ذهبتُ إلى “هُنــا ” (7) / إبراهيم جابر إبراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص- 

 

ماذا يفعل رجلٌ عاد الى بلاده في الصباح الأول !

هل يقدم اعتذاره عن هذا الغياب الذي امتد نصف قرن ؟ كلُّ ما حولي هنا يشعرني بأنّني ضيف. لو كان حاكم هذه البلاد شاعراً لأمر بإقامة قرية صغيرة من عدة بيوت، على النمط الفلسطيني القديم، ووضع فيها أثاثاً من الستينيات، وبضع أغنام ودجاجات في الحوش، وطابون خبز. تكون فقط لإقامة الفلسطينيين العائدين للزيارة. الذين ليس بإمكانهم المكوث. ذلك لأنهم جاؤوا بمهمَّة واحدة هي : استعادة الذاكرة !

وهذا غالباً ما يصنعه الأطباء لفاقدي الذاكرة؛ أن يضعوهم في المناخ الذي يساعدهم على التذكّر.

أريد ان أرى البلاد كما تركتُها !

لم أحضر الى هنا لأذهب الى “مول” أو “مطعم خمس نجوم”، لا يمكنني أن أبكي على باب “مول”، وانا جئت لأبكي !

نزلتُ من السيارة في احد شوارع “رام الله” بحجة أنني أريد شراء “علكة”. في الحقيقة كنت أشعر بجفاف في فمي. لكن السبب الحقيقي أنني كنت أريد فقط أن “أتفرَّج” على دكّان فلسطيني.

لم يخطر في بالي قطّ ما حصل هناك. كان شيئاً طبيعياً جدّاً لكنَّه لم يخطر ببالي قبل أن ادخل الى الدكّان : أعطيته ديناراً أردنياً فأعاد لي الباقي قطعتي عُملة معدنية بيضاء لا أعرفها !

أصبتُ بالفزع الشديد ولم أمدَّ يدي لآخذها، لم أتوقَّع ذلك من قبل ولم يدر برأسي. لم أستطع ان ألمسها.

نعم لقد دخلتُ من بوابة يديرونها هُم، وفتشوني هُم، وهُم مَن أذن لي بالدخول، أعرف. لكنني لا أستطيع أن أن أمارس هذه التفاصيل الحميمة ؛ مثل أن أضع عُملتهم في يدي، أو في جيبي، لاحقاً تعرضتُ لهذا الموقف مرَّتين، في إحداهما مددتُ للبائع قطعة من المحارم الورقية فوضع العُملةَ فيها، وفي الثانية قدَّمتُ كيس الأغراض ل”الكاشير” فأسقطَ النقود فيه، وفي المرَّتين بدا الأمر بشكل عادي ولم يلفت انتباه البائع، وبقيت تلك القطع النقدية في الكيس، مثل حشرات سامَّة، أصحو في الليل في غرفة الفندق لأنظر للكيس الملقى على الكنبة، واطمئنُّ أنها لم تخرج لتلدغني.

لاحقاً وفي منطقة الجسر، حين سافرتُ من البلاد، ألقيتُ الكيس بهدوء ودون أن ينتبه أحد، في منطقة ترابية، مثل أمٍ ترمي خلسةً بين الشجر كيساً تقيأ فيه طفلها. 

ربما بدا الأمر مثل تفصيلٍ صغير، لكنَّ التفاصيل هي التي كانت تقضُّ هدأتي وتنغِّصُ عَلَيّْ ؛ التفاصيل التي لا ينتبه لها أهل البلاد: كأن أرى عبارة بالعبرية في مكانٍ ما، أو أرى الجنود على الحاجز حين ذهبتُ الى مدنٍ أخرى فأكتشفُ أنهم صِبيةٌ صغار ربما لم ينهوا الثانوية منهمكون في اللعب بهواتفهم، هل يحتلُّ بلادنا جيشٌ من الأولاد ؟! أو أن أرى سيارة مستوطن تتجاوز سيارتنا بعنجهية، أو أن أسمع صديقاً يوضح أمراً لآخر فيضطر لاستخدام مفردة عبرية، وهذا ما دفعني لأن أتهرَّب بعد تردّدٍ كبير من ثلاثة عروض مغرية قدَّمها لي أصدقاء مشفقون لتهريبي الى أراضي ال 48.

كنتُ أريدُ بشدّةٍ أن أذهب، وأوشكتُ، ولكنَّني تراجعتُ في المرّات الثلاث لنفس السبب، أو لنفس السببين: أولُّهما انني لا أريد أن أكون في مكانٍ كل ما فيه اسرائيلي، اليافطات، أسماء الشوارع، المارَّة، البنايات، الباعة، السوَّاقين، الضجيج العبري، وثانيهما أنني أريد ان أحتفظ بالجزء الأكبر من الحلم. أريدُ أن أظلَّ أحلمُ بشيءٍ ما !

ربّما كان من الصعب ان أشرح ذلك، حتى أن أحد الأصدقاء غضب واعتقدَ أنَّني أستخفُّ بدعوته. كيف كان يمكنني ان أشرح له: إنَّني هنا لأنَّني أشعر بأنَّ هذا الجزء من أرضنا سيعود بالكامل، ربما ما زال الأمر معقَّداً، لكنَّه آخر الأمر سيصير لنا. أمَّا هناك فسيكون الألم أكبر من قدرتي على التحمّل، كيف تريدني أن أقف أمام ” النعاني”، وأتذكَّر ما قاله أمل دنقل :

” كيف تنظر في عيني امرأة

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟

كيف تصبح فارسها في الغرام ” !

لو ذهبتُ الى ” هنا” الكبيرة، “هُنـا” التاريخية، كنتُ سأحتاج الى كيس قيء كبير، لن أقوى على حَملِه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى