ذهبتُ إلى “هُنــا ” (1) / ابراهيم جابر ابراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
قلتُ لحالي : لم يبقَ وقت. أوشكتُ على ما ينتظرُني. وصارَ عَلَيَّ أن أذهبَ هذا “المشوار” المؤجل منذ حوالي خمسين سنة، فمن المخجل “أكملتُ أقول لحالي” أن تقابل الله وأنتَ لم تقابل بلادك قبل ذلك ولو مرَّةً واحدة أو تعرف وصفها !
كنتُ، مثل ملايين غيري، حلمتُ بهذه الطريق حين كانت مستحيلةً، وتخيَّلتُني آلاف المرَّات أقطعها ماشياً أو راكضاً أو طائراً، شاباً أو عجوزاً، وحيداً أو وسط عائلةٍ ممتدةٍ وسعيدة، لكنَّه حين صارت “السُلطة الفلسطينية” في أوائل التسعينيات، وصار بإمكاني كأي مواطن عربي (!) أن أحصل على تصريح “زيارة”، أصابني العناد وقلتُ لا، لن أذهب “زائراً”، ليس لأني أملك أملاً كبيراً بأنني سأذهبُ “عائداً”، فأنا ممَّن أصابتهم الواقعية باليأس، ولكن لأني لا أريد أن أخرج من فلسطين “نازحاً” مرتين، على الأقل كنتُ في الأولى لم أكمل التسعة شهور، وربما لم أحسّ بالأشواك في قدميَّ في طريق الأغوار، لأنني كنتُ رضيعاً محمولاً على أكتاف أهلي الذين قطعوا الطريق حفاة تحت قصف الطائرات الى عمّان، ..أمّا الآن ، حين سأخرجُ ثانيةً، فسأكون “نازحاً” على قدميَّ الشخصيتين، وباختياري، وكأنّني أعيدُ تصوير حصّتي من المأساة، لذلك لن أذهب، وبقيت لحوالي عشرين سنة مصمّماً أن لا أذهب !
لكنني الآن : لم يبق لي وقت. وأوشكتُ على ما ينتظرُني.
فقلتُ لأصدقائي هناك: نعم، صرت مستعدّاً . سأجيء !
.
هاتفني شاب ضاحكٌ وسعيد بلا سبب، ودعاني بصفته مدير “متحف محمود درويش” إلى رام الله، وقال لي وهو يحاول أن يكون رفيقاً بي مثل طبيب يخبر أعمى أنه سيتعرض بعد قليل لمحنة البصر، وعليه ان يكون مستعدّاً، “ستكون ضيفنا في فلسطين”. لم أحسّ بشيء حينها !
لم احفظ اسم الرجل، لم أفهم الدعوة، لم أعرف ما معنى ذلك كلّه، ولم يرُق لي هذا الرجل الذي لم أفهم أسباب سعادته !
وقفتُ مصدوماً ومرتبكاً أحاول تفكيك الأمر الى اجزائه العظيمة والبسيطة؛ ثم عدتُ أتصل على هذا الرقم، فتفهَّم الرجل ارتباكي، وأعانني عليه، وفهمتُ أن اسمه “سامح خضر” وانني مدعو الى بلاد اسمها “فلسطين” !!
كان الأمر صعباً، وبقيتُ لأيام أطردُ الفكرة من رأسي، وأؤجل الاحساس بها ما استطعت، فما زال هناك حوالي ثلاثة أسابيع للسفر، وانا لا أريد أن أصدّق ما يحدث، لأن التصديق يعني ان أحسّ، وأنا ما زلتُ لا أحسُّ بشي !
لستُ سعيداً، ولا حزيناً، وحين أردّ على كثيرين سألوني بماذا تشعر: أقول لا أشعر بشيء. فيلوون وجوههم استهجاناً أو يدارونها اشفاقاً علَيّْ.
ثم مرَّةً واحدةً شعرتُ بحاجتي لبكاءٍ هائلٍ وطويل. أغلقتُ بيتي عَلَيّْ وبكيتُ حتى بلَّلتُ قميصي. بكيتُ وأنا أعدُّ موتاي أو قتلاي الذين كنتُ أحلم ان أذهب معهم، أو كان عليهم أن يذهبوا معي، هذا “المشوار” المؤجل منذ خمسين سنة.
ثم جلستُ أفكر، وصار لديَّ مئة سؤال أريد ان أسألها للرجل السعيد مدير متحف محمود درويش، الذي حين دخلتُ إلى صفحته على “فيسبوك” اكتشفتُ أيضاً أنه شاب وسيم ويضحك في كل الصور، لكنني خجلتُ من الاتصال اللحوح، ورحتُ أتخيَّلُ هذه البلاد التي للتوّ دعتني لزيارتها: كيف يذهبون اليها ؟
هل هي جبل يصعدونه كالحجيج ؟ سهل يركضون اليه ؟ ما شكل شوارعها ؟ وهل ينام الناس هناك أم يبقون واقفين طيلة الليل احتراماً لاسم البلاد ؟
وهل يمشون فوق ترابها بالأحذية، وهل سيكون عليَّ أن أُسَلِّمَ عليهم واحداً واحداً حين أراهم ؟