تلك الكتب حيّة!

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

زينب سرور

 

تلك الكتب الّتي تقبع خلف الكتب مثيرة.

حتّى اللحظة، لا جديدَ في الصّورة. أمورٌ مُعتادة. باتت مملّة من كثرة التّكرار. حتّى ذاك الرّجل القابع في تلك الزّاوية لم يُبدّل هيئته. على مرّ السّنين حافظ على عادته الغريبة في تثبيت شعره إلى الخلف. حتّى شعيراته البيضاء كأنّما ثابتة في عددها لا تتزايد.

لا إثارةَ في المشهد. امرأةٌ لا يعرف العمر طريقاً إلى وجهها. متسمّرةٌ في مكانها، عاماً بعد عام. تُساعد الكلّ على اختيار الكتب.

«خذ هذا». «أنصحكَ بذاك». «هذا الكتاب لم يُعجبني، وأظنّ أنّه لن يعجبك أيضاً». «هذا الإصدار غيّر حياتي». وتكرّ السّبحة. لهجتها آمرة، أسلوبها فظّ، فأبتعد عن المكان في «معرض بيروت العربيّ الدّوليّ للكتاب».

على تلك المنصّة سيّدةٌ تُكرّر المكرّر. تُعيد تذكير الجميع بأهمّيّة الكتاب. تهمّها الزّاوية الّتي ترصد الكاميرا وجهها منها أكثر من اكتراثها لمضمون الحديث.

«تُهندس» سُترتَها قبل الشّروع بالتّصوير.

«لحظة. لحظة، خدني بروفيل، بطلع أحسن من فاس». تقولها للمصوّر. تبدو على الأخير أمارات الملل. يُريد الانتهاء من «جوقة المعرض» والعودة إلى المنزل.

أمورٌ جدًّا مملّة.

هناك، مُدرِّسةٌ تصرخ. تسوق تلامذتها خلفها. تسعى إلى «رصّ صفوفهم». كصفّ العسكر تجول بهم بين أجنحة المعرض ودورها. تحمل بين يديها لائحةً طاولة. هذا الجناح زيارته ضروريّة. زيارة ذاك مسموحة. هذه الدّار «غير مُحبّذة». أمّا تلك، فممنوعة. هي تختار «المناسب»، وتبتعد عن «المحظور».

يتذمّر التّلاميذ، فتنهرهم.

«دجاجةٌ وصيصان». يقولها أحدُ المارّة. حتّى التّعليقات لا ابتكارَ فيها.

أتابع جولتي في المكان وعيني تبحثُ عن «جديد». لا أفقد الأملَ سريعاً. أُدرك جيّداً أنّ من بين التّفاصيل غير المُلاحظة يخرج الإبداع.

أقترب من الدّار «العاجقة». حتّى زحمتها باتت مُعتادة، وبشدّة. لا أعلم ما الّذي يشدّ الجميع إلى تلك البقعة. أسعارها؟ لا أظنّ. فالأرقام فيها عاديّةٌ جدّاً. نوعيّة الكتب فيها؟ ربّما، ولكن ليست وحدَها من يملك نوعيّةً جيّدة. رُبّما هي الأغاني الّتي تبثّها. ربّما هي الطّريقة الّتي تُرمى بها الكتب بلا مبالاة. اللامبالاة تجذب الجميع. يتعدّى الأمر هذا السّبب وذاك. أغلبُ الظّنّ أنّ تلك «الهالة» هي الّتي تنده على الكلّ فيقتربون. ربّما هي مجرّد «عدوى».

«عاجقة»؟ فلندخل. على الأرجح هناك شيءٌ مهمّ، لو لم يكن كذلك لما تجمّع النّاس فيه». هكذا تسري الأمور.

وكما الكلّ يفعل، أدخل إلى المكان.

في المكان الصّغير تدافعٌ كبير. طبعاً لا يشتري الكلّ الكتب. بعضهم يأخذ صورة «سيلفي». آخرون يطالعون الكتب و «النّساء» ثمّ يخرجون. البعض لا يجد مراده، فيتذمّر، ويغادر المكان.

وما زالت الصّورة مملّة..

ما تحت الكتب

من «البضاعة المفلوشة» على الطّاولة الكبيرة أقترب. في المرحلة الأولى، لا أرفع كتاباً من مكانه. تلك مخصّصةٌ لمطالعة ما هو مرميّ عبر النّظر. الطّبقة الأولى غير مثيرة. مملّة. مكرّرة. أليس هذا هو الكتاب الّذي كان منذ عشر سنوات؟ لِمَ لا يزال هنا؟ أَيُعقَل أنّ أحداً لم يستهوِه المحتوى؟ حتّى الخربشة على غلافه الخارجيّ هي نفسها. حتماً هو الكتاب عينه.

أنتقل إلى المرحلة الثّانية. أمرّر يدي على محتويات الطّاولة. أبدأ بنبش الطّبقة الثّانية من الكتب.

«تعلّم الإكسل في عشر دقائق»؟ هل ما زال أحدٌ يشتري كتاباً حتّى يتعلّم أصول العمل على برنامج «الإكسل»؟ يتبدّد الاستغراب. «دليلُك إلى الفرنسيّة»؟ حقّاً؟

أصعّد «النّبش». ألجُ الطّبقة الثّالثة. «أشعار الحبّ إلى الحبيب». «نكتٌ خاصّة برسائل الأس أم أس». جيّد. هناك من يرغب حقّاً بهذا؟ خُصّصت طاولة في معرضٍ سنويٍّ للكتاب لهذه الأمور؟ بعيداً عن التّهكّم، هل يشتري أحدٌ نوعا كهذا من إصدارات 1995؟ رُبّما، لا أحد يدري.

لسببٍ غير مفهوم، شعرت بالإثارة من تفاهة المحتوى. رُبّما هو عمليّة «النّبش» نفسها. بطريقةٍ لا إراديّة، أنتقل إلى «ستاندٍ» مجاورٍ لها. أمرّر ناظريّ على محتوياتها، ويداي مسدلتان نحو الأسفل بسبب امتلائهما بـ «غبار الطّاولة». في الواجهة، تتكرّر الكتب. عاماً بعد عام، تُعيد إنتاج نفسها. كيف تتكرّر الكتب في الوقت الّذي تشهد الدّار هذه الزّحمة سنويّاً؟ يجب أن تختفي الكتب من المكان كاختفاء الطّعام خلال غزو الجراد. يجب أن تُؤكل أكلاً.

الطّبقة الخارجيّة من الكتب مملّة، فهل يُعقل أن تكون الطّبقة الثّانية هكذا أيضاً؟ أنظر إلى جانبي بحثاً عن أحدٍ يغوص في الطّبقات الثّانية من الإصدارات كما أفعل فلا أجد. هل الأمر ممنوع؟ حتماً لا!

بحذرٍ شديد أمدّ يدي. أسحب كتاباً من «الواجهة» وأضعه جانباً. أسحب آخر. أكرّر العمليّة حتّى أتمكّن من رؤية «الدّاخل».

يكثر الغبار. ينتابني شعور من يبحث عن كنزٍ في جزيرةٍ نائية. هنا تتصاعد الإثارة. أرى شيئاً غير المعتاد. في البقعة المخفيّة كتبٌ لم تمسسها يدُ الرّوّاد.

ما سرّ «الأمور المخفيّة»؟

كتبٌ تاريخيّة. اقتصاديّة. روايات مهمّة. أسماء لامعة. في المكان كتبٌ عن التّجارب العربيّة الاشتراكيّة. آخر لكاتبٍ أميركيّ يُحلّل «ظاهرة حزب الله» في لبنان، ويتوقّع تماديها في المنطقة. أتابع عمليّة «النّبش».

بقعة «الستاند» تحوي على كتب مهمّة لم تمسسها يدُ أحد. قديمة. صفراء. سعرها مقبول، مائلٌ إلى الانخفاض. الطّلب عليها ليس كبيراً. لكنّها «مثيرة».

في القسم المخصّص للّغة الفرنسيّة يتكرّر السّيناريو وتزداد معه الإثارة. يداي اكتستا بالكامل غباراً، ولكن في حضرة الإثارة يختفي التّذمّر. «أنبش» الطّبقات التّحتيّة للقسم الّذي لا أجيد لغته. وعلى الرّغم من ذلك، أشعر برغبةٍ شديدةٍ في المتابعة. أطالع الصّور. أقلّب الصّفحات. لا أفهم شيئاً. أسأل مَن إلى جانبي معنى العناوين. لكنّني لا أتوقّف.

ما السّبب في ذلك؟ هو حتماً في عمليّة «النّبش» داخل الكتب المخفيّة.

حقّاً تلك الكتب حيّة. حقّاً تلك الكتب الّتي تقبع خلف الكتب مثيرة.

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى