحاكي بنفس الوقت الذي علقت فيه جوارب شال إزنافور على مقبض النافذة، فقد بقي الضوء يبحث عن عتمة كي يكون مفتونا بنفسه، رغم برق الإطلاقات النارية من المدافع القديمة والتي أذابت الأجزاء العلوية من الثلوج التي تساقطت طوال ديسمبر/كانون الأول، وكان النفاذ قد بدأ من اللون الأزرق ثم تدرج بنفس اللونية نحو البحر وهناك كان الأفق مجديا لو اكتسى الداكن من السواد.

 

تهيأت ورمت قفازيها، ثم رمت حاملة الألوان المائية، وفكرت بشيء جديد وهي تحتسي الشاي وتكتفي بالنظر الى علبة السكائر.

 

كانت يداها تتناوبان الحراك ما بين وجنتيها وعندما لا تصلها الفكرة المطلوبة فإنهما يتناوبان الحراك بين صدغيها بشيء من الشدة للتأثير على الرؤى المتناقضة في وضع الاختيار المناسب للطائر الذي لازلت الألوان ممسكة بجناحيه.

 

لقد علمتها المدرسة الفرنسية طرائق مختلفة للتعبير عن الإغتراب والتعبير عن الجنس وكذلك عن الأمل وعن الموت ومن خلال ترحالها في بلدان المجاعة والتجوال بقطاراتها المنهكة وباصاتها العارية وهي إذ تكتشف بدائل عن موجوداتها السالفة، فلا شك أنها ستصل لفكرة جديدة عبر التراب والدخان والأحياء البوهيمية والحانات ومطاعم الدرجة السابعة بروادها أصحاب القوارب وقطعا مع القردة والفيلة ومع أسلاف المهراجا ومع مُرقصي الثعابين ونافخي النيرانَ من الأفواه وهي تُقرب مخيلتها من أناملها.

 

لتضع طائرها في المكان المناسب، تذكرت شاربيّ سلفادور دالي، وأكواخ فان جوخ، وملامح الملك في العملة الإسبانية، ولأنها أيضا مولعة بالسينما ولكي يكون اشتغالها مكتملا مع بداياته فقد تذكرت مدافع نافارين وساكو فانزيتي، واليد التي امتدت لساقيها في ظلام مقصورة سينما بابل، كانت الحاجة الى الأفكار تدفعها للمزيد من التذكر، وما أن تنتهي من التذكر البصري حتى تنتقل الى تذكر ما قرأت من الغراميات المُكَدرَة وما قرأته من مذكرة مشوه الحرب جيرميا سانت آمور.

 

أضيئت الإستراحة بعد عرض مقدمة فيلم الأسبوع القادم وما أن عم الضوءُ الصالة إلتفتت خلفها فوجدته يبتسم ويفرك لها يديه ويُلمح لها برغبته بتكرار خطيئته.

 

مضت الثلوج بالتساقط بكثافة، وبكثافة تساقطت من مخيلتها الأجواءُ اللامفيدة، وعم الظلام الصالة من جديد، في حين فاحت رائحة الخمر من الرجل الذي كان قد مد يديه لساقيها خلال عرض مقدمة الأسبوع القادم.

 

كانت الفكرة الأولية أن ترسم جنودا متحاربين بلا سيقان بعد أن قُطعَت سيقانهم وظلت أنصافا فوق الثلوج وتحتها، وأن تأتي بالنبيذ بدلا من الدم خاصة أنها كتبت آخر رسالة لخطيبها الذي أحبَ فلوريا مانتاني بعد نصيحة من زميلة لها في السوربون خلال عرض عسكري في باريس للجنود المعاقين العائدين من الحرب.

 

لم يشفع الشاي لأفكارها المشتتة وسوحها في الماضي رغم أنها وضعت إسطوانة فرانك سيناترا على الحاكي بنفس الوقت الذي علقت فيه جوارب شال إزنافور على مقبض النافذة بعد أن اشتد البرد في باريس وبغداد وأسبانيا ورحلت الطيور عبر المحيطات في رحلة نادرة وراء النائحات ثكالى الحروب من فجر التاريخ ليومنا هذا وبقي الضوء في عتمته وبقيت هي منذ عشرين عاما بين الشاي وعلبة السكائر وما قرأته من مذكرة مشوه الحرب جيرميا سانت آمور.

 

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى