جميل ملاعب «حفّار» الذات والذاكرة الجماعية

الجسرة الثقافية الالكترونية-الحياة-

يختلف معرض الفنان جميل ملاعب، المقام لدى «غاليري جانين ربيز»، عما سبقه من معارض كانت أُقيمت للفنان في الغاليري نفسها، أو في أمكنة أخرى، إذ أُفرد هذا المعرض للمحفورات المنفذة وفق تقنية الـ «كيلوغرافيا»، أي ما يمكن أن يسمى بالعربية «المحفورات الخشبية»، التي تعتمد اللوح الخشبي أساساً لطباعة العمل الغرافيكي.

خلال سيرته الفنية المستمرة منذ عقود من السنين، اجتمعت لدى جميل ملاعب تجارب وخبرات، في مجالات الفن والحياة على السواء، استندت إلى دراساته ورحلاته وعمله كأستاذ في معهد الفنون الجميلة. ولكن، ورغم كل المؤثرات التي يمكن أن تنتج مما سبق ذكره، بقي ملاعب متمسكاً بجذوره، وفياً لها، بالقدر الذي أن نتاج الفنان، في مجمله، محاولة لبلورة صلة الوصل بتلك الجذور وتأكيدها، وإذا لم يكن لهذه المحاولة نتائج مباشرة على الدوام، فهي تبقى حاضرة من خلال التأويل والرمز، ومن خلال الأعمال المعلّقة في المعرض، الذي نحن في صدده.

«غرام» جميل ملاعب بالمحفورات ليس حديثاً أو طارئاً. يضم المعرض محفورات تتوزع على الفترة الزمنية الممتدة منذ عام 1980 وحتى العام الحالي 2014. قد يكون من الصعب ذكر موضوعات هذه المحفورات في كليتها. استغرقت المهمة جوزف طراب، الذي وضع كتاباً يحيط بالمعرض، أسطراً عدة كي يسرد تلك الحفنة من المفردات، أو الازدواجيات القلائقية: الكون والحجر، الليل والنهار، الجبل والبحر، الواقع والخرافة… وبطبيعة الحال مسألة الجذور والانتماء، الآنفة الذكر، وما يتصل بهما من مشاهد تضم رجالاً ونساء وأطفالاً وحيوانات ونباتات يمثلون، مجتمعين أو منفردين، نمط الحياة الريفي، والمديني أحياناً.

هذه المفردات المتعددة تتجاور في أعمال الفنان، تتشابك، تتفاعل، وقد تتصارع أيضاً، ضمن منحى تأليفي يحدد، أحياناً، الأساسي ويبرزه على حساب التفاصيل، التي تصبح جزءاً فيه: راحة يد تملأ فضاء اللوحة، وتساعد تقنية الحفر على الخشب في تبيان خطوط تلك الراحة، من بصماتها الحلزونية إلى أخاديدها الأشبه بأخاديد الأرض؛ نسر ذو جناحين منبسطين عمودياً يلتقط عصفوراً مسكيناً، ثعلب مخادع التقط بدوره ديكاً مستغيثاً… بعض تلك الأعمال مونوكورمية بالأبيض والأسود، وقد نرى نسخة من العمل نفسه يتدخل فيه الأصفر الليموني. أما الشجرة الواقفة في مهب الريح، المائلة وفق اتجاهها، فالعصافير التي تتمسك بأغصانها حمراء اللون، تأبى مفارقة ملاذها المتأرجح، رغم قدرتها على الطيران بحرية مطلقة.

أعمال غرافيكية أخرى نجدها في المعرض هي أشبه بأشرطة سينمائية، وهو نمط اعتمده جميل ملاعب اكثر من مرة. أعمال تروي حكايات الأرض والعمل والنشاط الإنساني وحركة الطيور، تمتد عمودياً في الغالب كمخطوطات قديمة، تستعير من الزخرفة بعض مقاماتها، مع ما يفرضه النظام الزخرفي من تكرار متعمد. لكن هذا التكرار ليس حرفياً بالكامل، كما يمكن أن تنخدع به أعيننا للوهلة الأولى، عبر المعاينة اللحظوية المباشرة، إذ إن حركة خفية تنهض من تلك الرسوم، لتضيف ديناميكية معينة إلى العناصر المكوّنة للعمل. هذه الحركة المضمرة نراها في محفورات عدة، استلهم بعضها، ربما، الجداريات الفرعونية التي مثّلت مشاهد من حياة المصريين القدماء والتي أُلصقت بها تهمة الجمود النسبي في بعض المواضيع، علماً أن هذا «الجمود» قد يعبر عن شعور الاستقرار والدعة لدى فراعنة وادي النيل. شخصيات جميل ملاعب تعتمد، بدورها، التمثيل الجانبي للقامة البشرية في معظم الأحيان، وتكون حركة الأيادي وأجزاء أخرى من الجسد البشري دليلاً على طبيعة العمل الذي تمارسه الشخصيات، أو على طبيعة المناسبة، أو الذكرى، أو الحديث، في شكل عام.

وبما أن الحرب، وما يتصل بها، كانت شكلت حيزاً من تاريخنا، فإن تصوير آثارها لا يغيب عن لوحات جميل ملاعب. في عمله المسمى «قنبلة» نلحظ خطين حمراوين سميكين يتقاطعان في وسط اللوحة، وكأنها لحظة انفجار يؤدي حدوثه إلى تطاير أجزاء بشرية متقطعة. أما في العمل الذي عنونه «رحلة الكارثة»، المنفذ خلال الفترة الزمنية ذاتها، فنرى سيارة محطمة، مفككة ، وقامة نسائية تبدو وكأنها تغادر مكان الحدث متلحفة غطاء أبيض يخفي وجهها والجزء الأعلى من قامتها. آلهة الحرب حاضرة أيضاً في لوحة أخرى، وهي عبارة عن قامات تتخفى الواحدة منها وراء الأخرى، ويؤدين جميعهن رقصة تشبه رقصة آلهة الهندوس، بحيث تنطلق الأيادي والأرجل في اتجاهات عدة، وكأننا بها تتلاعب بمصائر البشر، وهي تدوس، هنا، بأقدامها أطفالاً وكائنات بشرية أخرى، في حفلة الجنون الذي عرفناه جيداً، وما زلنا نرزح تحت ثقله وعبثيته، في حين يعاني نتائجه الآن، بلد مجاور لبلدنا، تلتهمه نار الحرب المدمرة… بلا هوادة.

الداخل إلى معرض جميل ملاعب، والمتجول في أنحائه، سيرى نفسه محاطاً بصفحات ورقية ترسم سيرة ذاتية – جماعية، تختلط فيها مشاهدات الفنان الكثيرة مع أفكاره وتهويماته وانفعالاته، ويمتزج ضمنها التاريخ بالمكان والرؤى مع الأحلام والذكريات مع المأساة… وهذا ما شهده الفنان، أو عاشه، أو ساهم في صنعه خلال مسيرة امتدت فترة من الزمن ليست بقصيرة، شاء جميل ملاعب أن يمارس عبرها فعله في التشكيل، فتلك هي المهمة التي قُدر له أن يؤديها، وهو قادر على ذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى